كانت البوابة الخشبية العتيقة المتهالكة هي نسق الدفاع الأول والوحيد عن البيت الريفي المتواضع المخصص لناظر العزبة، البيت يشرف من شبه تل على بيوت القرية الصغيرة، كان من طابقين وحوائط سميكة من الطوب اللبن والأسقف عالية من الخشب وجزوع النخيل، في خلفيته تمتد باحة متسعة تعج بالطيور الداجنة ويمرح معها قطيع صغير من الماعز والضأن بالإضافة لجاموسة حلوب تقبع آمنه تجتر غذاءها في أحد أركان الباحة القصية، أما على السطح فيصطف طابور طويل من الصوامع الطينية تقف شامخة تشي بما تحويه من مخزون أنواع البقول والحبوب وغير ذلك كثير من مظاهر الوفرة، كل ذلك كان وسط بحيرة لا بل بحر من الفقر والحرمان وبالطبع كانت بقية أحوالنا الميسورة تميزنا عن بقية سكان القرية الذي كان تعبير شظف العيش هو تعبير مهذب للفقر المدقع الذي كان يعم الجميع، ومع كل هذا التباين الشديد في الأحوال لم يترسب في ذاكرتي أنا الصغير أنني نمت ذات ليلة خائفاً، أو أنني استشعرت يوماً أن هناك في الأفق تهديداً من أي نوع يحوم حول حياتنا أو أموالنا أو عقيدتنا أو ثقافتنا، ولم يكن أبداً هؤلاء الفقراء (المتدينين) الذين كانوا جميعاً -عدا أسرتين أو ثلاث- من غير عقيدتنا لم يكن أبداً هؤلاء يوماً حاقدين أو معتدين أو متعصبين، كانوا فلاحين فقراء قانعين سمحى الوجوه يزرعون السلام ويلقونه تحية على الناس (قاصدين)، وكان ذلك أهم محاصيلهم، بالطبع عدا ما ينتجون لمالك العزبة من قطن وبصل وقمح وذره، كان ذاك منذ أكثر من خمسين عام وكان ناظر العزبة هو أبي والوظيفة هي مباشرة أحوال ما تبقى بعد الثورة من اقطاعية كبيرة لأحد أعيان المنطقة (من المسلمين)، لذلك وغيره لم أعرف من قبل هذا النوع من الخوف الدامي، هذا الخوف الجمعي من المستقبل حيث لم يعد الامر يتعلق بحادثة هنا أو هناك يقتل فيها بضع عشرات، لكن الأمر بات يتعلق بمسألة الوجود أو العدم لأعراق بأكملها، أعراق أصبحت مستهدفة استهدافاً ممنهجاً بقصد إبادتها، مادياً ومعنوياً، مستهدفة من قتالين محترفين ممولين بتمويل هادر من معاقل الإرهاب، مسلحين بأسلحة تدمير شامل من معاقل التكفير، نعم أسلحة تدمير شامل فتاكة هي نصوص مبتسرة من سياقاتها تحض وتحفز وتشجع وتدفع على الكراهية والبغض والعنف والقتل. نعم تمويل سخي وهادر من هؤلاء القابعين في الصحراء يتحرقون شوقاً في انتظار سقوط آخر قلاع الحضارة والمدنية والتعايش والتسامح في المنطقة كلها بعد سقوط العراق ولبنان وسورية، نعم مصر التي يتحرقون شوقاً لتصحيرها وتدميرها خشية تفشي عدوى الفيروس القاتل ووصوله لشاطئ الأحمر الشرقي، فيروس العدالة والتسامح والتحضر والعلم والتقدم والمدنية والمساواة. هذا هو الفارق بين الأمان الذي عشت فيه طفولتي وبين مزارع الخوف التي تنمو اليوم في العقول والقلوب وبالطبع سوف يكون حصادها المر ومنتجها الرئيس بغضاً وكرهاً وحقداً وغلاً ومقتاً وعداوة، حيث لم نعد ننتج في أم الدنيا المحروسة شيئا آخر فلم يعد ثمة قطن أو بصل أو قمح وصرنا نستجدي الغلة العطنة التي تعافها الدواب في بلادها. وموجات الخوف التي تهبط على أمه ربما يستطيع الكبار إزاحتها مؤقتاً، لكنها تستوطن قلوب الصغار الذين يستشعرونه من كم المزاليج والأقفال والسلاسل والعيون السحرية على خلفيات الأبواب، بالإضافة للحزن والكمد المطبوع على وجوه الكبار، إلى جانب ما تشي به مظاهر الخوف السائدة في الشوارع من الاسوار العالية والحراسات الخاصة وكاميرات المراقبة وأجهزة الإنذار و و و الخ. والذي يعتقد بأن جزيئات الخوف التي تنتشر في الهواء يمكن أن تستثني أحداً من أن تملأ رئتيه طفلاً أو شاباً أو شيخاً، أغنياء أو فقراء، كثيرون أو أقلية، الذي يعتقد في ذلك فهو واهم، فالخوف عندما يبث في مجتمع يملأ كل الصدور قسراً حتى وان بدا على بعض الوجوه عدم الاكتراث، فالظالم خائف والمعتدي خائف والمستبد خائف وكل صناع الخوف ومنتجيه ورعاته ترتعد فرائصهم، يخافون من أنفسهم ومن غيرهم، يخافون الكلمة الأخرى والثقافة الأخرى والعقيدة الأخرى والقبيلة الأخرى، ومن شدة خوفهم نذروا أنفسهم لإبادة كل ما هو آخر مختلف مغاير، ومع احترافهم لصناعة الخوف أصبحوا متمرسين على التمويه كما متمرسين على استخراج التأويلات والتبريرات التي يخدرون ويغيبون بها ضمائرهم. وانتشار سوق الخوف في هذه البقعة المنكوبة جعله صنعة العاطلين فإنتاجه ميسور وكلفته زهيدة وعائده مضمون من أموال الرعاه، ومن عائد الميديا الجائعة، والصفحات الحمراء المشبوهة في مطبوعات العنف والدم. وبمباركة الرعاه والتمويل السخي توحش صناع الخوف وجودوا منتجهم وحولوه من درجة التخويف إلى الدرجة العالية الرفيعة درجة الترويع الدامي حتى يستوطن الخوف تماماً ولا يغادر إلى الأبد تلك المجتمعات المقهورة. والخوف يفقد الناس الثقة في المستقبل ويصبح العيش في أمان هدف عزيز المنال يتطلع الناس إلى بلوغه بأي وسيلة، إما مغامرون بحياتهم يمتطون ألواح خشبية متهالكة لعبور بحار هائجة أملا في العثور على شاطئ آمن، أو العودة للخلف لإجترار أزمنة أمان غابرة أبداً لن تعود فقد رحلت إلى الأبد مع مقوماتها بيئة وبشر، أو القفز إلى الهاوية يأسا وقنوطا وهدم المعبد على رؤوس الجميع، هذا هو الحال في تلك المجتمعات الخائفة البائسة المقهورة، مجتمعات تسكن في أقفاص من الفولاذ هي تابوهات من غيبيات متوارثة تعيش فيها وبها مؤطرة بأنظمة فاسدة جاثمة على صدور البشر تتوارثهم كقطعان الابل، قطعان تائهة لا تجرؤ على مغادرة الصحراء وأن حاولت فخطواتها ثقيلة جبانة مترددة سبيلها غائم وهدفها مفقود، وبتوالى موجات الخوف تختلط جزيئاته مع خلايا البشر ويصبح مكون رئيس في أجيال مفترض أن تقود مستقبل هذه المجتمعات وتخطط لها وتتخذ عنها قراراتها المصيرية. إن استهداف بشر بسبب عقائدهم أو أفكارهم أو ثقافتهم هو تراث متجذر لدعاة استعباد البشر استعبادهم باسم الدين وهو الوسيلة المثلى التي يستخدمها الطغاة في القرن الواحد والعشرين لضمان أن يساس هؤلاء المقهورين دون تذمر أو احتجاج أو عصيان، وإلا هبّ فقهاء النظام وألهبوا ظهورهم بسياط نصوص طاعة ولي الأمر وحرمة الخروج عليه، إن ممالئة هذه الانظمة والتذلف لها بسبب ريالاتها هو إثم في حق هذه الشعوب التي سجنت قرون وقهرت أزمنة وأهينت حقب أبشع أنواع السجن والقهر وإلإهانة، منظومة حولت الرجال إلى مجرد عبيد، والنساء إلى مجرد جواري، والاطفال إلى مجرد نواتج متعة تملئ الشوارع، ان وطناً لا يوفر الامان لساكنيه هو وطن هش، إن وطنا لايجبر مكوناته على الإحترام المتبادل للعقائد والخصوصيات والثقافات لهو وطن مخترق يصبح مرتعا للفتن والتحريض وبث الكراهية، يصبح مزرعة للخوف والعنف والدم يصبح مستنقعا آسنا للفقر والجهل والمرض، وطن يصبح مستباحا عوراته مكشوفة ولا سبيل لسترها إلا بإعلاء قيم الحرية والكرامة والعدالة والمساواه بين كل من يعيش على أرضه، والذين يتحدثون عن تنمية وازدهار وتقدم هم كاذبون مضللون فصناع الخوف يعلمون تمام العلم تأثيره المدمر على كل مناحي الحياه بدءاً من سوق المال وحتى خلايا البشر. ويعلمون أيضا أن تسويق منتجهم المدمر مرتبط تمام الارتباط بتخلف هذه الشعوب وفقرها وجهلها . لكن الفجر قريب، ثقوا يامن تبيتون ليلتكم حزانى باكين، ثقوا أن الفجر قريب، ثقوا أن صانعي الخوف في عيون الأبرياء في مصر وفي لبنان وفي فلسطين وفي العراق وفي الصومال وفي السودان وفي افغانستان وباكستان، وفي كل بقعة مقهورة وموبوءه بهؤلاء القتالين بإسم الله، والقتالين باسم الدين، ثقوا أن كل هؤلاء ورعاتهم ومموليهم ومشجعيهم سينالون جزاءاً عادلا بحجم جرمهم في حق الانسانية إن لم يكن عاجلاً من الناس على الارض، فآجلاً من الله العادل في السماء،الله الذي يسمع صراخ المظلومين المقهورين المسبيين في أوطانهم وفي غير أوطانهم بسبب عقائدهم أو مذاهبهم أو أفكارهم أو أعراقهم أو لون جلودهم، ثقوا يا من تبيتون ليلتكم عيونكم شاخصة على مزاليج أبوابكم وعلى أوتاد خيامكم وعلى مضاجع صغاركم، صغاركم النيام بعيون دامعة خائفة نصف مغمضة، ثقوا... الفجر قريب، ثقوا بأن هؤلاء المدلسين الذين يعتقدون بأنهم استطاعوا اختطاف ثورات الشعوب وتحجيمها وتحويل دفتها إلى عكس اتجاهها، ثقوا أنهم لن يستطيعوا اختطاف ثورات قادمة بعد أن تكون كل أوراقهم المزورة قد كشفت على الملأ، ثقوا بأن المصريين الحقيقيين، وليس مترددو الهوية،ـ قادرون في ثورتهم التالية الأكيدة على كشف أساليب التقية الخبيثة التي تستهدف ايقاف عجلة الزمن عند عصور الاسترقاق والتخلف، استرقاق البشر بإسم الله وتخلف الشعوب بإسم الدين. ختاماً أرجو ألا تكون هذه الزفرة الطويلة قد خرجت ساخنه في وجوهكم أيها الأحبة.