أضفت وهجات الحطب المشتعلة ضياءً علي الليلة الكالحة السواد والتي كان يجلس فيها الجميع مرتاحي البال مسترخي الأبدان باستثناء واحد يبدو أنه أكثرهم شأنا وأعلاهم مقاما . خرج صوت من وسط حلقة النار ليكسر الصمت القابع قائلا :
ما أجملها من صحبة سيتحدث عنها التاريخ نِعم جمع الفرسان هذا بيبرس البندقداري فارس الدين أقطاي المستعرب لاجين الدرفيل بدر الدين الشمسي آنص الأصفهاني بلبان الرشيدي وبيدغان سم الموت .
هنا ابتسم بيدغان الملقب بسم الموت وأخذ يمصمص لسانه الراقد علي فص أفيون يثير فيه تهيؤات النشوة والسعادة قائلا : والله صدق سيف الدين قلاوون الألفي حقا نِعم الجمع و المجتمعون خيرة فرسان المماليك قاهري التتر حماة الإسلام و أسوده . يا عظم ما سيذكرنا به التاريخ والله إن نفسي لتحثني علي الرقص والغناء زهوا بها لولا بعض حياء .
نظر سيف الدين قلاوون الألفي وكان أصغرهم سنا ناحية بيبرس الساهم الغائب في نفسه عنهم وقال : ما تنقص فرحتنا هاته شيء سوي أن يشاركنا فيها فارسنا الأول بيبرس البندقداري .
نظر بيبرس وعلي محياه ظل ابتسامة هازئة وزعها عليهم جميعا قبل أن يركزها علي بيدغان سم الموت وهو يقول : أي مجد و أي تاريخ هذا الذي تتحدثون عنه المجد والتاريخ سيكتبون هناك للنائم في هذه الخيمة الكبيرة أما نحن فسيذكرنا الكتاب في سنوات وفيات الأعلام ومن يدري حتي هذه قد يسقط منها الكثير منا .
بانت الكآبة علي وجوه الجميع من كلام بيبرس وطفق كل منهم ينظر إلي صاحبه في بلاهة قبل ان يلفظ لاجين الدرفيل لعابه خارج فمه ويقول : فليذهب التاريخ و كُتّابه إلي الجحيم الثروة والمال أهم .
رد بيبرس بسخرية : حتى هذه مشكوك فيها .
نظر بلبان الرشيدي إلي بيبرس بهدوء وقال : لا تدع حنقك علي قطز يثيرك يا بيبرس ليست الدنيا حلب .
ضحك بيبرس بأعلى صوته علي كلام الرشيدي بينما تبادل فرسان المماليك النظرات في تعجب من حال بيبرس الطارئ . قبل أن يكتم بيبرس ضحكته كأن لم تكن و يقول بحماسة زارعا نظراته في عيونهم أجمعين : القضية ليست قضية حلب ولا ولايتها يا فرسان المماليك . القضية هي نحن أنا و أنتم حياتنا مستقبلنا لنتكلم بصراحة يا سادة . هل سأل أحدكم نفسه لماذا خرج لمحاربة التتار ؟ لنصرة الإسلام !! لو كانت القضية قضية الدين و الدفاع عنه لماذا إذا لم يشمر حامي الإسلام منكم عن ساعديه ويذهب لملاقاة التتار طوال السنوات التي مضت في فارس أو في بلاد الترك وهم أهلنا . لماذا لم يهب لنجدة بغداد وهي حاضرة الإسلام ومنارته و ارض الخلافة . هل خرجنا نحارب التتار من أجل القاهرة !! تفسير مضحك مالنا نحن ومال القاهرة ونحن لسنا أهلها . إننا يا سادة وهذه هي الحقيقة التي يجب ان تقبع في البابكم فرسان مرتزقة كل واحد منا جاء من بلد لا يتشارك فيها مع أحد من أصحابه لا العرب أجدادنا ولا الأرض أرضنا ولا الإسلام دين أباؤنا . لذا فنحن لا نحارب سوي لهدف واحد وهو المنفعة . أنقذنا مصر من شر التتار كي ننتفع بخيراتها ونتمرغ في حرير قصورها ونتوسد صدور حورها مكافأة لنا .
أجاب سيف الدين قلاوون الألفي معقبا بحماسة : ما في هذا شك .
تابع الجميع مؤيدين : مافي هذا شك مصر لنا .
أشار بيبرس لهم بيديه كي يصمتوا ويواصلوا الاستماع لباقي كلامه : ومن قال لكم أن قطز سيسمح لكم بذلك يا فرسان المماليك إن قطز مختلف عنكم . فهذا الخوارزمي له أصل وفصل أخواله و أهله كانوا ملوكا وأمراء . وهو وإن نشأ علي نشأة المماليك إلا أن دماؤه ملكية تسري فيها بقايا أصله القديم . قد يتسند عليها لإحياء دولة أخواله و أهله مرة أخري في القاهرة .
قال بدر الدين الشمسي بقلق واضح جاهد أن يخفيه في نبرة صوته : لا لا قطز يعرف قدرنا ويحذرنا إننا سيفه البتار و هو بحاجة إلي المماليك .
عقب آنص الأصفهاني هازئا علي كلام الشمسي وقال : أبعد كل هؤلاء أنظر حولك لهذا الجيش الجرار من العامة و ما نحن المماليك إلا صفوته . لقد جمع قطز جيشا من العامة و أهل البلد يغنيه عن المماليك في اي لحظة يشاء .
أضاف قلاوون الألفي : العامة ينشدون العدل و الصلاح . وقطز في نفسه ميل لهذا . و لو تحقق العدل و الصلاح فلن يكون هناك بقاء للمماليك .
- ستتجرأ العامة علينا أضاف لاجين الدرفيل .
قال بيبرس وهو ينظر إلي قلاوون الألفي بإعجاب : لقد أصاب الصغير قلاوون الهدف المسألة أكبر من قطز . المسألة أصبحت تتعلق ببقاء جنس المماليك من عدمه .
لمعت عينا بيدغان سم الموت و فتح فمه علي إبتسامة ماكرة سلطها علي وجه بيبرس كمن يقول له لقد فهمت المراد ثم قال للجمع : فلنتخلص من قطز ونريح أنفسنا .
- كيف ؟ سأل بلبان الرشيدي
- نقتله . أجاب لاجين الدرفيل بكل هدوء
- نقتله كي نعيش نحن . أضاف بيدغان سم الموت
قال بيبرس متشجعا من حماسة أصحابه : نقتله غدا عند خروجنا للصيد . ثم نخبي الخبر حتي نصل إلي القاهرة ويتفرق الجيش ونصعد إلي القلعة . فنأمن شر غضبة العامة .
- خطة مثالية قال آنص الأصفهاني
- و من لها من بعده ؟ سأل بيدغان سم الموت متخابثا
فأجاب قلاوون الألفي بسرعة ليقطع شطحات التفكير في أذهانهم قائلا : بيبرس أتابك العسكر و أمهر الفرسان و أجدرنا بها .
أجاب الجميع في صوت واحد : ليكن بيبرس سلطان المماليك .
قال بيبرس وقد إلتمعت عيناه : سيذكر تلاميذ المماليك هذا الإجتماع دوما . وسوف يكون لكم الفضل أيها الفرسان في المحافظة علي جنس المماليك . وعهدي لكم بأنكم ستنهلون من خيرات مصر حتي تنفجر بطونكم .