عقب الانتفاضة الشعبية التي حدثت واشتعلت في الخامس والعشرين من يناير 2011، والخريطة السياسية تبدلت معالمها بصورة كبيرة بعد الدخول الشرعي للحركات الإسلامية إليها، وأصبحت جزءاً من تفاصيلها التي لا يمكن التغافل عنها بعد عقود بعيدة من الاستبعاد الاجتماعي والتهميش السياسي والملاحقات القضائية والبوليسية لها، وتمكنت بفضل الإحداثيات السياسية الوافدة على المشهد المصر في يناير منذ ثلاثة أعوام في الدفع بعجلة التحولات الاجتماعية والثقافية ومن ثم الشهود السياسي الذي يمكن توصيفه بالظهور التاريخي لهذه الحركات منذ نشأتها.
ورغم أن جميع حركات الدعوة الإسلامية ظهرت منذ ولادتها تحت ظروف استثنائية بعضها نتاج تغلغل ثقافي يعد من مكتسبات الثورة الإيرانية في سبعينيات القرن الماضي، أو نتيجة للاستقطاب السياسي الحاكم في عصر الزعيم الخالد محمد أنور السادات لبعض الشباب الذي وجد في الدين مخرجاً لأزماته الفكرية التي سادت الجامعات آنذاك، أو استدعاء نماذج دعوية لحركات نشأت قديماً في مصر كحركة الإخوان المسلمين، بالإضافة إلى المد الوهابي الذي غزا المجتمع المصري بدءاً من الأيديولوجية الذهنية انتهاءاً بالملبس والمأكل وطريقة الحياة عموماً.
وظنت حزمة الحركات الإسلامية في مصر أنها بزغ نجمها بسبب فصل الدين عن الدولة، رغم أن شهودها على مشهد مصر كان إفرازاً طبيعياً ومنطقياً لمحاولة الدمج بين الديني والسياسي بغير ضوابط أو شرائط حاكمة، اللهم سوى جملة شعارات مطلقة استخدمها أمراء الحركات الإسلامية، وأطلقوها إلى عنان مطلق التقطتها بعد ذلك الآلاف من المؤيدين تأييداً بغير رجعة حتى أولئك الذين قاموا بالمراجعات الفقهية لأحكام وأعراف بعض هذه الحركات لا أظن أنهم قد تخلوا نهائياً عن الأيديولوجيات الحاكمة، والمؤطرة لتلك الحركات بدليل أنهم سرعان ما ظهروا مجدداً عقب انتفاضة يناير الشعبية معلنين أن يناير ثورة دينية بثوب مدني، وحقيقة الأمر أن هوس شبكات التواصل الاجتماعي هو الذي فجر ثورة الشباب وغضبه.
ورغم أن هذه السطور تتناول بشيئ من الرصد مستقبل الحركات الإسلامية في مصر، والتي دخلت حلبة التصارع السياسي بغير شروطه، أو معرفة قواعده معرفة تامة، إلا أنه من قبيل صدق التأريخ لهذه الحركات أوجب علينا الإشارة سريعاً إلى أن جميعها ظهر وهو يبدو في حالة من الاختلاف مع المؤسسة الدينية الرسمية الأزهر الشريف. وبدا كل فصيل ديني في مصر يسعى جاهداً لتقويض فكر المؤسسة بدعاوى شتى، منها أنها مؤسسة وهيئة موجهة من جانب الدولة والنظام السياسي الحاكم، وأن الأزهر بشموخه وعراقته وبراعة مواقفه التاريخية على مرّ العصور تحول من وجهة نظرهم إلى فقه خاص بالحكام والرؤساء لذا فوجب عليه وعلى شيوخه التطاول والهجوم على فكرهم، الذي تجاوز إلى التهجم على حياتهم الشخصية وتناولها بصورة عامة تخالف تعاليم الإسلام نفسها في تحريم الفجور في الخصومة والتي حذر الرسول (صلى الله عليه وسلم) منها ومن فتنتها.
ورغم أن هذا الملمح صار بعيداً نسبياً وهو الهجوم على المؤسسة الدينية الرسمية، إلا أن هذا الملمح بدا هاجساً يراود تلك الحركات من حين لآخر، لدرجة أن بعض فقهاء هذه الحركات أبعد الأزهر الشريف عن خاصيته الرئيسة المميزة له وهي الدعوة الإسلامية والعمل على نشر الإسلام. وهذا الهجوم الذي لا يمكن التغافل عنه شكل قيداً جديداً على الأزهر الشريف الذي قيدته تقليدية العلوم والمناهج التعليمية، والتنظير العجيب لبعض المعارف الذي أبعد العلوم الإسلامية عن مناحي الوظيفية والتداولية، بالإضافة إلى قيد الحكام أنفسهم ورغبتهم في تسييس المؤسسة الدينية وإقحام مشايخها الأجلاء في قضايا السياسة الظنية.
وربما استند بعض فقهاء الحركات الإسلامية في مصر على تدخل الرئيس جمال عبد الناصر في شئون الأزهر كذريعة شاهدة على مدى استغلال السياسة للدين وتوظيفه لتحقيق بعض مطامحه ومصالحة للسيادة والتمكين السياسي. وكثير من مؤرخي حقبة عبد الناصر السياسية أشار إلى محاولات جمال عبد الناصر في الهيمنة على الأزهر وموارده الاقتصادية، حتى كانت السيادة والغلبة الناصرية على الأزهر الشريف حينما قام مهندسو السياسة الناصرية حينئذ في صياغة قانون تنظيم الأزهر في سنة 1961، والذي قوبل بصمت مطبق من جانب المؤسسة، ولم تصدر أية تصريحات أو تلميحات تشير إلى امتقاع المؤسسة الدينية من تدخل المؤسسة الرئاسية في شئونها، الأمر الذي جعل الحركات الإسلامية قاطبة ترى في جمال عبد الناصر عدواً يسعى إلى إضعاف مكانة الأزهر ودوره الديني.
وظل حال تلك الحركات الإسلامية حائراً بين الهجوم على الحاكم وحاشيته، والمؤسسة الدينية وشيوخها، والمجتمع الذي يسير بقوة إلى سفور الأخلاق وجنوح القيم والمبادئ، ولم تقدم هذه الحركات خطة واضحة المعالم من أجل إحياء الدولة المصرية أو قائمة من الأمصال التي تمزج بين الديني والسياسي سوى تعبئة الآلاف من المسلمين البسطاء، وتوجيه فكرهم إلى حقيقة واحدة لا فكاك من شركها وهي أن الدولة المصرية تتجه إلى العلمانية، وإلى إضعاف الإسلام والمسلمين بها، وإبراز أدوار أكثر أهمية للأقباط على حساب القطاع العريض والكبير من المسلمين، مستخدمين في ذلك بعض السطور المنسية من الصحف الأمريكية والبريطانية تحديداً بأن الدولتين تسعيان إلى بسط المفاهيم الليبرالية والعلمانية، والحد من خطر الحركات الإسلاميّة في المنطقة العربية عموماً ومصر بصفة خاصة.
ونجحت الحركات الإسلامية قبل يناير 2011 في جذب الاهتمام المصري والعالمي على السواء في استعداء الدول الغربية التي تفرض شروطها على الحاكم من خلال خطاب ديني يبتعد عن النخبوية في العرض، ويقترب من طرح الأسئلة التي تلقى قبولاً وصدى ورواجاً لدى مستمعيه من البسطاء والعمال والفلاحين وبعض موظفي الدولة الذين عانوا قهر الوظيفة وقمع المسئولين.
ومما ساعد الحركات الإسلامية في الانتشار وتحقيق الرواج الشعبي بين المصريين هو تفاقم الأزمات الاقتصادية وزيادة الفجوة الاجتماعية بين المصريين أنفسهم وظهر التفاوت بين هذه الطبقات بصورة مستعرة، وصار البعض ينظر إلى تلك الحركات على أنها اجتجاج اجتماعي يتخذ الإسلام قناعاً وأداة للتعبئة في مواجهة النظام السياسي الحاكم والمهيمن.
وكان من الغريب أن تتسم حركات ودعوات من المفترض أنها إسلامية بالتعصب واستخدام العنف والميل إلى الإرهاب، والدين الإسلامي نفسه دين تسامح، وربما ما نشهده اليوم من أعمال عنف وحوادث إرهابية تنسب لتنظيم الإخوان المسلمين هو امتداد طبيعي للفكر المتعصب القديم الذي يبدو كعادته عاجزاً عن التفتح على عصره الراهن، ومشكلة هذا التعصب والجنوح إلى العنف بسيطة تماماً، وربما يغفل المسئولون عن أمر السياسة في مصر بخبراتهم البعيدة زمنياً عن إدراك كنه هذه المشكلة، فظهور الحركات الإسلامية التي اصطبغت بالسياسة وارتدتها زياً دائماً ارتبط بالفترات السلبية التي تمر بها الأمم، وشيوع حالات من الفوضى والاضطراب السياسي الذي يهيئ ويسمح لهذه الحركات بالتواجد دون سند قانوني أو ديني، وسرعان ما تهرع تلك الحركات بعيداً عن الدائرة السياسية حينما يستقر الوضع السياسي والاجتماعي والأمني في البلاد.
وثمة علاقة واضحة المعالم بين ظهور الحركات الدينية في مصر وتحولها من السرية التي تصطدم بالسلطة من خلال أعمال فردية إلى العلانية، وبين البحث عن وجهة سياسية للوطن، تماماً مثل الظروف الراهنة التي تمر بها مصر الآن، وكم مدهش أن مصر وأهلها وهم في حالة ولع بالدين مستدامة ولا يمكن لأي مصري مسلم أن يبتعد عن دينه، وهو جزء متصل بحياته، نجده يصدق أن إسلامه يفصل بين دينه ودولته، وهو العالم والعارف بأول دولة في الإسلام والتي شيدها رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم)، والأغرب أن المواطن المصري رغم خبرته السياسة الإجبارية، والتي أجبرته على أن يصير محللاً سياسياً وخبيراً في شئونها، لم يدرك بعد الدوافع التي حملت هذه الحركات على الظهور مجدداً على المشهد بعد يناير 2011. وتبدو مشكلته في عدم إدراك هذه الدوافع أنه لم يستوعب مشكلات تكوين هذه الحركات والتحديات التي دفعتها إلى الظهور والإنشاء.
واليوم، وبعد إسقاط نظامين حاكمين في مصر يمكن توصيف الأول بالمدني، والثاني بالديني أي أن مصر قد جربت وجهي عملة السلطة بات المواطن اليوم يفكر في أمره جلياً، باحثاً عن طوق نجاة يخرجه من أمواجه السياسية المتلاطمة والتي لا يكترث منها إلا بالأشياء التي ترتبط بحياته وحياة أبنائه فقط، دون التطرق إلى شئون الحكم والسلطة وهي عادته القديمة أن ينتظر إلى أي شاطئ سيستقر به قاربه. وبعد إسقاط نظام سياسي صبغ بطابع ديني على سبيل المجاز لا الحقيقة، على تلك الحركات الإسلامية أن تقرأ المشهد المصري بروية وعمق، لعدة أسباب يعد أبرزها هو أن مصر عصية المراس بطبيعة تكوينها الزمني والجغرافي والاجتماعي.
وأضحى التفكير في دوافع أخرى لظهورها الشرعي على المشهد السياسي من أولى التحديات التي ستواجهها، ففكرة أزمة الهوية ونظريات المؤامرات الصهيونية، وتغلغل الإدارة الأمريكية بعولميتها، والاستقطاب الروسي بشيوعيته من القضايا التي لا مكان لها اليوم. أولاً لأن الشعب سيد قراره وأثبت أنه وإن كان يجيد الانتظار على مبارك طيلة ثلاثة عقود إلا أنه صار يمقت فكرة التجريب على يد رئيس غير خبير. كما أن فكرة البحث عن هويات محلية الصنع كالانتماء لتنظيم الإخوان المسلمين أو استدعاء حركات دينية قديمة ووئيدة الخطى للظهور مرة جديدة فكرة بعيدة التحقيق والمنال، لأن المشهد الاجتماعي وحركات الشباب بالجماعات صارت لا ولن تسمح بظهور غير مرخص لتلك الحركات إلا تحت سيادة القانون.
ومما سيساهم في زيادة التحديات، التي تواجه الحركات الإسلامية في مصر لاسيما عقب وجود رئيس جديد للبلاد والعباد، هو رسوخ الفكرة الوطنية بين الشباب والأجيال الجديدة الطامحة في تغيير المشهد السياسي بضغطة زر واحدة، ودونما انتظار لتوجيه أو نصيحة، بل إن إيمان الشباب الحالي بفكرة الوطن والتخلي عن القوميات التي من وجهة نظرهم لا تعود بالنفع على مستقبلهم وحياتهم على أرض مصر المحروسة، وأنهم استفاقوا على واقع مصر من زاوية صادقة بعيدة عن ما تقدمه المؤسسة السياسية الرسمية أو ما تعرضه وسائل الإعلام عن أخبار مصر، لأنهم باختصار صاروا صناع الحدث والخبر السياسي ولم يكتفوا بمقعد المتابع الصامت.
وفي الوقت الذي تنادي فيه مجمل الحركات الإسلامية بضرورة عودة الخلافة، مستندة على توجهات خليجية أو تركية أو إيرانية تحرك بوصلة التدافع الداخلي لها، فإن وعي المواطن وأعني فئة الشباب تحديداً بحاضر مصر ومستقبلها هو الذي سيوجه حركة التنظيمات الدينية في مصر باستثناء الحركة الصوفية التي لها طابعها الاستنثنائي الخاص والتي ترفض خوض المغامرة السياسية، بفضل أطرها النظرية وأفكارها البعيدة عن السلطة والحكم عموماً، ولأنها بمنأى عن لعبة الممكن والمستحيل حرصاً منها على السير في طريقها التي رسمته لنفسها على أيدي أقطابها ومريديها.
لذلك فإن قطاعاً كبيراً وعظيماً من الشباب غير المنتمي لفصيل سياسي أو أحزاب ورقية افتراضية تشبه الفيس بوك وتويتر، لم تجد حرجاً في عزل بعض الحركات الدينية كتنظيم الإخوان المسلمين عن المشهد السياسي لأن طموحاتهم صارت واقعية ولأنهم أدركوا وجودهم المؤثر في إحداثيات مصر وضرورة البحث عن هوية وطنية حضارية، تعيدهم وتعيد الوطن إلى ريادته التاريخية التي تحاول بعض الكيانات الصغيرة عدداً ومساحة مكانية وتاريخياً في اقتناص حق مصر الشرعي كبعقرية في الزمان والمكان والمستقبل.
ومن أجل نجاح الجمهورية المصرية الجديدة في نسختها الثالثة عليها أن تزيح بقوة كافة عوامل التعارض التي تمنع وتعيق أبواب الحوار المجتمعي السياسي، الذي أصبح ضرورة حتمية لا مناص منها، ولا يمكننا الفكاك من شرَكِها، لأن وجود ثمة عوارض تمثل مشكلة معقدة هي التي تدفعنا بغير قصد إلى التناحر السياسي والتزاحم غير الصحي، الذي يؤدي إلى نتيجة واحدة هي تقويض هذا الوطن.
وما يميز الحالة المصرية الراهنة هو جدلية التداخل بين الديني والمادي والسياسي والاجتماعي في سلة واحدة، وليس الحل بالقطع في إقامة فواصل بينية بينها، لكن إيجاد حالة مستدامة من الانسجام بين نقاط خلافية عدة تتطلب جهوداً مضمونة واستثنائية، لأن المشكلة القائمة بالفعل اليوم في المشهد المصري أن كل فصيل ديني أو سياسي أو شعبي أو حزبي أو مؤسسات اجتماعية غير رسمية يسعى جاهداً للنجاة بنفسه محاولاً إغراق الآخر، أو الهرب بعيداً عن مناطق الأزمات والقفز مجدداً على سطح المشهد السياسي وادعاء أدوار البطولة الوطنية والقومية.
ويخطئ من يظن أن أزمة مصر السياسية الراهنة هي أزمة دينية أو أن معضلة المشهد السياسي اليوم مرتبطة بالعقيدة، لأن المصريين عموماً نظراً لولعهم الاستثنائي بالدين عبر العصور لا يرون أن هناك ثمة خلاف في أمور الدين وقضايا، لكن تبدو الأزمة قائمة في التقاط التفاصيل الفقهية التي تخرج من حدود النص المبين القاطع إلى أحكام الاجتهاد التي قد تتعرض نوعاً ما إلى رياح الأهواء. لكن من يرى الدين وقواعده بصورة صحيحة فإنه لا يجد أية معارضة بين نصوص الشريعة القاطعة وبين التنظيم الاجتماعي القائم، وما بعض ممارساتنا الاجتماعية والسياسية الخاطئة إلا نتيجة طبيعية للجهل بقواعد الدين وأحكامه وقلة الخبرة في التعامل مع النصوص الدينية.
وحينما يطل علينا من كل فج عميق رجال يدغدغون أسماع العامة الذين قرروا هجر القراءة والمعرفة بمواضعات سياسية في الأصل لكن يتم استعمالها داخل سياقات دينية مثل الليبرالية وعلمانية الدولة وولاية الحاكم وغيبة الإمام وسلطة الأمير، فإن هذا لا يخرج عن كونه تشويهاً للوعي وابتعاداً قسرياً عن الغايات والسياسات الكبرى. والخلاف الذي يمكن رصده قبيل تدشين الجمهورية المصرية الثالثة هو افتقار إلى الإجماع والاجتماع على كلمة سواء، وفكرة غياب مبدأ جامع يلتحف به المصريون هي مقدمة سلبية لانتفاء وجود وبناء عقيدة اجتماعية واضحة المعالم بين المصريين.
ورغم حالات الولع بالدين لدى المصريين منذ ملايين السنين إلا أن في كل مرة لاسيما في العصر الحديث يفشلون في تقييم العلاقة بين الإسلام وأزمة السياسة العامة، وبدلاً من أن يفكروا خارج الصندوق أي يفكرون بطريقة إبداعية واجتهاد مقبول من الوجهة الشرعية، نجدهم ينادون بشعارات مثل التجديد الديني وتطوير الخطاب الديني وهم لا يفطنون أنهم يبحثون عن تطوير آليات لفهم النص الديني لا النص نفسه، لذلك نجد ضالتهم يفتشون عن نصوص بعينها تفسر حادثة سياسية أو ظاهرة اجتماعية، رغم أن النص الديني القطعي نفسه في حالات مستدامة من التجدد، مثلما يتجدد النظامان السياسي والاجتماعي كل صباح، ومشكلتنا بحق هي إدراك هذه العلاقة المتوازية بينهما.
ومصر، وهي على أعتاب جمهورية ثالثة جديدة نراها مصابة بداء إعلامي خطير يؤجج العلاقة بين الديني والسياسي ويعمل جاهداً على خلق مساحات شاسعة من البون والاختلاف، مظهراً إياهما على أن كل طرف منهما يشكل نزاعاً ضد مصلحة ورغبات المصريين، حتى يكاد المصريون أنفسهم يدخلون في دوائر لا حصر لها من الجدل بين أحقية أي منهما في الترتيب الزمني والسيادي، والبحث عن مكانة تليق بكل طرف، حتى استحال الإعلام لا بوصفه جهة رسمية بل الإعلام الشعبي أي العقار أو المصل الذي يتداوله الجميع يصور لنا أحياناً كل طرف وهو يتنازع مع الآخر، فيجزم المواطن البسيط بوجود حالة من القطيعة بين الديني والسياسي وأن ثمة معارك قائمة بين الفكر الإسلامي والفكر السياسي في الوقت الذي نحتاج فيه إلى جهد كبير لتطويرهما من حيث تطوير المفاهيم والمواضعات الشائكة واكتشاف شكل الدولة وملامحها في مناخ بات من الصعب فيه فصل الديني عن السياسي في مظاهره الاجتماعية.
وأصبحت مصر المؤهلة للإصابة بفيروسات الإعلام الموجه الذي يكرس إما للتعصب الديني البغيض الذي يسير في طريقه نحو تكفير المجتمع والدولة، أو الاستلاب السياسي الذي يرى أن هذا الحزب الورقي هو طوق النجاة، وأن هذه الجبهة هي معبر الوطن للخراب، وما نطالعه اليوم من صراع إعلامي ديني سياسي يذكرني بفكرة نظرية النشوء والارتقاء، وأن كل فريق منهما يبرر وجوده الزمني حتى يضمن لنفسه بقاء متطوراً أخشى أن أسميه نفاقاً أو عملية تجميل مستقبلية. وما يدهشنا بالفعل وربما يدفعنا إلى مزيد من الدهشة المستمرة أن كليهما الديني والسياسي المعاصرين في غيبة تامة عن واقع مشهود، ويكفي المواطن البسيط أن يطالع برنامجاً مرئياً أو يستمع إلى حديث بعض أفراد التيارات الدينية أو ممن ينتمون إلى النخبة السياسية، التي ندفع ضريبة أخطائها، ليدرك على الفور ملامح كل خطاب منهما. فالبداية اتهامات وإطلاق سهام موجهة إلى صدر الآخر وأن كل طرف منهما هو سبب اشتعال فتنة الوطن، ثم البحث عن تلفيقات تفصيلية لإضافة نوع من مكسبات الطعم نحو كراهية الآخر.
ومثلما أشار فقهاء الفكر العربي النهضوي أنه لا تجديد في الفكر الديني من دون تجديد في الفكر الاجتماعي والسياسي، وأن الثورة السياسية لا ولن تتحقق نتائجها المثمرة إلا بثورة مماثلة بهدف تحرير العقول وتنوير الألباب والأبصار، وإحداث ثورة مماثلة في الفكر الديني الذي بات رهن الجمود والتخلف وأصبح فريسة لإطلاق التصريحات التكفيرية بغير توقف أو مبرر منطقي، ونجاح دولة مثل مصر تؤمن بالمدنية مرتهن بانتصار ثنائي ديني وسياسي مشترك، لكن في ظل غياب واضح ومباشر في القيم الدينية والسياسية ورغبة البعض غير الفطرية في إقصاء الآخر هو لعبة خطيرة يدفع أبناء الوطن نتيجتها.
والفكر الديني الذي يحتاج إلى ثمة مراجعات حتمية، مثلما هو بحاجة إلى تنوير وتثوير لقضاياه، لا يرى في المشهد السياسي سوى معارك تاريخية ضاربة في الزمن، وكأنه في استباق حتمي مع الماضي غير مكترث بالواقع الراهن، وهو يتعامل مع مشهده السياسي بما اكتسبه من مثالب الحكومات والولايات التاريخية التي تعاقبت على مصر تحديداً في فترات نكباتها والفترات التي شهدت ضعف الولاة والخلفاء الذين توافدوا على مصر ولم يتركوا أثراً لهم سوى اسم شارع أو مسجد أثري أو حمام للرجال والنساء أو سبيل للعطشى.
ولا يمكن تجنب الحديث عن مثالب الفكر السياسي الحديث أيضاً، الذي يرى في نفسه أنه ثمرة جاهرة ويانعة صالحة للاستمرار والاستقرار بغير إرث زمني وتاريخي، وهو يشبه في ذلك بالجذر النباتي المعلق في الهواء لا أصل راسخ له، لذلك نجد هذا الفكر يمارس حقه في البقاء السياسي عن طريق مرجعية دينية، سرعان ما يتخلى عنها إذا ما واجه معارضة فكر المجتمع أو ظهرت مساعٍ شخصية لأعضاء هذا الحزب، وهو لا يرى في بقية الفصائل السياسية الأخرى خيراً أو بادرة أمل في مناخ سياسي راقٍ. وصورة أخرى متباينة تستبطن غاياتها السياسية وتظهر بشخصية أخرى تتمثل في نظريات ومبادئ سياسية تسعى إلى مزيد من الحريات والالتزامات القانونية.
لكن وسط كل هذا الرصد السابق للمشهدين الديني والسياسي، يمكننا تفسير السؤال الذي بات يشكل محور حديثنا منذ ثلاث سنوات تحديداً منذ اشتعال ثورة يناير البيضاء واهتزاز دفة سفينتها مرة، وغياب الرؤية لعوامل داخلية وخارجية مرة أخرى، والسؤال هو لماذا تحولت الدولة المصرية المعاصرة من الزاوية الاجتماعية إلى فكرة هشة الجذور والمرتكزات، وقليلة العمق في الشعور، مفتقرة هي ذاتها إلى الروح والحركة؟ هذا السؤال يذكرني باسم الديوان الشعري الاستثنائي لشاعر العصر الحديث محمود درويش حينما قال: "لماذا تركت الحصان وحيداً؟" هكذا نحن الآن بفضل ممارساتنا الفكرية الدينية والسياسية، نلهث وراء النيل من الآخر طبقاً لخبراتنا الدينية والسياسية الماضية دون أدنى اكتراث باستشراف المستقبل، ونحن في هذا نحرم الحرية من طيرانها، ونقصي الوطن عن تحرره.