يلاحظ المتتبع لتطور النقد الأدبي في العالم في القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، الاهتمام المتزايد بالنص باعتباره موضوعا للدراسة والتحليل وليس صاحبه. كانت بداية هذا المنعطف النقدي مع الشكلانيين الروس الذين مهدوا الطريق لمحاولة "علمنة" النقد الأدبي والحد من شطط التأويلات والانطباعات والإسقاطات، وبالجملة من شطط الذاتيات التي قد يسبغ عليها أصحابها تعسفا صفة العلمية. وقد كان لعلم اللغة دور مهم في هذا المنعطف النقدي.
كانت نتيجة ذلك أن ظهرت مصطلحات عديدة لها جذر واحد هو النص. منها: التناص L’intetextualité، والنص الموازيLe paratexte، والنص الحاف L’epitexte، والنص الجامع L’architexte، والتعالق النصي Transtextualité، والنص الظاهر Phéno-texte، التي يمكن التعرف على محتوياتها بالعودة إلى كتب النقد الأدبي المعاصر. هذا، ناهيك عما قدمته السيميائيات بشتى فروعها في هذا المجال. ولما انصرفت عناية باحثين ونقاد في الغرب أساسا إلى النص دون سواه أحيانا حيث حاولوا تشريحه تشريحا دقيقا، ظهرت مصطلحات أخرى مرتبطة بالنص منها المربع السيميائي، والتبئير، وتعدد الأصوات، والبرنامج السردي .. ويمكن القول إن السيميائيات قد ساعدت من أجل تحليل النص الدرامي والعرض المسرحي بطريقة تعتمد على ما يقوله وكيف يقوله النص الدرامي وكذلك العرض المسرحي. علما بأن القول في العرض المسرحي متعدد الوسائل.
في هذا الإطار لمعت أسماء في النقد الأدبي على المستوى العالمي منها فلاديمير بروب، رولان بارت، إيتيان سوريو، جوليا كريستيفا، بورس، تودوروف، غريماس .. وقد تعرف النقد الأدبي العربي المعاصر على هذه المصطلحات وهؤلاء النقاد والباحثين أيضا. ذلك أنه بعد الاطلاع على جديد الغرب النقدي، حاول نقاد وباحثون عرب تطوير النقد الأدبي العربي المعاصر بفضل اجتهاداتهم النقدية والبحثية. منهم على سبيل المثال عبد الله الغذامي، ومحمد مفتاح، وسعيد يقطين.
ورغم التطور المنهجي الذي عرفه النقد الأدبي في عصرنا هذا، سعيا نحو العلمية التي ترتكز على الحياد والموضوعية والاحتكام إلى النصوص وحدها، فإن النقد المسرحي المغربي، في بعض الممارسات، لم يتخلص بعد من أثر العلاقات الشخصية. لهذا توجد أحكام القيمة في عدد من الكتابات النقدية المسرحية المغربية اليوم. حين فحص عدد من تلك الأحكام والدوافع إليها تجد أن سببها هو العلاقة الشخصية. لهذا تختلف تلك الأحكام، إيجابا وسلبا، بحسب تلك العلاقة. وتجد أن الدافع إليها ليس النص بما فيه النص النقدي، وإنما علاقة الناقد بصاحب النص. لهذا استعملت في مقدمة كتاب "الوجه والقناع في المسرح" عبارة "امدحني أمدحك" بعد تقديم أمثلة نصية عن أثر العلاقة الشخصية في إصدار الأحكام. كما قدمت أمثلة نصية أيضا عن أثر تلك العلاقة في إصدار الأحكام في كتابي "نحو تحليل دراماتورجي". وقد تصدر أحكام عن شخص لفائدة آخر تناقضها أحكام أخرى لاحقا من قبل نفس الشخص بسبب تغير العلاقة بينهما! وهذا يبين بوضوح أن مصدر الأحكام الذات وليس النص، المصلحة وليس العلم.
ورغم تقديم الأدلة النصية القاطعة بوصفها وسائل إثبات، لأن العلم بدليله، فقد يغض الطرف من يعنيه ذلك التحليل وتلك الأدلة. أقول يغض الطرف ولكن لايجرؤ على الرد. كيف يرد مع وجود الأدلة التي مصدرها كتابته؟ هل يتنكر لكتابته؟ لكنه قد يلجأ إلى "الدغل والغش والمُراياة والتمويه والمغالطة" حسب تعبير الفارابي في كتابه "المدينة الفاضلة" (أبو نصر محمد الفارابي، المدينة الفاضلة، موفم للنشر، الجزائر، 2011، ص/160). غض الطرف عن الحجة النصية، واللجوء إلى المخاتلة، شهوة وغضبا، يكونان بسبب العجز أمام النص أي أمام الدليل. والشهوة والغضب من "عوارض النفس" حسب قول الفارابي.
في هذا الإطار، إطار المخاتلة، هناك طرائف. من بينها الاغتياب، والإشاعة، وتحريف الموضوع، والدعوة إلى عدم قراءة كتب من كشف عن أخطاء وهفوات صاحب الدعوة أو من هو على شاكلته، واستغلال المواقع، وكل "الموبقات" الفكرية والمنهجية التي تدل دلالة واضحة على العجز عن مقارعة الحجة النصية بالحجة النصية. وهي كلها أسلحة خشبية سهلة الانكسار لأنها تعبير عن رد فعل نفسي ذاتي.
وقد حسب بعض الخفاف أن الهرولة نحو مواقع معينة، قد تكون مشبوهة أو تم الوصول إليها بطرق مشبوهة، تغني عن العلم، مستثمرا هذا البعض هذا الموقع أو ذاك للنفخ في الذات في مجال يوجد على رأسه تعبير "تواضع العلماء". تعبير يتعلق بالعلماء فقط الذين يرون في أنفسهم أقل من رأي الناس فيهم، ولا يتعلق بالمتعالمين أدعياء العلم الذين يرون في أنفسهم أكبر من رأي الناس فيهم. راقبوا شبكة الإنترنيت ولاحظوا كيف ينفخ البعض من هؤلاء في أنفسهم ومكانتهم "العلمية".
لهذا وغيره أقول: لكم مواقعكم ولنا حججنا .. فالعلم بحججه لا بموقع صاحبه. لكم أن تبحثوا عن المنافحين والإمعات وأصحاب المصالح، لكن تأكدوا أن الحقيقة ستظهر ولو بعد زمن طويل إن لم تكن قد ظهرت.
إنني أطلب منكم فقط، وألح في طلبي، أن تقرؤوا النصوص بعيدا عن مواقع أصحابها، وبعيدا عن نوع العلاقة التي تربطكم بهم. كما أطلب منكم أن لا تجعلوا الاختلاف في الرؤية والاجتهاد والتحليل سببا للعداوة. إذا قدمتم اجتهادات ذات قيمة معرفية أو علمية فتأكدوا أنني شخصيا، على الأقل، سأكون لكم من الشاكرين. ألم يتقدم النقد الأدبي الغربي بعد أن حدد موضوعه وهو النص وليس الشخص؟.الجواب معروف تدل عليه المصطلحات المذكورة سابقا.
هكذا عوض أن يشتغل هؤلاء على النصوص وبالنصوص ينطلقون في كتاباتهم من النفوس، من عوارضها تحديدا بتعبير الفارابي، حسب ما يتراءى لهم أي حسب أوهامهم وتخيلاتهم. ينطلقون من النفوس إلى "النصوص"، لايحللون النصوص ولكن يسقطون عليها سيلا من الأحكام والانطباعات والكلام الإنشائي. وقد تسربت هذه الآفة إلى "أبحاث جامعية" أو توصف بكونها جامعية. وهذا أكبر خطأ منهجي حسب مقاييس عصرنا.
(ناقد مسرحي، المغرب)