تغور القاصة العراقية في هذا النص الشفاف الموجوع في عمق علاقة إنسانية بين الأب الطيب الذي كانت تعتقده يخاف كل عمرها بينما خاضت الساردة غمار تجربة مقاومة سلطة دكتاتورية بالعمل السري لسنوات ثم التحقت بحركة المقاومة المسلحة، لتكتشف أن والدها لم يكن جبانا بل محبا يغامر من أجل أبنائه، ويتجشم رحلة السفر خارج العراق زمن الدكتاتور رغم شدة مرضه لكي يلتقي بها ولمرتين في بنية قصصية تنهل من الشعر لحظتها.

وداعا ابنتي

ناهدة جابر جاسم

                                                           إلى: أبي جابر القزمري 

لا أنسى ما دمت أتنفس لحظة دخوله عليَّ، بعد فراق دام أكثر من سبعة عشر عاماً، في شقة استأجرتها في "السيدة زينب" بأطراف دمشق خريف ١٩٩٩ مع ابنة صديقتي الفلسطينية "خلود" السمراء التي تقطر روحها محبة وطيب، كانت كابنتي التي لم ألدها.

دخلَ عليَ وهو يردد:

- ها بوية نهودة وأخيرا شفتك!.

كان متماسكاً قوياً، يبتسم، وعيناه البنيتان ناصعتين بالمحبة واللهفة والسؤال عن حالي وماذا جرى لي في غربتي وسنين بعادي عنه كنت أكاد أطير فرحا والدنيا لا تسعني من الفرح والانتصار.

*     *     *

كنا نستيقظ فجرا، أعد له الفطور، ونرى الشمس كيف تصعد منيرة بضوئها الناري وجهينا والمدينة، كنت أسمعه يتمنى لعمالها وكسبتها رزقاً موفوراً، ولطالباتها الستر والحفظ اللواتي نراهن قادمات إلى مدارسهن كفراشات زرقاء بزي المدارس الموحد تنورة زرقاء وقميص أبيض.

لحظات أحسها كالحلم الآن بعد مرور كل تلك السنين من الغربة والترحال.

*     *     *

أبي الذي لوعني فراقه جاء متحديا رغم خوفه القديم من البعث، لم يكن لديه أي نشاط سياسي سوى حبه للشيوعيين، رغم ذلك اعتقلوه بمقر الحرس القومي عام 1963 وعذبوه لأيام ثم أطلقوا سراحه، فبات مرعوباً لا يفتح الباب أبدا في الليل لطارقٍ، وتنوب أمي عنه. كنت أظنه يخاف. لكن هاهو قد سافر متحملا عناء الطريق الصحراوي الطويل من الديوانية حتى دمشق المدينة التي عشت فيها عاما في سنوات ترحالي وتشردي وولدت ابنتي همسه فيها.

جلسنا نتأمل بعضٍ دون كلام. كان تعباً من الطريق الطويل وأخبرني بأنهم باتوا ليلة عند الحدود في الرطبة، حيث عاش رعب فكرة عدم رؤيتي في ليلة من أطول ليالي العمر كما وصفها. قطع صمتنا وتأملنا السكران صوته الحنون وهو يقول:

- بويه عندك سجادة وتربة. أريد أصلي لربي ركعتين. وأشكره على تحقيق أمنيتي التي كنت أظنها مستحيلة!.

ناولته سجادة اشتريتها له من سوق الحميدية، وجلست قبالته أتأمل سجوده وركوعه وصوته المسبح بحمد ربه وبدلا من الركعتين استمر في مناجاة ربه والكلام معه بوجد عاشق. كنت منهكة أيضا من شدة وعنف وعنفوان المشاعر المكبوتة طوال تلك السنين فتركته في خلوته مع ربه وخلدت إلى النوم متوجسةً من عتابه على اختفائي المفاجئ تاركة أبني البكر "كفاح" يلوع علي وعمره ثلاث سنين في شباط 1985

*     *     *

صحوت على أنفاسه الدافئة تلفح وجهي ونبضات قلبه ترن في سكون الغرفة الصغيرة، وجدته جالساً قرب رأسي وهو ينحني عليّ يتأمل قسماتي الغارقة في النوم ويمسح شعري الطويل المسفوح جواري على الفراش بأصابعه الحانية، قلت له وأنا بين النوم واليقظة:

- ها بويه!.

وكأنه كان ينتظر جملتي كي يبوح:

- بويه نهوده!.

قالها وهو يدعك عينيه بباطن كفيه وكأنه يريد أن يصحو من سحر اللحظة، وبنفس الوقت يمسح الدموع:

بويه أريد أن أصدق أنت نائمة ورأسك يتوسد مخدة جنب رأسي…وأسمع نبضات قلبك !!!!

اسمع أنفاسك وارى جسدك حيا وروحك تنبض بالحياة..

يا بويه ما تدرين ماذا جرى لنا وبالتحديد ماذا جرى لي… لقد جاءوا بوجوههم البشعة نفسها التي جاءت واعتقلتني بالثالث والستين أخذوني وشدوا عيوني بقماش أسود واسمعوني أقسى الكلام وأسفله، لسببٍ وحيد كوني والدك، قلت لهم أنها متزوجة منذ أربع سنوات وليست لدي أي سلطة عليها المرأة تابعة إلى زوجها. كانوا لا يسمعون بل يتلذذون بإذلالي وسحقي. اللحظة التي اقتادوني بها إلى مديرية أمن الديوانية كانت من أقسى لحظات عمري. سريتك وتكتمك على طبيعة حياتك السياسية هي سبب صمودي.

كنت أحملق به وهو منحني علي متخيلة رعبه وهو بين يديهم. كان قد صمت قليلا قبل أن يردف:

- وضعوا ورقة بيضاء أمامي وقالوا وقع، قلت على ما أوقع، قالوا براءتك من أبنتك الشيوعية العاهرة، وقع ولا كلمة.

 بصمتُ بإبهامي على تلك الورقة وأنا أشعر بفخرٍ كونك مناضلة خلصت نفسها بذكاء وشجاعة.

أرجع جسده إلى الخلف قليلا، فأنهضت جسدي لأجلس بمواجهته وهو يكمل:

- أمك المصيبة، صارت شبه مجنونة، لم تترك سجناً يعتب عليها. دارت على كل سجون النساء في العراق تستجدي عطف السجانين على أمل العثور عليك، وتلقت الضرب والطرد والإهانة وبذيء الكلام، نعتوها بأقبح الصفات. وكانت تتكتم على ما تلاقيه لكنها في مرة عادت حزينة وظلت تبكي طوال الليل سراً، ترجيتها فأفضت لي قائلة:

 حجي تدري ماذا قالوا لي اليوم وصفوني بالعاهرة وإلا لما أنجبت بنتا شيوعية.

كم شعرت بالذنب لما سببته لوالدي من عذاب وذل، لكن كنت متورطة والثمن أما حياتي أو هذي التفاصيل. وأنا سعيدة بسعادة أبي بيّ. كنتُ أنصت لقصص أبي الموجعة وهو يتعمق في الهول وكان دليله قلبه، أردف:

تدرين يا بنتي ما رعب تلك اللحظات، نهاية عام 1986 وكان قد مرَّ على غيابك سنة جاءوا إلى البيت، جلسوا في غرفة الضيوف متصنعين الحزن ليقولوا وهم يظهرون صورة لفتاة حلوة تشبهك وكأنها توأمك هذي بنتك ناهده اعتقلناها وهي تحاول التسلل من مواقع المتمردين في الموصل واعترفت وأعدمت!.

سكتوا وقت قصير وسألوا:

-هي بنتك لو لا؟!.

-أجبتهم بنعم لكن في قرار نفسي كنت أشعر بأنك حية.

 وهاأنذا ألمسك وأسمعك وأراك فما أسعدني من أب يلتقي ببنته المناضلة.

ما أجمل تلك الأيام الأربعة. كنتُ أتلذذ برفقته في زيارة ضريح السيدة "زينب. أجلس في الصحن المكتظ بالزائرين أنتظر أكمال مراسيم زيارته. كان يقبل منتشياً والسعادة تملئ قلبه، فمن أحلام حياته زيارة نادبة الحسين أخته الشهيرة التي أسمى أصغر أخواتي باسمها. تنتابه الحماسة فيطلق جملته في وجهي منتشياً

- نهوده أني عندي خمس بنات وثلاثة ولد مو؟!, أنت تعادليهم، شجاعة وسويتي ما يعجز عنه الرجال!.

ويقبلني في وجنتي ويشمني شماً يبكيني. ذكرني في تلك الزيارة التي مرت كالبرق كيف كنتُ أصعد عصر كل يوم بصحبته أبدل أحواض الماء الفخارية الصغيرة في برج الحمام وأطعمهن الحبوب والخبز المفتت، وعند الغروب أقوم بإدخالهن البرج الكبير.

وكيف يعتمد علىّ حيث كنت أصطحبه إلى حمام السوق الشعبي كي أحرس ثوبه وما فيه من رزق يومه، وكان عندما يناديني كي أدلك ظهره أضع ثوبه بين ساقي ولا أتركه جوار الخزانات. يذكرني ويضحك من قلبه:

- عرفتك نهوده ذكية ودقيقة وحنونة وصبورة!.

أسمع صدى ضحكته المرحة يرن في أرجاء نفسي، وأرتفع صوته واضحا دانيا قويا وهو يناديني من حمام شقة الزينبية:

- بويه نهوده تعالي دلكي ظهري!.

عدت لا أسمع غير جملته هذه منذ أن أخبرني أخي الصغير بعودة مرضه الخبيث" مرض السرطان" الذي عاث بمعدته وجهازه الهضمي.

أتذكر الآن بوضوح أنه نادني مرة واحدة فقط ولم يكرر النداء، وهذا طبعه خفيفا لا يريد الأثقال على الآخر حتى لو كان طالعا من جسده.

 شغلني وصول أمي وأولادي الثلاثة من الدنمرك بصحبة زوجي، وفرحهم بلقاء أجدادهم، فلم أهرع له كما كنت أفعل في طفولتي وصباي.

*     *     *

عزمت على رؤيته مرة أخرى مهما كان الثمن.

ظللت أتصل يومياً إلى أن أخرج من المستشفى بعد أن استقرت حالته قليلا، فتمكنتُ من الحديث معه مباشرة. جاءني صوته قوياً، حنوناً:

- هلا بويه هله.

- أش لون صحتك بويه؟

قال بصوت جاهد ليكون مرحا:

- بخير أنتِ أش لونك وسلام والأطفال؟!.

باغته بقولي:

- راح أجي للديوانية أريد أشوفك!.

سمعت شهقة ذعره قبل أن يتماسك ويقول:

- لا.. لا كل شيء إلا هذا!.

لا لا.. بوية.. يقتلوك.

أصررت:

- لازم أشوفك بويه لازم!.

- أني أجي بويه!.

- طيب أتفقنا.

*     *     *

في دمشق جاءني مع أمي. كان متعباً، منهكاً، ذاوي الجسد، شديد النحول ولمحة حزن في عينيه لم يستطع إخفائها، أشعرتني أننا سنفترق قريباً و إلى الأبد.

مكث معنا أسبوعاً واحداً فقط.. اتصلت بطبيب مختص لكي يأتي ويفحص جسده الذي أقدس

لم يدعني أنام في فراشي مع زوجي جوار أولادي الثلاثة، بل طلب مني النوم وسطهم بينه وبين أمي مازحاً مع زوجي:

-كافي أبن سوادي أخذت بتنا وشردت بها، هذي الكم يوم نأخذه منك!.

ويطلق ضحكته الصافية رغم ألم قسماته الشاحبة المجهدة.

ظل يدللنني بأرق الكلام وأعذبه، ولم أصبر، في صبيحة اليوم التالية قلت له:

- أريد أن ألبي رغبتك وأمنيتي في تحميمك يا بوية!.

 ما أن أكملت جملتي حتى تهلل وجهه فرحاً غيبَّ ألم قسماته فتضرجت وهو يصرخ:

- يا بويه هذه أمنيتي الأخيرة بالدنيا.

 أدخلته الحمام وأجلسته على كرسي. كان يتحرك بعناء مغالباً ألمه ويسرد لي قصصا طريفة فيها الكثير من الفكاهة.

 كنت أدلك جسده الشديد النحول الضامر بهدوء حابسةً دمعي ومغالبة حزني وفرحي المختلطين.

في اليوم السابع ودعتهم. أدار رأسه ملتفتاً من خلف سيارة الأجرة ورمقني بعينين حزينتين وكأنه يقول – وداعا ابنتي!..

 

 5 أكتوبر 2013     كوبنهاجن