تكشف كتابة الدكتورة عزة رشاد القصصية عن عمق الخبرات الواقعية البسيطة، وجذورها التي تجسد كلا من التعدد، والاختلاف من خلال العلاقة المعقدة، والخفية بين الأنا، والآخر، كما تبرز محتويات الوعي، أو الشعور، وطبقاته العديدة بصورة تأويلية – تحليلية، وأدبية في آن؛ وكأن تداعيات وظائف السرد، وازدواجها بالعوالم، والصور الداخلية للوعي تعيد تشكيل الواقع، وشخوصه وفق ما يكمن فيها من عناصر فريدة، ومختلفة لا تبدو في ظاهر الحدث، أو التجربة، أو الشخصية.
إن تداعيات الذكريات، والانفعالات الحدسية المباشرة، وأحلام اليقظة، وتقديمها في مونولوج داخلي، وازدواجها بالحدث، أو بالتجربة، توحي بالطبيعة الأدبية، والثقافية المتضاعفة للحدث في تأويلاته العديدة، وو صوره، وإيحاءاته التي تتميز بالدائرية؛ أي البدء بالكشف عن عمق التجربة في علامات الوعي، واللاوعي، ثم تقديم هذه العلامات في صور وعلامات استعارية أدبية تقبل التأويل المتجدد، وإعادة تشكيلها مرة أخرى في وعي المتلقي؛ وكأنها تومئ إلى انفتاح التجربة، أو الشخصية، وفاعليتها المحتملة في القارئ، أو إلى ذلك العمق المصاحب للوقائع البسيطة المحملة بالرموز، والإشارات، واللغة الحلمية المتوهجة، والكامنة فيما وراء الصمت؛ فالخبرات الحسية، أو التاريخية هي مدخل لتلك العوالم الروحية، والاستعارية الفريدة المؤولة للشخصية، والمؤولة أيضا للخبرات المحتملة المشابهة في وعي الآخر، أو المتلقي، والوظيفة السردية هنا تخفي عمقا شاعريا أصيلا يرتكز على الوعي، والتحليل القائم على لغة الصورة، والأخيلة الفنية.
لقد كشفت عزة رشاد عن الصور الداخلية المحتملة للآخر، وتأويلاته الأنثوية في مجموعة (أحب نورا .. أكره نورهان)، وتجاوزت - في كتابتها القصصية - مدلول الذات التاريخية، ثم أبرزت العنصر الفريد في تكوين الشخصية، وحياتها الأدبية البهيجة في الوعي في مجموعة (نصف ضوء)، بينما تتناول الوعي المبدع، وطبقاته العميقة، وتحولاته الاستعارية الطيفية كموضوع للقص في مجموعة (بنات أحلامي)، وقد صدرت عن دار أخبار اليوم في أكتوبر سنة 2013، وأرى أن المجموعة قد حققت التفاعل الإبداعي بين الوعي، والإنتاجية الأدبية النصية، والإحالة إلى الحدث، أو الشخصية، ولكن في سياق تضاعف التأويلات، والتمثيلات الاستعارية التي تكشف عن تعددية التجربة، وأبعادها الجمالية، والاجتماعية، والكونية في تداخل أصيل.
و بصدد العلاقة بين المرئي، والروحي / غير المرئي في تكوين العمل الفني يرى (فان جيمس) أن العنصر الروحي في الفن يتعلق بالوثبة الإبداعية المولدة للعمل الفني عند الفنان؛ مثل الصورة، والشكل، والكلمة، والصوت، والإيماءة التي تشكل عملا قيد التكوين، وأن الفنون – طبقا لهذه الطريقة في التفكير – تعد جسرا بين إدراكنا الحسي للمرئي، وتجربتنا المتعلقة بغير المرئي.
(Read / Van James / Spiritual and Art: Pictures of the transformation of consciousness / Anthro Posophic Press / U. S / 2001 / P. ix).
إن ولوج الفن للعوالم المتجاوزة للواقع، والمختلطة بالخبرات الحسية، يكشف عن التحام الوعي بالظواهر، والعلامات المشكلة للكون، وللتاريخ الإنساني، وتجلياته النسبية الفريدة في الشخوص بشكولها النصية، والواقعية؛ وهو ما نلاحظه في قصص هذه المجموعة للدكتورة عزة رشاد؛ فهي أقرب لتمثيل، وتحليل عوالم الوعي، واللاوعي الخفية للتجربة النسبية الفريدة المشكلة للشخصيات، أو الأحداث ذات الحضور العميق، والمفتوح على تأويلات القراء.
إن الصور، والخبرات في قصص المجموعة تتحول إلى عمل فني تأويلي للواقع عبر وسيط الوعي، والإنتاجية الأدائية الكامنة في فضائه الإبداعي الذي يستعصي على التحديد، أو الإغلاق.
و يمكننا ملاحظة ثلاث تيمات إبداعية في المجموعة؛ هي تمثيلات الآخر، وإنتاجية الوعي المبدع، والسرد كمدخل لقراءة النظائر المحتملة للذات.
أولا: تمثيلات الآخر:
الآخر، وصوره العديدة جزء من وعي الشخصية، وأخيلتها، وخاصة الأنثى عند عزة رشاد؛ فالصوت الداخلي يعيد إنتاج هويته من خلال صورة الآخر، وتمثيلاتها المجازية المتجاوزة للغياب، أو لحالات الانفصال، والصمت العبثي، والاختلاف الجذري؛ وكأن المسافة بينهما تمثيلية؛ أي تشبه العمل المسرحي في التداخل بين الممثل، والشخصية رغم الاختلاف الظاهر أحيانا؛ فقد تتحد الشخصية بصورة الأب الغائب، أو الأم الغائبة، أو الأخت الجميلة المختلفة عنها، وقد تبدو التوقعات حول الآخر كصور حية متوهجة في الوعي، أو تأتي من مجالات لا مرئية، ولكنها تتصل بتاريخ الشخصية، وصيرورتها في القصة؛ ومن ثم فآخرية الآخر تتخذ شكلا ذاتيا تأويليا جديدا يقع بين الواقع، وعوالم الفن المجازية؛ فهي تقع داخل الذات، وخارجها في آن؛ أي تتجاوز حدودها البنائية الأولى؛ وهو ما يكسبها حضورا آخر قيد التشكل.
تجسد الساردة تناقضات المشاعر الداخلية الأنثوية في شخصية (ياسمين) في قصة (الياسمين الشائك)؛ فهي تنتمي إلى الذكريات، وصور الطفولة البهيجة التي ارتبطت بالأب المتوفي، بينما تتحد في الوعي، واللاوعي بشخصية أختها هند، والأم التي تستغل جمال هند في كسب الذهب، والأموال من الخطاب؛ ومن ثم يتلاشى الحب الأصيل، وتبدو ياسمين المهمشة، وكأنها تتخذ موقع الأصل؛ أي موقع الآخر / هند حين تنتقم لصالح الأم، والأسرة التي لا تمثل داخلها الحياة الروحية الحقيقية.
إن الحياة المتخيلة البهيجة تمثل الهوية الأنثوية الأولى للبطلة، وتتجلى فيها أخيلة الجمال، والاتساع، والبطولة، وتفكيك مركزية الآخر / هند التي تقع صورتها الأخرى الحقيقية في وعي البطلة أيضا؛ ويمثل هذا التداخل في بناء الهوية، وتطورها تأويلا دائما، ومتغيرا لحدود الأنا، وحدود الآخر.
و تتداخل مجالات الوجود، والرؤية بين الأنا، والآخر في قصة (ضباب)؛ فالبطل شبحي، ويراقب محبوبته سماح في لحظات المرض، ثم يكتشف أنها وشت به لدى شخص يدعوه بالوغد؛ وهو أخ لفتاة كان يعرفها، وكانت سماح تغار منها، ويشير النص أنه توفى أيضا، ويبدو في مجال الرؤية الخاص بالبطل، ومعه قط أسود.
إن البطل يقع في السرد بين الموت، والحياة؛ إذ يحيا حياة طيفية لا تتصل مباشرة بالواقع، بينما نعاين مشاعر الحب، والحنين، والغيرة، والحسد، والصمت العبثي بين الأنا، والآخر في المجال الأول / الواقع كذكريات يتجلى فيها الندم، بينما تبدو التجربة في المجال الطيفي التشبيهي بصورة بكر مختلفة، وأكثر اتساعا، ورحابة؛ وكأن معركة مجازية جديدة ستحدث بين البطل، وصورة الوغد في الوعي.
و تجسد قصة (عن النجوم البعيدة) تنوع صور الأنا، والآخر في العلاقات العائلية، وما تحمله من دلالات ذاتية، وثقافية؛ فالبطلة تتذكر غربة أهل الأب، واختلاف عاداتهم عن عادات الأم، وطبائعها، ثم لحظات المرض، والرحيل، وتعيد التساؤل حول شخصية العمة ملك التي كانت تحب والدها، وتغار عليه، ثم نكتشف تعدد صور ملك، وأن ملك التي تخيلتها البطل لم تكن هي المقصودة.
لقد نبعت صورة الآخر هنا من مسافة متداخلة بين الذكريات، وأخيلة الوعي، وتجسدت فيها حالة الانفصال الثقافي، وامتدادها في العالم الداخلي للبطلة؛ إذ كانت تتهيأ للمواءمة بين أخيلتها حول العائلة في الوعي، والتجسدات الواقعية في حدث العزاء، ولكن ظل التواصل معلقا بين الحضور، والغياب في صورة طيفية تتجاوز كلا من الأب، والأم، وتحيا في حالات نسبية جديدة تذكرنا بتحولات العلاقات، وامتدادها في أكثر من أسرة في شخصيتي أجا ممنون، وأوديب، وغيرهما في الدراما الإغريقية.
و تلتقط البطلة بوعيها الأنثوي بعض التفاصيل المنزلية التي صاحبت توقعاتها، ومعركتها مع ذبابة زرقاء، وقد تجلت كحدث طارئ يناهض جدول أعمال اليوم، والتهيؤ لزيارة العمل؛ فنعاين انكسار النجفة الكريستال، والفازة، ثم تحول الذبابة إلى عدو شبحي، واقترانها بسيارة طارئة عطلت زوجها أيضا.
لقد بدت الذبابة الصغيرة كمفتتح لعوالم الميكرو الصغيرة، وبطولتها في المشهد القصصي، ولاتساع هذه العوالم، وولوجها إلى الداخل في توقعات الوعي، وفي حالة الصمت، أو التعارض النفسي المحتمل للاتجاهات الانفعالية إزاء الطارئ بين كل من الأنا، والآخر.
إن الذات تنتج الآخر، وتؤكد غيريته في الوقت نفسه؛ فمساحات الانفصال، والصمت تختلط دائما بالتداخل الأصيل بينهما، والقدرة على تمثيل صورته الأخرى في الوعي المبدع.
ثانيا: إنتاجية الوعي المبدع:
يلتحم الوعي بإشارات الواقع، ويعيد تشكيلها في سياق حياة طيفية جديدة تنبع من مستوى ما قبل الكلام الذي يميز رواية تيار الوعي في تصور روبرت همفري؛ وهي حياة تقوم على التحول الإبداعي للشخصيات، والصور خارج سطوة الحتميات، وقوانين الواقع الاجتماعي، والأنساق المركزية؛ فهي تعيد تمثيل الواقع، دون أن تخرج بالكامل عن أبنيته المؤثرة على الشخصية؛ فالصور تنفلت من وجودها، وتاريخها الأول باتجاه صيرورة الحلم، وما يصاحبها من أخيلة اتساع الحضور الكوني للذات من جهة، وممارسة الأداء التمثيلي المجدد للهوية، والصوت الداخلي من جهة أخرى؛ فالحياة الحلمية تنقل الإدراك الذاتي إلى مستويات أخرى من الوجود الإبداعي المرح، والمتجاوز للحدود الحتمية فيما يشبه عوالم القصيدة، أو التناغم الجمالي المستمد من آثار الفن، والإشارات الإبداعية المتراكمة في الذاكرة الجمعية، وتحقق هذه الحياة اكتشافا مستمرا للهوية، وتعديلا للسياق الواقعي للشخصية في الوقت نفسه.
يستعيد السارد / البطل – في قصة (عن ترميم الأحلام) – صورة ندى البهيجة التي تقترن بحمرة الفراولة، والخصوبة، ونموذج الأنوثة في اللاوعي، ثم كطبيبة أمراض نساء، يبدو عليها المرض، وتحب التشريح، وتفضل القهوة، لا الفراولة، ثم تتصاعد نغمات العنف غير العقلاني في الحلم؛ فيظهر أبو دراع كوحش ممتد في الواقع من الأساطير الكامنة في الذاكرة الجمعية؛ وتذكرني صورته بالخنزير في أسطورة أدونيس، وحارس غابة الأرز في ملحمة جلجامش بينما يبدو البطل مقيدا معذبا مثل (برومثيوس)، ويشير النص إلى اختلاط الدم الحقيقي بالمجازي في النهاية.
الأشياء، والشخصيات هنا في حالة مستمرة من التحول الاستعاري، والتعدد في بنية التكوين؛ ومن ثم فالمرجع الأصلي يتضاعف في عوالم الوعي، واللاوعي من خلال اللقاء الإبداعي بين مستوى ما قبل الكلام، ومستوى الواقع؛ فثمة ضمير شخصي، يتميز بالحضور النقي، ويستدعي تاريخا بعينه، ولكنه يختلط بإمكانيات الوجود الإبداعي الكامنة في العالم الداخلي، دون الخضوع للتحديد الصارم؛ وهو ما يستدعي اتساعا فائقا لسؤال الهوية، وعلاقته بإنتاجية الوعي في المجموعة.
و يرى فرويد أن الحيوانات الوحشية تشير إلى الانفعالات الاندفاعية التي يخشاها الحالم من نفسه، أو من غيره، وقد تومئ إلى الأشخاص الذين تغلب عليهم هذه الانفعالات، أو إلى قوة اللبيدو التي يغالبها الأنا بالكبت. (راجع / فرويد / تفسير الأحلام / ترجمة: مصطفى صفوان / الهيئة العامة للكتاب بالقاهرة سنة 2012 / ص 411 و412).
لقد تجلى أبو دراع في الوعي المبدع كنغمة غير عقلانية مضادة للبهجة للأولى التي تجسد التناغم الكوني داخل الأنا؛ فهو ما يتجاوز الأنا من قوى سلبية تهدد استقراره، أو هو قوة الحياة كنموذج سابق للخصوصية الفردية، والصوت الشخصي؛ ومن ثم يجسد القيد الداخلي، والصخب غير المبرر، بينما يسعى البطل – مثل برومثيوس – إلى استعادة حضوره، وحريته، وهويته الأولى.
وتحاول البطلة إعادة اكتشاف عوالمها الداخلية الدفينة من خلال العلاقة بين الحلم، والواقع في قصة (لو أنك وردة)؛ إذ رأت أنها سرقت خزينة الأب، وعبأت المال في حقيبة حمراء، ثم تحاول إعادة رسم صورة الأم بالبحث في الصور، والأشياء التي تخصها، وقد اقترنت هذه الصور ببهجة الطفولة، وذكريات المرض، والعلاقة المتوترة بالأب، واكتشافها لحقيبة حمراء تطابق حقيبة الحلم، ثم تتجه إلى النهر، والحفر بقربه، وكأن العالم الخارجي قد صار داخليا في حلم يقظة يعيد إنتاج ذاكرتها، وجذورها النفسية الصاخبة، والكامنة وراء الاستقرار الاجتماعي الظاهر.
لقد بدا عالم الأم الخيالي كبديل عن حالة فقدان لا مرئية داخل البطلة؛ فهي تبحث باستمرار عن تناغم جمالي للحياة في الذاكرة، والواقع، وتحاول اقتناصه من الأب، أو من آثار الأم؛ فهي تقاوم لحظات التوتر، والعدم بالبحث عن صورة الأمومة الواسعة في أحلام اليقظة، وأخيلة الوعي المبدع المتمركزة حول امتداد الحياة، واقترانها بنموذج الأم، أو بحضورها الآخر المتجاوز للتاريخ في الحياة الحلمية، والصور المتعلقة بخصوبة الماء في الوعي.
و يرى غاستون باشلار أن كل ماء حليب، أو كل مشروب سعيد هو حليب أمومي؛ فالحب اللانهائي للكون يتجسد في حب الأم، والماء في منظور الخيال المادي غذاء كامل مثل الحليب. (راجع / غاستون باشلار / الماء والأحلام .. دراسة عن الخيال والمادة / ترجمة د. علي نجيب إبراهيم / المنظمة العربية للترجمة ببيروت / ط1 / سنة 2007 / من ص 173: ص 176).
لقد اتحدت وردة بأخيلة الأم، أو حضورها الطيفي عبر علامة الحقيبة التي تداخل في نسيجها الحلم، والواقع، وتضاعف الخيال الأمومي في مياه النهر التي أعادت تمثيل الاتساع الداخلي، والتناغم الكامن في نموذج الأم، وما يستدعيه من حلول للحياة البهيجة في هذه المسافة التي تستدعيها المياه الكثيفة، والعميقة التي تقع بين الحلم، والواقع، أو بين الحياة الجمالية، والتاريخ الذي يبحث عن اكتماله في حياة افتراضية فريدة تتحد بروح ماض مفقود، ولكنه أفضل من ماضي الشخصية القريب.
و تؤول البطلة شخصية الحبيب أو الآخر / شادي من خلال توقعات الوعي الأنثوي، وأخيلته، وشاعريته الإنتاجية التي تعيد تشكيل الأنا، والآخر بلغة فريدة، وتاريخ يرتكز على حياة التفاصيل الصغيرة، واندماجها في نسيج روحي مختلف في قصة (شجو اليمام)؛ فثمة أنموذجان للمرأة في النص؛ هما المرأة ذات الوعي المبدع للخصوصية في التجربة، والكتابة، والمرأة النمطية التي تعبر عن قوة الاستغلال، والنموذج العام الأسبق من اختلاف الحضور الشخصي، وهي التي اقترنت بالآخر بلا ملامح خاصة، أو لغة مختلفة للتجربة الأنثوية.
تقول الساردة على لسان البطلة ذات الحضور الفريد، واللغة الأنثوية الخاصة:
"لو فعل شادي خيرا في ذلك اليوم، ربما لو كان مرتديا قميص الكاروهات المقسم بدرجات الهافان الداكن، لما كان ثمة مشكلة، نفس الشيء بالنسبة للآخر المشجر بدرجات البيج، والبني، والمميز بأزرار صدفية صغيرة، أو الأسود السادة ماركة "مونتيير". هذا الأسود هو الوحيد الذي يتميز بقدرة فريدة على الاحتفاظ بعبق العطور، خاصة عطر الليمون المولع به شادي". ص 71.
إن البطلة تعاين خبرة الاتحاد بالآخر عبر لغة روحية فريدة، وممتدة للحواس، وتفاصيلها الصغيرة المشبعة بصوتي الأنا، والآخر معا، دون انفصال؛ فصوت شادي يمتد في الانطباعات، والتأويلات الكامنة خلف حياة الألوان، والروائح، وحالة التعاطف الكوني التي تضم تفاصيل الموضة، وإيماءاتها النفسية، والثقافية، وكأن أصالة الخبرة تبعث حياة طيفية جديدة في الأثر المكتوب بوعي أنثوي مختلف.
ويلتحم العالم الاستعاري للفن بالواقع، وأبنية المجتمع في تناظر فائق في قصة (من ديوان المظالم)؛ فمجالات الرؤية محتملة، وتتقاطع فيها بهجة الزهور، أو الربيع الروحي بالدهليز الأسود، وتكويناته البشرية السوريالية المرعبة في وعي البطلة؛ فنعاين احتفالا بالعودة من رحلة الحج، ثم هيمنة للدهليز المظلم، ويظهر تكوين لرجل دميم ذي أنياب طويلة، يقوم بتقشير وجهه كما يحدث في سينما الرعب، ويبتعد بعربة طعام عن عجوز تطلب منه أن يعطيها طعاما، ثم تطلب شابة دواء من تكوين لممرضة لها طبيعة حلمية / معدنية، وتمسك بإبرة مخيفة، ويريد تكوين لرجل ملثم أن يذبح ناقة للجد، ثم تبدو نغمة الحب البهيجة في صورة الشاب الذي يطعم الطيور، وتفيق البطلة، ثم تومئ الساردة إلى فكرة التغيير الكامنة في صورة الشاب، ومدى تناقضها في الوعي، والواقع مع التكوينات المرعبة.
لقد تقاطعت أخيلة الحب، والقهر، وتولدت منها حيوات إبداعية نصية محتملة جديدة، ومشتبكة مع تحولات السياق الثقافي، والاجتماعي للبطلة؛ فصور الرجل الملثم، والعملاق الدميم، والممرضة المعدنية تشير إلى نهايات مستوى اللامعقول في قوته السلبية التي تناظرها حيوات بهيجة قيد التشكل في المشهد، وتشتبك الضخامة هنا مع دلالات التجبر في التراث الثقافي، وفي مستوى الغرائز الذي أشار إليه فرويد في تفسير الأحلام.
ويبدو وهج الذكريات، والأحلام كقوة حية مناهضة للموت، وحتميته في قصة (بن للحجة)؛ فالذكريات التي تنبعث بصورة متوهجة، ودائرية في وعي البطل، حول إتيانه بالبن، ذي الرائحة المميزة للحجة من يوسف القلش، وسخرية الأخير منه، والضحك، ودلالة الأمومة في عطاء الحجة بدون مقابل، تتخذ هذه الذكريات موقع الأصل البديل عن الواقع الذي يبدو فيه البطل مريضا، ويعاني من النسيان، والشيخوخة، وتنبهه ابنته غادة إلى موت من يذكرهم، وإلى اسمها الذي نسيه.
إن الهوية تتجلى في حالة من الفتوة، والتجدد خارج إيقاع الجسد، وآليته الضعيفة؛ وكأنها تجدد حياة الماضي، وأصواته، وضحكاته، والتفاصيل، والروائح التي تتهيأ لخلود محتمل في الوعي، واللاوعي، ويومئ النص إلى طيران الهوية، وحضورها الشبحي، وتحديها للحظة الزمنية المختلطة بالعدم في عوالم الكتابة، وتداعياتها كفعل يناهض الموت بوهج الأثر، والاستعارة.
ثالثا: السرد كمفتتح لقراءة النظائر المحتملة للذات:
قد تتعدد متواليات القصة في مجموعة عزة رشاد، وتحمل – في سياق ذلك التعدد- مسارات جديدة للأحداث، وثراء لهوية الشخصية، واتساعا لتواريخها المحتملة، وتنوعا في بنية الحضور نفسه؛ ومن ثم فتنوع متواليات القصة لا يحيل إلى تعدد في الصوت، وإنما إلى ثراء في كل سياق جمالي، أو واقعي يحيط به.
و تجمع ساردة عزة رشاد بين تشكيل القصة من متواليات وظيفية متسلسلة منطقيا، وتشكيل السياق المناظر من القصص الوليدة، والسياقات الجمالية المحتملة التي تفكك المسار الأول للحضور، دون أن تتجاوز الصوت الأول للشخصية؛ وهو ما يمنح النص ثراء، والشخصية اتساعا إبداعيا.
و يبدو التصور الفني السابق واضحا في قصة (قطوف دانية)، ونعاين فيها تسلسلا لوظائف السرد يتمركز حول منطق تنوع لحظة وجود البطلة بين الموت، والحياة، ثم تعلو الوظائف الحوارية للأصوات التي تحيط بها، وتشكل معرفتها بالعالم، وبالواقع الملتبس، وتنمو الحكايات الوليدة التي تثري النص بين الساردة، والأصوات الأخرى؛ لتعانق الشخصية عوالم أخرى مولدة من الواقع، والذاكرة الجمعية، ونماذج الوعي.
الأصوات تحيط بالبطلة، وتتنوع بين وصفها بالجنون، أو الموت، أو أنها تجري الآن عملية جراحية، وتصطنع لها تاريخا آخر، وتخبرها أنها بصدد انتزاع فص المخيلة من الدماغ، وتتوالى صور الجنة، والفواكه، والأنهار من ذاكرتها الجمعية، وتتمسك بعدم نزع فص الخيال، ورغم ترجيح مسار النص لمتوالية العملية الجراحية؛ فإنه يفكك مركزية الحضور، ويكسب صوت البطلة ثراء جماليا، ومعرفية حول اتساع الذات الداخلية، وتجاوزها لحدود الجسد، والواقع، والزمكان.
تقول الساردة في مقطع حواري:
"أنت ميتة، ولم يبق منك شيء حي سوى هذه المخيلة العصية على الموت ... الأمر لا يعدو أكثر من انتزاع فص صغير جدا من دماغك، وبعد قليل سوف يجرونك إلى غرفة الإفاقة". ص 104.
إن الساردة لتومئ إلى رحابة الذات، والمخيلة، والذكريات المبنية على الوعي الجمعي، وتشكل الصوت من ذلك التنوع، والاتساع الأول الذي يتخذ شكولا، وحيوات جديدة في الكتابة.
لقد أفادت الدكتورة عزة رشاد في تناولها لتجربة الوعي المبدع، وإنتاجيته كتيمة للكتابة من تخصصها في الطب، والكتابة، واستطاعت أن تولد دلالات ثقافية، واجتماعية، وذاتية جديدة في المجموعة، وما تحويه من شخصيات تجاوزت الحدود المسبقة، وعانقت شاعرية الوعي، وسياقاته الجمالية المحتملة في تداعيات الكتابة، وعوالمها الفريدة.
msameerster@gmail.com