يقارب نص القاص الليبي موضوع طالما تناولته القصص إلا وهو زيارة الرجل الناضج لسينما بدائية أقمت في مكان طفولته، فيصف المشهد والزيارة بتورية وكأنها كان على موعد الطفل الذي كانه، والذي لم يأت ليصحبه لصالة العرض، فيمارس اللعبة واصفاً المكان وصالة العرض وصاحب الصالة والعارض الخرس في جو غامض يشبه ذكرى بعيدة.

الرقم العرقوبي

محمد الفشتالي

طلب مني مترجيا أن نلتقي في الموعد المعلوم. بالضبط هذا ما فعلته، إذ كنت هناك في الوقت المحدد. سيأتي، سيأتي. انتظرته أكثر من اللازم. في الأصل الموعد كان باقتراح منه بعد نقاش، وإلحاح مطول، ومع ذلك تخلف. المواعيد في هذا الزمن البذيء غير ملزمة. لماذا إذن؟. سؤال قائم دائما. لا أهتدي من ورائه لشيء. أسأل من جديد: ولم أنا مريض بتقديس المواعد مهما كانت الظروف؟. لم لا أجرب التأخر مثلا، أو التغيب حتى أفهم ما يحدث؟!. فربما أولئك العرقوبيون يجدون متعة استثنائية، وهم يحتجبون، أو يقومون بشيء آخر، بينما الآخرون صامدون في انتظار طلعتهم. لأجرب ذلك في وقت لاحق. هذا غير ممكن، لكل معدنه الخاص. وما المانع؟. لأجرب الأمر مستقبلا، فقد يكون ذا فائدة هامة. اشتريت تذكرة. هذا ما قمت به على الأقل. كنت سأقول احتجزتها. احتجزتها عبارة مضت !. المهم سلمته مبلغا، وسلمني تذكرة ولوج واحدة، يعني سأكون بمفردي. فرصة سعيدة لأكون معي. لا أعرف لم عبرني هذا الشعور؟.

لم يطل الانتظار !. صفق التصفيق عينه كعادته، واندلفت سريعا أيضا. دائما كان هذا السباق مغريا. تسابقت، وارتميت على كرسي في الأمام. لما تستوي، ستنظر طبعا للخلف لتتأكد من أولئك الذين سبقتهم، وتركتهم يلهثون. في الخلف كان ما رأته العين شيئا آخر. يعني أن شروط السباق لم تعد قائمة، وما سابقت أحدا سواي. رؤوس متفرقة. لأعدها: الأولى في آخر الصفوف، والثانية قبلها، الثالثة منزوية على اليمين، بعد رابعة في الوسط، وخامسة أمامها إلى اليسار... فراغ، فراغ، فراغ... صفوف فارغة، ولا قعقعة كالمعهود. السادسة ورائي بمترين، والسابعة خلفها. والرأس الواحدة وحيدة. الثامنة هي للحاج صاحب القاعة، تطل من الباب، والتاسعة للعامل صاحب النظام والترتيب، والعاشرة كانت فوق، تطل من نافذة مربعة صغيرة، تنتظر الإشارة الضرورية. وغالبا ما تكون بإيماءة من يد الحاج، أو حاجبه. فالأخرس لم يكن يسمع الصراخ والترديد اللذين يصاحبان كل عرض.  كنا نحتج عند كل بتر أو اختلاس. نحتج على رداءة في الصورة، أو ضعف في الصوت. وأحيانا نصرخ فقط لتطلق الدجاجة لصاحبها. كان العارض الأخرس تقنيا ماهرا، وساعده خرسه على ذلك، إذ لم يكن يبالي بأي شيء يصدر عنا قعقعة أو صراخا أو هتافا صاخبا. يطل من النافذة نفسها. لا شيء تغير في غرفة عملياته، ولا شيء تغير خارجها بتاتا. السقف المدخن ذاته، الكراسي لا زالت تئز، وجلها مثقوبة. طلاء الجدران مسخت ألوانه، وما عادت تميز. لا شيء عرف التغيير مطلقا. أحسست بماضي الغابر يخيم علي. شعر الذقن يختفي. والمفاصل تتقلص، والقد يتكوم. عدت للزمن الأول. كنت سأصرخ، وأهتف وأردد اللازمات المعروفة، لكن الأخرس أفحمني، إذ لاح بشعر غدا أشيب تماما، وتجعيدات فوق العينين، أما ابتسامته الولهى فهي هي. حياني ملوحا بيديه، ولوحت له رادا تحيته الحيية.

القاعة فارغة، فماذا ينتظر الحاج؟ لم لم يعط الإشارة للأخرس؟. تداخلت الأشياء، واشتبكت في رأسي. كدت أخرج لأتخلص مما أنا فيه، مما وضعني فيه صاحبي العرقوبي. عشرة رؤوس تنتظر الانطلاق. وجه الحاج عليه مسحة من مرارة قاتمة، وهو يعد الرؤوس. كنت سأصرح له بالعدد الموجود. فقد قمت بالإحصاء قبله، وأدخلت رأسه في الحساب. ربما سيغضب مني إذا أقدمت على هذا، وربما هو الآن ينتظر الحادي عشر حتى يومئ للأخرس البسام. لأنتظر إذن. إنه زمن غلفه الانتظار. انتظار نسجن في تلابيبه، وعلى الرغم يجرؤ بعضنا على الحديث المسهب عن السرعة التي تغزو عالمنا اليوم. أين هي؟. لم يأت رقم أحد عشر بعد، وقد مرت أكثر من الساعة والنصف على انتظاره. رفع الحاج سبابته، كما لو فرغ صبره من الرقم العرقوبي. لما تلقى الأخرس الإشارة، تأتأ بابتسامة أخيرة، وأخفى رأسه. عم الظلام أرجاء القاعة، وسعال حاد يتصادى مجلجلا إلى أن خرس. كنت وحدي في المقدمة أتحسس أطراف المقعد. بعد ثواني قليلة بثت الأشعة من الخلف من نفس الآلة غالبا. أشعة تستقيم، ثم تتقاطع وتتعامد، وتهوي كوابل من نور على الشاشة الصفراء المستطيلة، وأنا بالقرب منها أتقزم.

دهمني إحساس بأني في متحف لهذه الصناعة. فقط لم يستهل العرض بالأنباء المعتادة، بل توالت الأسماء والعناوين، سريعا تتابعت، فاختفت وأطل البطل. لم يكن في الصورة آخر. كان كمن يحدثني، يوجه الكلام إلي. يسألني: لم غبت طويلا؟ هل سرقتك عروض أخرى؟. إنها ماسخة، بليدة، وفادحة، تسيء لذكائك. وفي لقطة موالية بدا خارجا من التلفزيون، ومتوجها إلى قاعة الشاشة الكبرى. في الطريق إليها حمل ملصقا كبيرا ملونا، وعلقه على إطار من نفس الحجم، ثم حمله، وسار وسط سبل غاصة بالناس. هكذا تماما كما كان يفعل "با حمو" طيلة الأسبوع في زمن الولع. كان لا يمل، ولا يكل أبدا. شكله كان أروع وهو يجول في الشوارع والأزقة، والملصق على اللوح فوق ظهره. يحمله برباط مشدود إلى كتفيه وبطنه. تنادي: "أ با حمو"، فيقف، وتستطلع الجديد، وقد ينهي إليك بتفاصيل دقيقة مما لا تعلمه عن ممثل أو منتج أو مخرج. "با حمو" قصير القامة، بشوش المحيا. يشير عليك بما يستحق الفرجة دون دعاية مارقة. فقد تعرف الكثير من دقائق الأشياء، قبل أن  ترى العرض. أما البطل الوحيد الذي يملأ الوصلة الآن لقطة عقب أخرى، مصورا من زوايا مختلفة بعدسات ثابتة ومتحركة؛ فقد بدأ يتصرف كنجم. هكذا هي أدوار البطولة. شهرة، فنجومية، ثم خواء. ارتجف الهاتف المحمول، فأفرغت من على الكرسي، هاربا من الفراغ المبيد.