لكل إنسان وجه آخر وهو الوجه الذي لا يظهر للناس إلا نادراً، وعندما يظهر هذا الوجه (الحقيقي) للناس تحت مؤثر يظهر كومضة في لحظة حقيقة مجردة، وهي قصيرة لكنها كافية للإفصاح عن كنه صاحبها، معدنه، طباعه، أخلاقه، وبعد زوال المؤثر لا يلبث الشخص أن يعود ليرتدي قناعه اليومي الذي حدد ورسم ملامحه سلفاً طبقاً لضرورات الحياه اليومية، والأهداف المزمع تحقبقها، والاشخاص المحيطين وطبيعتهم، وبيئة المجتمع، ونظام الحكم وربما حالة الطقس أيضاً، وهذا الوجه يظهر بلا رتوش في صورة ثلاثية الأبعاد، يظهر الانسان عارياً ولا حتى ورقة توت، والشخص الذكي هو الذي يعرف أن أمامه شخص لديه وجه آخر، وتختلف مقدرة الأشخاص في إخفاء الوجه الآخر من إنسان لإنسان، فالشخص سريع الانفعال يظهر وجهه الآخر على فترات متقاربة (وهو أقلهم ضرراً) وهناك أشخاص قد لا نرى وجوههم الأخرى على الاطلاق، والكاريزما ما هي إلا فن إخفاء أو تأجيل ظهور الوجه الآخر، وفي رحلة حياتي رأيت وجوها لم أكن أتخيل يوما أن لها وجه آخر، وفي حالات كثيرة عندما ظهر هذا الوجه (الحقيقي) لشخص ما، تبدلت مشاعري نحوه إلى النقيض، فقد يظهر الوجه الآخر قبيحاً لوجه جميل بمقاييس الناس، والعكس صحيح تماماً، قس على ذلك وجه هادئ أو وجه باسم أو أو.. وتفشل زيجات وصداقات كثيرة لأن الأقنعة المزيفة كانت متطابقة في بدايات فترة التعارف السطحي، وعندما ظهر الوجه الآخر تكشفت الحقيقة المؤلمة شخصان مختلفان أخلاقهم ومبادئهم على النقيض، والعكس صحيح فقد يبدو شخصان مختلفان بمقاييس الناس النمطية لكنهم متوافقان في الوجه الاخر الوجه الذي لايراه الناس فتعمر زيجات وتطول صداقات.
وكلما بالغ الانسان في رسم القناع اليومي على وجهه أعلم أن وجهه الآخر الحقيقي هو النقيض تماماً لما هو مطبوع على القناع، والوجه الآخر للإنسان هو ناتج تفاعل الجين الوراثي مع الإرث الحضاري وبيئة المنشأ والجذور التاريخية وثقافة العقيدة الدينية. ومجموع ملامح الوجه الآخر للأفراد هو الوجه الآخر الجمعي للشعوب والمجتمعات، والافراد والشعوب المقهورة هي التي تظهر بوجوه زائفة ويظل الوجه الحقيقي مخفي، فالأنظمة المستبدة الدينية والفاشية تجبر الأفراد على ارتداء قناع تتقي به شر هذه الانظمة. قناع يقي البشر من بطش وظلم السلطة، أما الشعوب التي ملكت ناصية مستقبلها فلم تعد بحاجة لأقنعة فالوجه الحقيقي هو الوجه الدائم مجتمعات شفافة مفتوحة، لا حاجة فيها للكذب والتلون والناس يقولون مايفعلون ولا مكان لأساليب التقية الخبيثة.
والثورات هي اللحظة التاريخية التي يظهر فيها الوجه الحقيقي للشعوب. تنتفض المجتمعات عندما يفيض الكيل وتنفجر القدور المكتومة في لحظة يظن فيها الجميع أن الشعوب ارتضت الخنوع والخضوع لأنظمة جثمت على الصدور سنين طويلة، وبلا مقدمات يحدث الطوفان مكتسحاً أمامه كل الثوابت التي ظن الناس أنها سرمدية أبدية، واذا كان الوجه الاخر للإنسان يحتاج إلى موقف يحفز على الظهور فالوجه الآخر للشعوب يحتاج إلى جانب الموقف إلى قائد أو زعيم يفجر الطاقات الايجابية الكامنة في الشعوب ويوجهها الوجهة السليمة لتعبر المرحلة بأقل الخسائر. وبينما ننقر حروف هذا الطرح تنعي الانسانية واحد من أهم مفجري الثورات وإظهار الوجه الآخر للشعوب. رحل نيلسون مانديلا رحل الرجل الذي استطاع بعبقرية فذة أن يقود أمة إلى المصالحة التاريخية بعد عشرات العقود من العنف والدم والثأر والحزن، رحل الرجل الذي تحتاج الإنسانية لعشرات من دعاة التسامح أمثاله بديلا لتلك النماذج الشريرة التي تملأ الساحة دعاة العنف والكراهية والثأر. رحل الرجل الذي حرر شعب وأخرجه من الدائرة الجهنمية دائرة الثأر والانتقام، رحل عازفاً عن الجلوس على كرسي الحكم لكنه تربع على عرش القلوب في كل أنحاء المعمورة، رحل ولحق بأقرانه الأفذاذ لينكولن ولوثر وغاندي وعبد الناصر وكثيرون ممن أظهروا الوجه الآخر الخير للشعوب، وبقي على الساحة هؤلاء القتلة الذين أظهروا أسوأ ما في البشر من خصال القتل والدم والثأر والكراهية والتعصب، لكن الشعوب سيظهر وجهها الحقيقي يوما وتلقي بكل هؤلاء إلى مزبلة التاريخ، كما ألقت سابقيهم وهم كثر ويبقى مانديلا ورفاقه هؤلاء الأخيار دائما في ذاكرة التاريخ، ويبقى الوجه الآخر للشعوب المقهورة مخفيا حتى تحين اللحظة ويظهر الزعيم ليكتسح كل الاصنام ويظهر الوجه المضيئ لكل الانسانية.