يتخذ الباحث السوداني (الكلمة) كمنبر عابر للحدود الجغرافية والرقابية على السواء، وسيلة لتقديم دراستين مهمتين للقارئ السوداني صادرتهما السلطات السودانية، وحرمت القارئ منهما. تتناول أولاهما إعادة انتاج التخلف في الاقتصاد السوادني، بينما تهتم الثانية بإرهاف الذاكرة السودانية في مجال دراسات علم الاجتماع.

الاقتصاد السياسي للتخلف

مع اِشارة خاصة اِلى السودان وفنزويلا

حامد فضل الله

يمثل هذا المقال خلاصة الكتاب الذي صدر حديثاً عن مركز دراسات الوحدة العربية\ لبنان، تحت العنوان نفسه. والمقال نشر في مجلة المستقبل العربي العدد 400 يونيو \ 2012 والكاتب د. محمد عادل زكي باحث متخصص في الاقتصاد السياسي من مصر. ونسبة لطول المقال، سوف يتم عرض الجزء الخاص بالسودان فقط. يتخذ الكاتب في اِطار "تجدد اِنتاج التخلف" نموذجين، أحدهما من أمريكا  اللاتينية (فنزويلا) والثاني من القارة الأفريقية (السودان)، وذلك على  أساس أن القارتين تمثلان التاريخ الأصيل للتخلف، والأرضية الخصبة لعملية تجدد اِنتاج هذا التخلف على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي. يعني الكاتب بالاقتصاد السياسي " ذلك العِلم الاجتماعي الذي يَنشغل بدراسة النظرية الكمية والنظرية الموضوعية في القيمة، والتناقضات التي تكمن فيها وتتطور على أساسها، أي تناقضات الظاهرة الاجتماعية مَحل البحث " ويحدده بدقة ووضوح بقوله "إنه ذلك الجسم النظري الذي نتج من نقد ماركس للرأسمالية، أي باعتبارها ما يندرج في الجسم النظري السابق على نقد ماركس (الذي أنجزه عظماء الفكر الكلاسيكي من أمثال آدم سميث وديفيد ريكاردو) تنظيراً رأسمالياً للرأسمالية نفسها.

ويقصد الكاتب بظاهرة التخلف الاقتصادي " تجدد اِنتاج التخلف" "عملية اجتماعية" ديناميكية في حالة حركة مستمرة، لا في حالة سكون وتاريخية فحسب؛ اِذ هي عملية اجتماعية من ارتفاع معدل اِنتاج القيمة الزائدة، بمفهومها الذي قصده آدم سميث وديفيد ريكاردو وماركس. يتناقض هذا الارتفاع في معدل انتاج القيمة الزائدة، نظراً اِلى كثافة استخدام عنصر العمل في الأجزاء المتخلفة، مع ضعف "آليات" اِنتاجها، نظراً اِلى ضعف التقنية. ومن خلال التناقض بين الارتفاع في معدل اِنتاج القيمة الزائدة وهشاشة آلية اِنتاجها، تتبلور ظاهرة تسرب القيمة الزائدة المنتجة داخلياً اِلى الأجزاء المتقدمة من الاقتصاد الرأسمالي العالمي المعاصر، من أجل شراء السلع والخدمات الأساسية التي تتوقف عليها شروط تجديد الاِنتاج. ويقصد بالاقتصاد السياسي للتخلف الاقتصادي، هو البحث في القوانين الموضوعية الحاكمة لظاهرة تسرب القيمة الزائدة، وشروطها الموضوعية، والبحث عن هذه القوانين والشروط.

ويرى الكاتب أهمية اِبراز التحديدات السابقة، بحيث أن المسألة قيد البحث وهي "تجديد اِنتاج التخلف" وأن هذه التحديدات تعد غير مألوفة، على الأقل بالنسبة اِلى النظرية الرسمية التي تتجاهل الظاهرة الرئيسية (تجديد اِنتاج التخلف)، وتذهب اِلى حيث أرقام خط الفقر، والاِحصاءات المتعلقة بالجوعى والمرضى، ومستويات الدخل، ونسب التضخم، وبيانات الاِفلاس والكساد، من دون أن تطرح السؤال المركزي التالي: لماذا تستمر حالة التخلف، وفي عالمنا العربي بوجه خاص، على الرغم من أن السبب الرئيسي لهذه الظاهرة، وهو الاستعمار، قد انتهى؟ الإجابة عن هذا السؤال تحديداً هو الاهتمام بتحليل ظواهر الصراع الاجتماعي والاقتصادي في كل من فنزويلا والسودان كنموذجين للبحث.

جدلية الصراع الاجتماعي والاقتصادي في السودان

يمكن للباحث السوداني أن يرصد ظواهر عدة في اِطار الصراع الاجتماعي والاقتصادي الراهن في السودان، أبرزها الانفصال والصراع في دارفور، من دون اِغفال الصراع في الشرق، واِمكانية دراسة هذه الظواهر من خلال الخط المنهجي، الذي يتكون من الخطوط الفكرية الآتية:
1- يتبدى الصراع في السودان على مستويين: شمال \ جنوب وجنوب \ جنوب، والمستوى الأخير هو أساساً صراع بين القبائل. كما يوجب الوعي، ليس فقط بالصراع بين الشمال والجنوب، واِنما كذلك بالصراعات الداخلية في الشمال نفسه، وتلك التي تدور في الجنوب نفسه.
2- لا يُمكن فهم الصراع من الأساس من دون الوعي بفكرة "القفص الكبير" الذي وُضِعت في داخله أعراق وثقافات وديانات مختلفة تمام الاختلاف، ثم أطلق عليه أسم السودان.
3- لا يتطور المجتمع  تطوراً خطياً، واِنما يتبدى التطور الجدلي للمجتمع السوداني بالنظر اِلي طبيعة الحركات المتصارعة  من خلال أداء متناقض لمصالح متناقضة، يمكن رؤيته في الكر والفر، الاِقدام والاِحجام، الهجوم والدفاع، النصر والهزيمة، العداء والمصالحة، التحالف والانفصال. فهذا التناقض، بما له من اِفرازات، هو الذي يدفع نحو التغير، أيا يكن نوع التغير.
4 – تبدأ العملية التاريخية الدامجة للسودان في الكُل الرأسمالي على الصعيد العالمي، وتهيئته كمصدر للقيمة الزائدة، ومن ثم فقد شروط تجديد اِنتاجه، مع دولة محمد علي، ومن بعدها بريطانيا، والدخول في عملية المراكمة الرأسمالية، الأمر الذي جعل السودان هدفاً رئيسياً من أجل الاستحواذ على مصادر هذا التراكم: المعادن، والعبيد، والغذاء وضمان ولاء نخبة معينة يتم صنعها لتضمن استمرار تدفق القيمة الزائدة  مع المعادن والخام والغذاء، حتى بعد الخروج من البلد، كما استصحب تقسيم المجتمع اِلى أجزاء غنية وأجزاء فقيرة.
5 - السودان دولة ذات موارد هائلة، يتركز معظمها في الجنوب. ومعنى انفصال الجنوب هو حرمان الشمال من تلك الموارد، وفي مقدمتها النفط.
6 – بسبب فقد السودان شروط تجديد اِنتاجه، فاِنه يعتمد، كأحد الأجزاء المتخلفة، على ما يحدث خارجه في الأجزاء المتقدمة، التي تتحكم في مصيره.
7 – يهيمن على المسرح الاجتماعي الاقتصاد المعاشي، أي الاِنتاج من أجل الحياة. والقليل من أجل السوق. اِلا أن سائر مناطق النزاع والتوتر تظل مناطق ذات اقتصاد معيشي، عدا بعض الأماكن التي شهدت استثماراً أجنبياً مباشراً في بعض المجالات، وأبرزها الزراعة وتربية الماشية وصناعات الألبان، مع مراعاة أن جُل المصانع وجميع المؤسسات العامة والسيادية والوزارات، والأجهزة القومية، والمصارف والشركات هي في الخرطوم، حيث السلطة والثروة.
8 – الاقتصاد المعاشي الذي يُهيمن على مجمل الحركة الاجتماعية هو أفضل ما يمكن بالنسبة اِلى النظام في العاصمة ؛ فهو الذي يمكن هذا النظام من تعبئة الفائض نحو المدينة، ثم من المدينة اِلى الخارج، ومن تسرب القيمة الزائدة، ثم الدولارات الأمريكية، ثم الأسلحة، ثم الحروب المفتوحة.
9 – يتبدّى الاِطار العام للاقتصاد المعاشي، الذي يتم من خلاله تعبئة الفائض (الزراعي) نحو المدينة، ثم إلى الخارج، محملاً بالقيمة الزائدة، كما ذكرنا، في أن ليس للسودان  أدنى  علاقة بالتصنيع، واِنما ينشط القانون العام في حقل الزراعة، ويكون على الفلاح أو العامل الزراعي، بعد أن يستقطع من المحصول ما يكفي لتجديد اِنتاج نفسه، أن يدفع  بالفائض اِلى النظام عن طريق علاقة تعاقدية غير متكافئة، تصب غالباً في صالح الطرف الأقوى: الحكومة.
10 – بمعاينة مجمل الوضع الاقتصادي السوداني، يتبين أن السودان دولة زراعية بالدرجة الأولى، ووسائل الاِنتاج المستخدمة في حقل الزراعة، جميعها أدوات أجنبية الصنع، اللهم  بعض الأدوات البدائية.

التصنيفات الطبقية

استند البناء الاجتماعي في السودان، منذ النشأة الاستعمارية، اِلى قاعدة سكانية متنوعة قوامها القبيلة، فقبائل عربية ومجموعات سكانية "زنجية" و "عربية" في دارفور وكردفان و "زنجية" خالصة في الجنوب. وفقاً للتصنيف الاستعماري البريطاني تم تقسيم المجتمع السوداني اِلى خمس طبقات متميزة:
أ – الشماليون: وهم جلابة الشمال، ويمثلون نحو 4 بالمئة من اِجمالي السكان، ويملكون السلطة والثروة، ويديرون الدولة، ويتحكمون في الطبقات الأخرى، وقد ساهموا بدور فعال في نقل الكثير من المناطق الجغرافية السودانية من الاقتصاد المعاشي اِلى  اقتصاد السوق.
ب – الأقباط المصريون والسوريون ويشكلون 1 بالمئة من نسبة السكان. تشارك جلابة الشمال الهيمنة على الثروة ؛ اِذ تسيطر على التجارة الاِجمالية، وتدير المصارف وشركات التصدير والاستيراد، وتُعتبر طبقة غاية في الثراء.
ج – العرب السود أو الأفارقة من ذوي الأصول العربية: تبلغ نسبتهم نحو 20 بالمئة ؛ وهم من ذوي البشرة السمراء في الغالب. معظمهم رعاة اِبل أو أبقار وأغنام، ويعيشون على هامش المجتمع السوداني في وضع اجتماعي واقتصادي بدائي متخلف.
د – الزنج المسلمون: وهم من السكان الأصليين ومن ذوي الثقافة العربية. تبلغ نسبتهم 50 بالمئة من السكان، ويعيشون على الرغم من ذلك، حياة الجهل والفقر الشديدين  ويشاركون العرب السود طريقة التدين والتمازج العرقي.
ه – الزنج غير المسلمين: وهم من السكان الأصليين أيضاً، ويمثلون نحو 25 بالمئة من السكان، ويسكنون في غالبيتهم الغابات الجنوبية والجبال الوسطى. وبوجه عام، يشكل الزنج المسلمون والزنج غير المسلمين الأغلبية السكانية. ولا يُمكن تبرئة الزنج  المسلمين من التعاون مع جلابة الشمال في حرب الخمسين عاماً ضد الجنوب.

يحصر الكاتب  التشكيلات الاجتماعية في تسع مجموعات قبلية هي: مجموعة قبائل البجا؛ مجموعة القبائل النوبية؛ مجموعة القبائل العربية؛ مجموعة قبائل كردفان في الغرب؛ مجموعة  قبائل الفور في الغرب؛ مجموعة قبائل المابات والانقسنا جنوب النيل الأزرق؛ مجموعة القبائل النوباوية؛ مجموعة القبائل النيلية الجنوبية (دينكا، شُلك، نوير) في الجنوب؛ مجموعة القبائل الزنجية الجنوبية في الجنوب.

ويشير الكاتب اِلى حالة من الاحتقان التاريخي (تدعمها الثقافة القبلية، والنزعة الطائفية) لا يُمكن أبداً التعامي عنها، اِذ هي تمثل الانعكاس القوي والمباشر للإرث العبودي، "المعنوي" وفقاً لتعبير منصور خالد، على أقل تقدير، الشمال كأسياد قانصين، والجنوب، كعبيد مقنوصين. فهناك ثقافة الرق والعبودية التي لم تزل ترسم الصورة الاجتماعية الكلية بين شمال (سيد) وجنوب (عبد) وهناك من جهة أخرى نهر النيل وجريانه من الجنوب اِلى الشمال، وهو ما كان الأساس الذي ارتكز عليه الاستعمار في عدم  تقسيم السودان اِلى شمال وجنوب، ويضاف الى ذلك في الوقت الحاضر "النفط" الذي نشأ سبباً آخر للصراع بين العرب والزنج، بعد أن كان النزاع بينهم يدور حول المراعي.

يقول الكاتب، لقد وجد السودانيون أنفسهم وسط صراعات عدة قوى. وهي كلها تتقاتل تحت مسميات مختلفة، وأهداف مختلفة. ولا يمكن الوعي بهذه الصراعات الدائرة وعياً ناقداً وخلاقاً اِلا ابتداءً من الوعي بالصراع الطبقي داخل التنظيم الاجتماعي. ويحدد في خطوط عريضة السياق الطبقي في تلك الحروب:

-اِن العناصر المتناحرة، على اختلاف مسمياتها وتوجهاتها وعلى الرغم من العسكرة التي تغلفها، فإنها تظل حركات اجتماعية عاكسة لواقع اجتماعي متدهور، ووضع اقتصادي مترد.

-الثروة والاستئثار بها من قبل حفنة رجال يسكنون القصور في العاصمة، هما العنوان الأمثل للبدء في فهم أوّلي للحركات المتمردة، ثم في فهم تال، من هذا المنظور، لذلك الاِصرار على قمع المتمردين وسحقهم.

- تسيطر النزعة العنصرية، كتعبير عن الصراعات الطبقية، على جُل العناصر المتصارعة. ولن يكون أمام العرق (الطبقة) المهمَل سوى القتال من أجل الثروة والسلطة، ومن ثم الدخول في تحالفات تمكّنه من ذلك الهدف، أياً يكن الحلفاء ؛ فحين يتحالف نظام الخرطوم مع جيش الرب للمقاومة، مثلاً فاِنه يتجاهل ما يمارسه هذا التنظيم من مذابح وفظائع أينما حل، فالمهم أنه يتصدى للأعداء، واِن بالوكالة.

- واِذ تُسيطر النزعة العنصرية ذات الأساس والبناء الطبقيين، بهذه الصورة أو تلك، على مجمل خطاب جُلّ الفصائل والقوى المتناحرة، فلن يكون أمام هؤلاء المهمشين سوى التمسك الشديد بالموروث التاريخي والثقافي والديني، وخوض القتال الضاري من أجل هذا الموروث في مواجهة قوى يرون أنها تهدف اِلى طمسه، واِزالة ثقافتهم وكيانهم الاجتماعي نفسه من الخريطة الرسمية للبلاد.

آليات تجدد انتاج التخلف:
من مجمل الهيكل الاقتصادي السوداني، يمكن استنتاج حقائق عدة تشكلت على أرض الواقع، تؤكد ظاهرة التخلف وآليات تجدُد اِنتاجه على النحو التالي:
1 – تهيمن الزراعة على مجمل الهيكل الاقتصادي، ومع ذلك يظهر في بند الواردات أن السودان يستورد الغذاء، وعلى رأسه القمح. الاقتصاد السوداني اقتصاد زراعي من الدرجة الأولى، وتخلفه وتبعيته وبدائيته خصائص جوهرية واضحة، لا لغلبة قطاع الزراعة على القطاعات الأخرى، واِنما لارتفاع معدل اِنتاج القيمة الزائدة المتناقض مع الضعف المزمن في آليات اِنتاجها، فنمط الاِنتاج السائد يسمح بتسرب القيمة الزائدة من الريف اِلى المدينة، في مرحلة أولى، ثم من داخل السودان اِلى خارجها ن في مرحلة ثانية، على نحو لا يسمح بتراكم رأسمالي يوظّف داخل الاقتصاد السوداني.
2- نصف الشعب تقريباً فقير، والديون تلتهم الناتج المحلي بنسبة 100 بالمئة.
3- كما هو حال جميع الدول الريعية تقريباً بوجه عام، والأجزاء المتخلفة بوجه خاص، تتسرب القيمة الزائدة المنتَجة داخل الاقتصاد القومي اِلى الخارج في سبيل شراء السلع التي لا يُنتجها الاقتصاد القومي.
4 - تسرب في العام 2009، مثلاً، نحو مليار دولار اِلى خارج الاقتصاد، وهى قيمة الفارق بين الصادرات والواردات. وكما ذكر سابقاً يبدأ وينتهي من حيث فهم وتحليل نمط الاِنتاج الرأسمالي كنمط لإنتاج  سلع وخدمات  من أجل السوق. وليس ذلك فقط واِنما كنمط لإنتاج القيمة الزائدة. وما دامت " آليات " اِنتاج تلك القيمة الزائدة ضعيفة، عُدّ الاقتصاد ضعيفاً و متخلفاً بالتبعية بسبب تدهور تلك الآليات.

وفي الختام تكمن الخلاصة في التالي:
اِن الصراع الذي سوق عالمياً من المؤسسة الاِعلامية الغربية ليس صراعاً عرقياً، واِنما هو في حقيقته صراع بين طبقات متفاوتة الحظوظ من الثروة والسلطة. وما الاشتباكات المسلحة اِلا المظهر السياسي لهذا الصراع ؛ الصراع الذي تكون قاعدته الاقتصادية مرتكزة على آليات تجديد اِنتاج التخلف، ولا يأخذ المجتمع في التطور والتغير اِلا من خلال الصراع الجدلي على مستويين:
الأول هو المستوى الطبقي، الذي يتجسد في جدلية  "حرمان الطبقات الأشد فقراً من السلطة والثروة، بالتناقض مع تمتع الطبقات الأكثر ثراء بكل السلطة والثروة" وعندما تتنازل السلطة عن بعض السلطات، على النحو الذي عبر عنه الرئيس عمر البشير في 28 حزيران \ يونيو 2011 بقوله اِن منصب نائب الرئيس سيكون من حق دارفور بعد الانفصال، فكان الرد الدار فوري جاهزاً، فالمسألة ليست متعلقة بموقع نائب رئيس وانما بالثروة  والسلطة، لكن بدءاً بإرادة تعاقدية حرة بين نظام الخرطوم واهل دارفور.
والثاني هو المستوى الاقتصادي، الذي يتجسد في جدلية "ارتفاع معدلات اِنتاج القيمة الزائدة المتناقض مع الضعف المزمن في آليات اِنتاجها" وبتسرب القيمة الزائدة المنتجة داخلياً اِلى خارج الاقتصاد القومي، ويتبدى ذلك بوضوح شديد عندما ينظر اِلى جدول الصادرات والواردات بعد خصم قيمة النفط، فنجد حينها أن هناك مليارات تخرج سنوياً من أجل شراء سلع تُنتج في الأجزاء المتقدمة في معظمها. تلك المليارات هي القيمة الزائدة.

اِن ظاهرة التسرب في القيمة الزائدة اِلى خارج حدود المجتمع، بما يعني، ضمن ما يعني، تبلور عملية مستمرة من التخلف، هي تجديد لإنتاج التخلف عبر الزمن تمتد اِلى الحاضر، وتستمد وجودها من ذلك التسرب، الذي تدعمه الطبقات الحاكمة، المفقِدة لشروط التنمية المستقلة والاعتماد على الذات. ويختتم الكاتب بحثه العميق والجاد والمسهب - وعرضي الذي طال أيضاً بهدف تجنب التلخيص المخل - بقوله:
واِنني أتمنى أن تثير هذه الأسئلة المناقشة من أجل مشروع حضاري لمستقبل آمن، يرفض أن يقود فيه المخبولون العمي على ظهر كوكب ينتحر من خلال نظام اقتصادي عالمي لا يعرف الرحمة. فلنطمحْ اِلى هذا المشروع الحضاري، ولنطمحْ اِلى أكثر من الوجود.

لقد منعت الرقابة في الخرطوم دخول هذا العدد من مجلة المستقبل العربي اِلى السودان (أنظر العدد 409 مارس 2013 من مجلة المستقبل، نشاط مركز دراسات الوحدة العربية  ص 151) ومجلة المستقبل العربي مجلة ثقافية فكرية محكمة وتناقش قضايا حقيقية وهامة وخلافية، بعيدة عن الأسلوب الدعائي أو الأيد لوجي الفج. وهي موجهة في الأساس اِلى القارئ الناقد والباحث والمجادل. وفي نفس العدد الذي حجبته الرقابة يوجد ملف عن "الاِنتاج السوسيولوجي العربي: المرجعيات والتكوين العلمي". يحتوي على بحث للكاتب أحمد موس بدوي – مصر بعنوان: "علم الاجتماع بحثاً وتدريساً في مصر والسودان" ص131 ويقول "العلم الاجتماعي في السودان يعني أولاً الأنثروبولوجيا الاجتماعية ثم لاحقاً علم الاجتماع. وفي هذا السياق يأتي ذكر أسم عالم الأنثروبولوجيا عبدالغفار محمد أحمد. ومع افتتاح كلية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية في عام 1958 تهيأ لها اِدارة سودانية ثابرت على بناء الاحترام والسمعة العلمية لهذا الوليد ومن هؤلاء سعدالدين (يقصد سعدالدين فوزي) وعمر عثمان. والذي يميز العلم الاجتماعي في السودان أنه ارتبط بالواقع منذ تأسيسه، وامتلك المهارات العلمية لدراسته والرؤية الاستراتيجية لإنتاج العلم لإرشاد القرار السياسي. أن العلم الاجتماعي يسير راهناً بقوة الدفع الذاتي للعصر الذهبي. وهو في مسيس الحاجة الى التحرر من العجز المادي والبشري ومن التوجيه الإيديولوجي. وحتى هذا المقال وهو تثمين وتقدير لدور الجامعة السودانية وأساتذتها الأجلاء، حرمت الرقابة أن يطلع عليه القارئ السوداني. ومجلة المستقبل العربي لم يتجاوز توزيعها في السودان 250 نسخة في عامي 2011 و2012 على التوالي. وهذه النسبة القليلة تعمل الرقابة على تقليصها وتحرم القارئ من الحصول على المادة الجادة والقيمة. فالقضية تتعلق في الواقع بمصادرة  الكتب والاِيقاف التعسفي للصحف وخنق حرية الرأي. فنظام المؤتمر اللا وطني لا يهتم أساساً بالفكر والثقافة ولا نرى لهم انتاجاً يذكر. من منا يعرف وزير الاعلام أو الثقافة؟ ولكننا جميعاً نعرف من هم رجال الأمن. اِنها قمة المأساة والمهزلة في آن واحد.

ولعلنا نتذكر المثل المشهور: القاهرة  تكتب وبيروت تنشر والعراق والسودان يقرأن. هل تحول المثل في عهد الإنقاذ اِلى... الخرطوم لا تقرأ.

 

برلين