هي أمريكا بنفس تفكيرها وزعمها القديم الذي بات قديماً ومتخلفاً بلغة المعاصرة في محاولتها اليائسة للسيطرة على مفاصل الحركة والنشاط والنظم السياسية في بلدان الشرق الأوسط، وهذا السعي الذي يمكن توصيفه بالفشل المستدام كلف وسيكلف الولايات المتحدة الأمريكية التي ستتفكك يوماً ما بحكم قوة قراءة التاريخ، هو سعي خائب ولا يقارب الصواب أبداً لأن أمريكا دائماً تعتمد على إدارة ترى المشاهد السياسية والاجتماعية في بلدان الشرق الأوسط من خلال ملفات وحزم اقتصادية فقط، ولغة الأرقام والبيانات الاقتصادية عادة ما تستخدم الرسومات والمؤشرات التي تؤمن بقاعدة الهبوط والارتفاع إلا أن صلافة وتعنت الفكر الأمريكي جعلتها لا تقرأ المشهد السياسي والاجتماعي بنفس المنطق وبذات القاعدة.
ظلت الولايات المتحدة تقيم وتدشن مؤتمرات وتدعو لندوات من أجل الديموقراطية وهي لا تدرك أن مصر الفرعونية صانعة الأيديولوجيات الديموقراطية والاشتراكية والرأسمالية وغير ذلك من الطروحات الفكرية التي صدرتها لدول العالم بعد ذلك، وأخذت أمريكا جاهدة في تدويل قضايا العولمة الخاصة بمدلولها السلبي فقط من خلال عقد دورات ومشروعات وبرامج تنموية شاركنا فيها جميعاً بغير وعي أو إدراك أو دراية من أجل تدريب العاملين في قطاعات التعليم والصحة والصناعة والمياه، وهي في ذات الوقت كانت تسعى إلى خلق ثقافة جديدة مغايرة لطبيعة المصريين وفي سبيل ذلك ضخت أموالاً طائلة من أجل تكريس ثقافات مغايرة ولتمهيد الناشئة لتقبل عولمة أمريكا ومجاورة سلمية مع الكيان الصهيوني.
وأمريكا التي استفاقت منذ أكثر من عامين على ربيع عربي أشبه بالعاصفة أسقطت معها كل الأنظمة الاستخباراتية التي طالما أرهقتنا بقوتها وجودتها وكفاءة القائمين عليها، ومشكلة الإدارة الأمريكية أنها تقيس أداءها الداخلي بنفس معطيات ثقافة المواطن الأمريكي وما يمكن أن توجهه من خلال حزمة من السياسات والبرامج التي لو تم تطبيقها على مواطن الشرق الأوسط لنالت نفس النجاح ولحققت النتائج المتشابهة مع الواقع الأمريكي، لكن بلدان الشرق الأوسط وتحديداً مصر التي تنفرد بمزايا استثنائية لا يمكن أن تنجح فيها أو معها السياسات الأمريكية التي تستهدف خنوع المصريين لمصلحة الكيان الصهيوني، وأن فكرة بث مفاهيم وافدة تتعلق بمجالي التعليم والصحة لاسيما الإنجابية باتت بالفشل لأن عقيدة المصريين الثقافية ضاربة في الأزل وغير قادرة على استيعاب مفاهيم تزلزل منظومتها الثقافية.
ويمثل دعم الإدارة الأمريكية لبعض منظمات المجتمع المدني صورة من صور التغلغل الثقافي والاجتماعي في بلدان الشرق الأوسط، وعن طريق المشاركة الثنائية بينهما تم عقد مئات الندوات وورش العمل تحت دعاوى الديموقراطية وتعضيد الدولة المدنية من أجل تعزيز بعض المفاهيم الغربية التي سعت الإدارة الأمريكية في تكريسها وإكسابها لبعض طوائف الشعوب العربية، ورغم هذه الجهود التي لم تهدأ يوماً إلا أن شعوب الربيع العربي كل يوم تصفع وجه هذه الإدارة من جديد.
الغريب والمثير في أمر الإدارة الأمريكية أنها سعت منذ سنوات تحديداً قرب إسقاط دولة مبارك ونظامه العتيق لتدشين مبادرة تدريس اللغة العبرية في مدارس جمهورية مصر العربية الحكومية والخاصة، وكلنا يذكر محاولات السفير الإسرائيلي السابق شالوم كوهين للضغط على وزير التعليم الأسبق الدكتور يسري الجمل والذي خرج من الوزارة بصورة استفزازية، أو كما يطلق الأمريكيون على مثل هذه الأحداث الغريبة abnormal، لاعتماد اللغة العبرية كمادة دراسية في المدارس المصرية الخاصة والحكومية. باعتبار أن مدارسنا المنهارة تعليمياً وأخلاقياً وأكاديمياً منذ سنوات بعيدة قد أجادت وأتقنت وأحسنت رسالتها المنشودة، فبات من الضروري إكساب الطلاب والتلاميذ لغة تل أبيب التي يلتقطون بعض كلماتها مثلي من خلال مسلسلات وأفلام المخابرات المصرية.
ولقد دعم السفير الإسرائيلي شالوم كوهين وقتها كلامه بأن اعتماد تدريس اللغة العبرية كمادة دراسية في مدارس مصر المحروسة سيؤدي إلى تضييق الفجوة بين وجهتي نظر أطفال الدولتين نحو الآخر، لا سيما وأن هؤلاء الأطفال هم الذين سيصبحون شباباً ورجالاً بعد فترة وجيزة من العمر بفضل الهموم والأعباء الاجتماعية والاقتصادية التي سيكابدونها إن شاء الله، بالإضافة إلى أنه حينما يدرس الطفل المصري اللغة العبرية ستمحي لديه آثار العداوة والبغضاء نحو نظيره الطفل الإسرائيلي. بل ربما سيأتي اليوم الذي يستقبل فيه الأطفال المصريون نظراءهم الصهاينة بالورود والياسمين في رفح أو في ساحة مطار شرم الشيخ.
ومما لاشك فيه أن هناك مزيداً من المحاولات التي ستستمر كثيراً وطويلاً من جانب الحكومات الأمريكية والإسرائيلية بخصوص تطوير وتعديل المناهج في مصر بزعم أنها تنشط وتدعم التطرف والإرهاب والعنف، وأنه لا سبيل عن ضرورة تدريس اللغة العبرية في مدارسنا التي أصبحت مكاناً رائجاً هذه الآونة للتحرش الجنسي، والشذوذ غير المقبول من جانب بعض المعلمين نحو طلابهم، وهذه السلبيات وأوجه القصور لا تجعلنا نغفل دور الدكتور أحمد زكي بدر في مواجهة تلك النقائص التي تعتري مدارسنا التي من المفترض أنها تقدم الفضيلة لطلابها قبل المعرفة.
ورغم كل هذه الممارسات والسياسات الأمريكية والصهيونية لزعزعة الاستقرار الثقافي والاجتماعي في بلدان الشرق الأوسط وبخاصة مصر، إلا أن كافة المحاولات تبوء بفشل ذريع وجلي، وأن الأكذوبة التي ظلت لسنوات قابعة على عقولنا كأحجار الجرانيت بأن المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر تتحكم في سياساتها الداخلية من حياة مجتمعية وتعليم وصحة وثقافة شعب ما هي إلا فقاعة هواء تافهة، وكل الجهود الاستثنائية التي تمارسها أجهزة الاستخبارات الأمريكية في الشرق الأوسط وتحديداً مصر وما تتبعها من مؤسسات ثقافية وجهات تنموية ذهبت مع الريح، لأن الشعب المصري وجيشه في حالة وعي مستدام بأمنه واستقراره وهويته التي يموت من أجلها.
ولقد أسفر عن ممارسات التقصي الأمريكي في مصر تحديداً ما يسمى بالاحتراب السياسي الداخلي، ويشير هذا المفهوم إلى قدرة الإدارة الأمريكية وأجهزتها على إشعال الصراع السياسي بين الفصائل والقوى بصورة تؤدي إلى التناحر والتنازع بشأن الممارسات الديموقراطية من انتخابات برلمانية أو رئاسية أو أية أنشطة يمكن إدراجها تحت مظلة الإجراءات الديموقراطية. والشاهد على ذلك أن مصر اليوم في أحرج حالاتها السياسية نظراً لغموض المفاهيم السياسية نفسها، وأن الفصائل المتحاربة لا قاسم بينها ولا يوجد كتاب أبيض يمكن الاتفاق على كتابته من أجل مصالحة أو توافق أو بداية حقيقية وصادقة للنهوض من سبات هذه المرحلة، وحرج الحالة الراهنة مفاده أن بعض الفصائل مهمومة بفكرة الخروج الآمن أكثر من التفكير في مصلحة الوطن، والخروج الآمن مفهوم عسكري في الأصل يفيد أن ثمة أخطاء وقعت من طرف عسكري إزاء آخرين وهم يأملون عدم المحاسبة أو التضييق عليهم بعد سقوطهم في المعركة.
وعودة إلى الاحتراب السياسي المستدام منذ بداية ولاية الرئيس السابق محمد مرسي وحتى وقت الكتابة الراهنة، فإن ثمة علامات بالأفق السياسي تلوح بنهايات حتمية لا يمكن التخلي عنها أو فرض الغفلة والغياب عن تفاصيلها، لعل أبرز هذه العلامات هي دخول التيارات والفصائل الدينية لعبة السياسة التي طالما وصف قادة وأمراء هذه الفصائل السياسة بأنها نجسة ومن ثم كان دخولها اللعبة والاحتكام لشرائطها وقواعدها سقطة لا تغتفر مما جعلهم مدفوعين للتعامل بعلانية مع الإدارة الأمريكية التي طالما اتهمت على أيديهم بزعزعة الاستقرار في المنطقة وتنفيذ أجندات صهيونية لخدمة مصالح إسرائيل، ليس هذا فحسب، بل من العلامات التي لاحت بالأفق بقوة أن اختراعاً سياسياً استخدم طويلاً سُمِّي بالفزاعة الداخلية، وهو مصطلح استخدمه الرئيس السابق حسني مبارك ضد معارضيه في الداخل والخارج مع اختلاف الدلالة. وهذا المصطلح سقط بوضوح منذ خروج الملايين في الثلاثين من يونيو، حيث إن الإدارة الأمريكية التي ظنت كثيراً بأن جماعة الإخوان المسلمين هي الفزاعة الحقيقية التي كان يهدد بها الرئيس السابق مبارك حكومات الغرب لاسيما الولايات المتحدة وأنها البديل الاستثنائي له في حالة سقوط نظامه، ولقد جاءت فعلا مما دفع الإدارة الأمريكية إلى اللهاث خلف قادتها لعقد اتفاقيات وإبرام صفقات ووعود وعهود مثلما تفعل مع باقي الأنظمة الحاكمة في منطقة الشرق الأوسط، ولكن بعد هذا الخروج العظيم ضد استلاب الجماعة يوم الثلاثين استفاقت مجدداً هذه الإدارة على حقيقة تاريخية لا يمكن الالتواء بعيداً عنها بأن هذا الشعب عصي على الترويض والمغالبة.
وينبغي على العقلاء ألا يصدقوا ما تزعمه الإدارة الأمريكية بأنها تريد خروجاً آمناً لجماعة الإخوان المسلمين من قيادات وزعامات حزبية، ولا أنها صادقة بحق في حق الرئيس السابق محمد مرسي في إخلاء سبيله من محبسه غير الاختياري، وأخيراً ألا يؤمنوا بأن إدارة أمريكية يتحكم فيها اقتصاد صهيوني يسعى لمصالحة وطنية بين طوائف الشعب المصري وقواه السياسية المتناحرة حالياً، فتاريخها السياسي الضارب في الصفقات والاتفاقيات السرية كفيل بعدم تصديق مطامحها المعلنة والتي قد تراها هي مشروعة، وخير دليل على ذلك ممارساتها غير الديموقراطية في دولة العراق وأفغانستان ومساعيها التي لا ولن تتوقف عن عرقلة التجربة الإيرانية.
واليوم تبدو الولايات المتحدة الأمريكية متخبطة بعض الشئ؛ لأنها أدركت فقدان رصيد تاريخي لها في منطقة الشرق الأوسط، وأن التصريحات التي كانت تطلقها منذ سنوات مفادها دعم إسرائيل وأن علاقتها بهذا الكيان الصهيوني علاقة أبدية متينة في الوقت الذي كانت فيه معظم الحكومات العربية بل جميعها تدعي مساندة ومناصرة القضية الفلسطينية، لكن هذه المرة يبدو أن الشوارع العربية الممتقعة أعلنت رفضها الصارخ للتغلغل الأمريكي السافر في شئونها الداخلية من جهة، وكراهيتها لهذه المناصرة والتأييد المطلق لسياسة الكيان الصهيوني من جهة أخرى، الأمر الذي يقلق الإدارة الأمريكية ويجعلها تعيد حساباتها السياسية والاقتصادية في المنطقة. مما ترتب أيضاً على تعليق العمل بعدد من مكاتب السفارات الأمريكية في بعض بلدان الشرق الأوسط لعدة أيام تحسباً لأية هجمات محتملة على هذه المكاتب.
وها هي أمريكاً مجدداً تحاول ممارسة بعضاً من إجراءاتها التقليدية التي كشفتها الشوارع العربية الثائرة وهي إشاعة التوترات الأهلية بين أبناء الشعب الواحد، وهي بالطبع تلجأ لمثل هذه الممارسات من أجل وجود شرعي لها، لأنها من غير المنطقي تواجدها بصورة طبيعية في مناخ معتدل سياسياً ويمارس المجتمع فيه حقوقه الديموقراطية بغير وسيط أو قناة اتصال خارجية.
ونجد اليوم الإدارة الأمريكية بكافة مؤسساتها تدعو الحكومة المصرية في ظل الظروف التي لم تعد عصيبة فحسب بل شائكة ومائجة تموج بصراعات سياسية عميقة، للعجلة في تطبيق حزمة الممارسات الديموقراطية وتمهيداً لنقل السلطة من رئاسة وحكومة مؤقتة إلى رئيس شرعي دائم وحكومة شبه مستقرة، لذلك نجد دعوات من وزارة الخارجية الأمريكية ومن الكونجرس ومن السفيرة الأمريكية في القاهرة معلقة العمل لحين تولي السفير الجديد مهامه، حتى رئيس هذه الإدارة الأمريكية الذي نجده كل ليلة يطل علينا بمقولة تفيد ضرورة البدء في الإجراءات الديموقراطية من انتخابات رئاسية وبرلمانية، كل هذا يجعلنا نشير إلى أن هذه الإدرارة وأجهزتها الاستخبارية وصلت إلى نقطة فاصلة في عملها بشأن دول المنطقة العربية بصفة عامة ومصر قلب المنطقة وبوصلتها، هذه النقطة من أبرز ملامحها الغموض والتشويش، الأمر الذي يدفعها إلى ضعف استقراء المستقبل القريب لها وللكيان الصهيوني الذي تدعمه.
وأمريكا التي أطلقت منذ سنين مصطلح الفوضى الخلاقة لم تكن تفكر يوماً أن هذا المصطلح من الصعوبة تطبيقه أو تكريس مضامينه الخفية في وطن كمصر، لأن بياناتها المكرورة والمملة اعتادت أن الشعب المصري يعيش بمعدته قبل عقله وفراشه الذي ينام عليه أهم من حقوقه القانونية والدستورية، لذا فهي عمدت منذ إطلاق شعار الفوضى الخلاقة على دغدغة مشاعر وعقول وبطون المصريين بحياة استهلاكية تضمن لهم قدراً مؤقتاً من الرفاهية، واستيقظت منذ ثورة يناير وما تلتها من أحداث على حقيقة شعب لا يرتضي للفوضى أسلوب حياة وإن كانت هناك بعض التجاوزات لكنها من نتائج فلسفة الزحام.
وتجديد للتذكرة من أجل توعية أبناء شعب عظيم، فإن الإدارات الأمريكية المتعاقبة أصبحت تدرك أهمية العقل المصري الذي يفكر بغير إملاءات ويشارك برغبة حقيقية في البناء والتغيير، وبات لزاماً على طوائف وفصائل هذا الشعب العظيم أن يدرك خطورة أية تدخلات أجنبية في وقت تمر مصر فيه بعملية قلب مفتوح، وأن التكاتف والمصالحة الوطنية أكبر وأهم بكثير من إعلاء المصالح الفردية والنعرات الحزبية.