لعل ترجمة نهى أبو عرقوب لكتاب “الكاتب والآخَر”، لكارلوس ليسكانو، هي واحدة من التجارب المتميزة في نقل أدب أميركا اللاتينية إلى العربية، وهذه الترجمة هي الأولى الصادرة في كتاب، بعد نشر الكثير من النصوص المتفرقة هنا وهناك، وقد تميزت بلغتها العربية الجميلة التي تكاد تخلو من عثرات التجربة الأولى في الترجمة.
في “الكاتب والآخَر”، يشتغل ليسكانو كاتب الرواية الشهير في الأورغواي على ثنائية الشخصية لدى المبدع/ الكاتب هنا، أو ما يمكن اعتباره نوعا من “الانفصام” في هذه الشخصية، حيث لكل مبدع شخصيتان، وكما يقول هو فإن “الكاتب دَوما اثنان: ذلك الذي يشتري الخبز، والبرتقال، ويجري الاتصال الهاتفيّ، ويذهب إلى عمله، ويدفع فاتورة الماء والكهرباء، ويحيّي الجيران؛ والآخر، ذلك الذي يكرّس نفسه للكتابة”.
تتشكّل هذه الثنائية للشخصية عند ليسكانو كما يأتي: ثمّة فرد هو واحد، وذات يوم يبتكر كاتبا ويصبح خادماً له. ومنذ تلك اللّحظة، يعيش كما لو كان اثنين. على من يريد أن يكون كاتبا أن يبتكر الفرد الذي يكتب أعماله. لأنّ الكاتب، قبل أن يبتكره الخادم، لا وجود له. وفي حين يعيش “المبتَكَر” في عالم من كلمات، فإن “الخادم” يعيش في الواقع. والمَخرج من هذه الثنائية/ الانفصام يكون في “إثبات أنْ ليس ثمّة اثنان، بل واحد، الاثنان هما واحد”.
يعالج المؤلف هذه القضية بأسلوب يقارب السرد الروائي الممزوج بقدر من التأملات النظرية، إذ يقدم المؤلف مقاطع من سيرته الذاتية المتعلقة بتكوينه منذ بدء الكتابة، وأهمية أن يكتب وأن يمنح الكتابة جل وقته واهتمامه، برعاية من الشخص “الآخر” الذي يسكن معه في الشخصية ذاتها.
وهو يتحدّث هنا عن اكتشافه الوحدة في سنّ الثالثة عشرة، فيقول إن “الوحدة هي شرط وجود، بلا وحدة لا أكون”. وربّما من هنا تأتي إرادته في ألّا يعيش الحياة التي أُعدّت له سلفا، والجرأة في العزم على أن يكون “آخرَ”.
تكتب المترجمة في تقديم الكتاب “أقول للقارئ الذي يقترب من هذا الكتاب، دون أن يمارس حقّه الشّرعي في القفز على المقدّمة، إنّه سيجد في الكاتب والآخر ليسكانو جوهريّاً، متأمّلاً، حادّاً، ومتألّماً.
ولعلّ خير طريقة لقراءته هي تذكّر الحقل المزروع بالألغام الذي هو مجمل عمله. لكنّ هذا الكتاب قائم بذاته. إنّ التأمّل حول استحالة الكتابة تقليدٌ مهمّ ورفيع في الثقافة الغربية. تولد الكتابة من رحم الصراع مع الحياة ومع الموت. في موضع الحدّ بين الضرورة والحرية”.
وتضيف أن ليسكانو “قد ابتكر لغة، طريقة، وحساسيّة خاصة في سرده، وشعرِه وأعماله المسرحية ومقالاته”. وأنه “ينطلق من العدم، ومن الصّمت”. و”إنْ حالف الحظُّ المرءَ، يحدث ابتكار الكاتب فيه قبل بلوغه الثلاثين”.
وبالنسبة إلى ليسكانو، فإن الكاتب يكتب كي يروي لنفسه حياةً “لأنّ الحياة التي يحياها لا تروقه”. ولكن ليس صحيحاً أنه يكتب لأنه يرغب في الاختلاف عن الآخرين، أو كونه يؤمن بأنّه يمثّلُ شيئاً ما، وبأن عنده ما يقوله للآخرين، فالكاتب- حسب المؤلف “ليس لديه أيّ شيء ليقوله أبدا”، ولذا “عليه أن يسكت، أن يمضي دون ضجيج. وللانتهاء من هذه المشكلة، ربّما عليه ألا يوجد، ألا يكون قد وُجد قط، ألا يكون له اسم، ولا بيت، ولا عائلة، ولا وطن.
أن يهجر الكلام. ألّا يكون”. لكن الكاتب يعتبر أن الكتابة هي الآتي: أن تمضي دون أن تعرف إلى أين ستصل. دون أن تعرف حتّى إن كنت ستصل إلى أيّ مكان. ويقول الكاتب لنفسه “إنّ الكتابة فنّ ساكنٌ، دون أن أعرف حتّى ما الذي يعنيه ذلك”.
وهو يرى أن الكاتب هو “صنيع" كتبه وشخصياته التي يخلقها، وهو ما عبر عنه في نهاية هذا الكتاب حين كتب “أمضي هكذا، ليلةً بعد ليلة، مترقبّاً، منتظراً، نادراً ما أصل، ولكنْ إن لم أترقبّ، فمن المؤكّد أنّني لن أحصل على شيء. أنا أفضل حالاً في الّليل. إنّ M هو من ابتكرني وقد ابتكرني في الظلمة”. و(M) هو، بحسب المترجمة “شخصيّة الرّاوي في كتابه الأول: قصر الطّاغية”.
مع أنه سيقول في موضع آخر “أنا لست شخصيّاتي، وعلى وجه الخصوص: أنا لست M”. وفي موقع مختلف “ابتكاري M، قد أنقذني. نعم، لقد أنقذني، أعتقد ذلك، وأقوله، وأكتبه. ولكن، ممّ أنقذني؟ من ألاّ أكون أنا، من أنّني لم أترك لنفسي أن أكون ذلك الذي كان ينبغي أن أكونه بالضّرورة؛ والذي ولُدت من أجله؟ أيّ شيء كان يمكن أن أكون لو لم أبدأ الكتابة؟”.
ولكن، هل يستطيع الكاتب التوقف عن الكتابة، وهجرها؟ وما الذي سيفعله حينذاك، لو توقف لسبب ما؟ هنا يجيب ليسكانو أن القضيّة ليست في كونه لا يستطيع هجر الكتابة، بل في أنّه لا يوجد لديه شيء آخر يتعلّق به.
فالكتابة حياة كاملة ومتعددة التفاصيل، يقول “إن أنا حذفتُ السّاعات التي أُمضيها في الكتابة، وفي التفكير في ما عليّ أن أكتبه، وفي تدوين ملاحظاتٍ من أجل الكتابة -إن طرحت هذه السّاعات- فإنّه، ودون مبالغة، لا يبقى أيّ شيء في حياتي؛ أيّ شيء على الإطلاق”.
وبقدر من المأسوية يسرد رؤيته لعلاقته بالكتابة وبالحياة اليومية، وضياعه بينهما أحيانا، فيقول" ثمّة أيّام أحبّذ فيها أن أنشغل بموضوعات لا قيمة لها، بأشياء صغيرة لا تعني شيئاً، بالتّفاهة.. بالتّرف! أقترحها على نفسي، وأطوّرها.يدوم ذلك عدّة أيّام، عدّة أسابيع. وفجأة، حيثما كنت، على الشاطئ، في أثناء عشاء مع الأصدقاء، وفي خضمّ تجاذبنا أطراف الحديث، أحدس بكلّ ما تبقى لي لكي أكتبه، ولن أستطيع كتابته أبداً لأنني لا أمتلك الموهبة ولا الوقت ولا التأهيل، فأغرق في اليأس لا محالة.
أرغب في الانصراف، في الاختفاء، في أن أسجن نفسي. ها هو الأدب يبسط سيطرته من جديد، على نحو سلبي. بهذا المعنى يهيمن الأدب على حياتي. ليس بمعنى أنّ عندي أشياء أريد قولها، بل لأنّه من دون الأدب تفتقر الحياة إلى المعنى، إلى المضمون، وإلى مكانٍ للوجود."