أوَّلُ ما يلفت الانتباه في رواية أحمد سعداوي الحاصلة على جائزة البوكر العالميّة للرواية العربيَّة 2014، «فرانكشتاين في بغداد» (دار الجمل 2013ـ ط (6) 2014)، أنها تستدعي في الذّاكِرة اسم رواية المؤلفة البريطانية ماري شيلي «فرانكنشتاين» (صدرت سنة 1818)، التي تدور أحداثها حول طالب ذكي اسمه «فيكتور فرانكنشتاين» يكتشفُ في جامعة «ركنسبورك» الألمانية طريقة يستطيعُ بمقتضاها بعث الحياة في المادّة، فيبدأ فرانكنشتاين بخلق مخلوق هائل قاسي الملامح، هو أقرب إلى الوحش منه إلى إنسان، وجهته محاكمة زعماء العالم وقتلهم (موسوعة وكيبيديا بتصرف). وإن كانت فكرة الرواية في الأصل جاءت لتدين الاختراعات الحديثة التي تقتل وتهدِّد الحياة البشرية بالزوال، فالاختراع نحا عن الهدف الذي صُنع من أجله وهو مساعدة الإنسان، فراحت الآلة توزِّع من دائرة الانتقام فلم تكتفِ بالزعماء بل شملت ـ أيضا ـ مَن خلقها وصنعها. وهي الفكرة التي اعتمدها سعداوي في خلق شخصية الشِسْمَة، وإن كان البعض (كنجم والي) يرى أن ثمة اقتباسًا للرواية مِن فيلم «سبعة بالإنجليزية seven، وتكتب se7en» أُنتج في عام 1995، للأميركي ديفيد فينشير. الجدير بالذكر أنّ هناك مَن يرى أنّ شخصية «فرانكنشتاين تعدّ رمزًا ثقافيًا» على نحو ما رأت «سوزان تايلور هتشكوك» في كتابها المسمى بذات الاسم «فرانكنشتاين رمز ثقافي»، وقد كشفت المؤلفة فيه عن طبيعة الشخصية، وَقِدَم أصلها، وغموضه في ذات الوقت، وكيفية تشكُّلها، وقد أظهرت تأثيرها البالغ في الأعمال الروائيّة والمسرحيّة والسينمائيّة وأفلام الكارتون وأيضا ألعاب الفيديو التي استوحت الفكرة، بالإضافة إلى الإشادة بما حققته ماري شيلي من قبل النقد النسوي باعتبار أن العمل الذي يتحدّث عن الموت والحياة والخلق والدمار، مِن تأليف امرأة كانت صغيرة السّن في ذلك الوقت.
محاولة الاستدعاء لا يُنْكرها الكاتبُ في حواراته، وإنْ كان يُقلِّل مِن التأثّر المُباشر بالشّخصية، لكن المهم هو كيف جعل مِن شخصية فرانكشتاين، تُمثِّل للنموذج العراقيّ، وحالة الهجرة وتفتيت الهوية العراقيّة، وفي الوقت ذاته مُعَبِّرَة عَن حَالة الصِّراع الطائفيّ وحالة الانهيار الأمني الذي وصلت إليه عاصمة السّلام بعد دخول القوات الأمريكيّة لها بعد 2003، فتحوّلت بغداد تحت الاحتلال «إلى مكانٍ موبوء بالموت» وعندئذ يكون «الله فقط ليس طائفيًا ولا حزبيًا» كما جاء على لسان أحد شخصياتها.
(1)
تأتي هذه الرِّواية «فرانكشتاين في بغداد» لأحمد سعداوي، بعد روايتين سابقتيْن هما «البلد الجميل» الصَّادرة عن دار المدى وحازت الجائزة الأولى في مسابقة الرِّوايَّة العربيَّة في دبي 2005، والثانيّة «إنه يحلم أو يلعب أو يموت» التي حازت جائزة هاي فاستفال البريطانية 2010. عنوان الرواية الأخيرة في الأصل (رغم تناصه مع رواية البريطانيّة ماري شيلي)، اقترحه رئيس التحرير على باهر السعيدي لمقالة محمود السوادي عن الأحداث الأخيرة التي حدثت في حي البتاويين، بعنوان «أساطير من الشارع العراقي»، والتي بدّله رئيس تحرير المجلة إلى «فرانكشتاين في بغداد» مرفقة بصورة كبير للممثل ربورت دي نيرو بطل فيلمه الشهير فرانكشتاين» (ص، 153).
ينشدُ بطل رواية فرانكشتاين في بغداد، تحقيق العدالة عبر شخصية يختلقها «هادي العتّاﮒ» بائع العاديات في حي البتاويين يطلق عيلها «الشِسْمة» (التي تعني وفق المصطلح العراقي الذي لا اسم له)، وإن كان آخرون (وسائل الإعلام وجهاز الشرطة) يطلقون عليه المُجرم إكس، فهو «خلاصة ضحايا يطلبون الثأر لموتهم حتى يرتاحوا، وهو مخلوق للانتقام والثأر لهم» (ص، 144) ومع نُبل الهدف الذي يسعى إليه المؤلف وشخصيته التي قامت بالانتقام ممن حوَّلوا بغداد إلى غابة من القتل والصّرعى، ينتهي به المطاف من أجل المحافظة على ذاته أن يقتل أخرين من أجل بقائه وهي النظرية التي ترسخ لجوهر الديكتاتور الذي يعيش من أجل ذاته كما جسَّدتها الطبيعة في ذكر النحل، هو حيث بعد تحقيق العدالة كان الجزء الذي انتقم منه يسقط، فيبحث عن بديل حتى يستكمل مهمته.
(2)
يأتي وصف الكاتب لشخصية الشِسْمَة بأنها «روح تائهة»، على نحو ما عبّر عنوان فصلين هما (الفصل الثالث، والخامس عشر)، تعبيرًا صادقًا عن روح الشَّخصيّة العراقيَّة الشَّاردة والتائهة، وهو بهذا التوصيف تجاوز بشخصيته المُستدعاة من رواية ماري شيلي، فكرة الخلق التي تُنْسَبُ لشيلي، (وإن كان أبقى وظيفة الدمار) إلى وظيفة الشَّتات والقهر والبحث عن مُخَلِّص كما سعت الشّخصية الجديدة ذات الاسم المُتْسَّق مع القتل والدمار. فالكاتب أراد بهذه الشخصية أن ينتقمّ مِمن تسبَّبوا في الجرائم في العراق، لكن للأسف قدَّم طرحًا يتوازى مع ـ بل يؤكِّد ـ فشلنا في إدارة أزماتنا على نحو ما أدار العميد سرور الأزمة وردَّها إلى المنجميّن، فاستعار الكاتب بشخص هُلاميّ ليس له وجود واقعي هو أقرب إلى الخيال، وإن كنا أحوج إلى ذواتنا التي هي التي تقيم العدل لا أن نستعين بآخرين حتى ولو كانوا مِنْ صُنْعِنا، وربما هذا ما يؤخذ على النَّص، حيث الانتقام أو الثأر (رغم لدينا ميراث حافل في تراثنا يؤجج قيم الثأر) لم يأتِ بأيدينا وإنما بيد عمرو، وإن كنا نشدّد على أننا لسنا من دعاة الانتقام، بل الامتثال للقانون. فما قدَّم الكاتب من حلٍّ يعيدنا إلى تهميش مؤسسات الدولة المعنية بتطبيق القانون وحمايته ومعاقبة مخترقيه، وإن كان ثمة قائل بأن الدولة غائبة أصلاً.
في ظل هذا الحل الذي ارتضاه المؤلف أو اتسق مع الأيديولوجيا المهيمنة، والعاجزة عن الفعل تحوّلت الشخصيات ـ بدون إرادة منه أو بها ـ إلى ضدّ وليست إشكالية كما كان يريدها، لا فرق بين شخصية الشِسْمَة ذاته، الذي تحوَّل مِن شخصٍ مهمته كما حدّدها من قبل تتمثّل في.الثأر أو كما يقول بنفسه «أنجز أمثولة القصّاص، قصاص الأبرياء الذين لا ناصر لهم إلا خلجات أرواحهم الداعيّة لدفع الموت وإيقافه» (ص، 157) إلى مجرد كائن يسعى للبقاء على حساب آخرين، بعدما بدأت تتساقط أجزاء من جسده كلما انتهى من الثأر لإحدى الشخصيات، وكذلك بعض الشخصيات الأخرى كالصحفى محمود السوادي الذي بدأ في أوّل أمره إشكاليًا عندما كان يكتب في جريدة «صدى الأهوار» قبل أن ينتقل إلى بغداد، لكن التغيرات بدأت بعد مطاردة الكوربان له، إثر مقالته عن وجوه العدالة واختفائه في البيت، ثم ازدادت إشكاليته بالهروب إلى العاصمة، وترقيه في الجريدة، لا لكفاءته وإنما لأنَّ رئيس التحرير وجد فيه شخصًا مُطابِقًا له، وهو مع الأسف راحَ يؤكّده بتقمصّه لشخصيته بِمَسْكِهِ للسيجار، وأيضًا في حبِّهِ لذَّات الفتاة التي كانت تطارد السّعيدي نوال الوزير، وعندما تمّ القبض عليه لم يفعل شيئًا غير الاعتراف ودلّهم على كلِّ شيءٍ حتى المسجلة الديجتال، والكارت ميموري. كما أن صديقه السعيدي جاء شعاره في الحياة «خير وسيلة لاتقاء الشر هو أن تكون قريبًا منه» (ص، 196)، وهو ما يؤكّد سياسة المواءمة، والمحاصصة التي صارت عنوانًا كبيرًا للعملية السياسية داخل العراق. ربما الشخصية الوحيدة التي قاومت وظلت إشكالية هي أم دانيال التي رفضت أنْ تُسلِّم بأمر موت ابنها الذي فقدته قبل عشرين عامًا في الحرب الإيرانية، أو حتى تقليل نظرات الاحتقار والدعاء على المُتسبب في ذهابه إلى التجنيد أبو زيدون الحلّاق، والأهمّ هو رفضها للهجرة والتي كانت تُلِحُّ عليها بناتها كثيرًا بشأنها، ورفضها أيضًا لابتزازات فرج الدلال الذي كان يريدُ أن يأخذ البيت لنفسه، وإنْ نجحَ في نهاية الأمرِ، بعد قبول العجوز إيليشوا أمر الهجرة، بعدما تراءتْ لها صورة ابنها في صورة حفيدها، ما عدا ذلك فالشخصيات غارقة في سلبيتها، وهو ما دفع الكاتب باعتبار شخصية الشِّسْمَة هي البديل المقاوم للظلم، وفي هذا يقدِّم حل العاجزر الباحث عن بديل ومخلص يقوم بما فشل فيه.
(3)
إلى جانب الخيط الأساسيّ حكاية الشِسْمَة، التي تدور في محورها أحداث الرِّواية إلا أنها تقدِّم صورًا متنوِّعة عن واقع العراق، فيضعنا الكاتب في مُفارقة عبثية لا تقلُّ عن تلك المُفَارقة التي يعيشها العراق الآن، أبدع الكاتب في توصيفها من خلال جعل روايته تبدأ بانفجار رهيب يهزُّ بغداد وتنتهي بآخر في حيّ البتاويين حيث تدور أحداث الرواية، وبين الانفجارين ثمّة انفجارات متعدِّدة، في حي الكاظمية ومدينة الصدر وحي المنصور والباب الشرقي وساحة الطيران،... إلخ، جميعها مُلَخَّص لحالة العراق التي عاشتها (وتعيشها) بعد وهم حرب التحرير الأمريكيّة. حتى صار البعض «يتمنى أن يأتيه الموت أو يدخل في نشرات الأخبار» (ص، 118)، فيرصد الكاتب واقع العراق الآن بعد انتهاء الحرب، والصِّراعات الطائفيّة أو الحرب الأهليَّة أحد إفرازاتها، وحالة الشّتات التي يعيشها العراقيون في المنافي، في مقابل حالتي الرّعب والقلق اللتين تساير الأبناء على ذويهم الذين رفضوا الهجرة كنموذج العجوز إيليشوا وبناتها وحالة القلق عليها، دون أن ينسى أن يشير إلى حالة التوحُّد مع المكان ورفض تركه، وهي التي جعلت البعض يختلق البديل في معايشة الواقع المؤلم كتخيّل أن هناك مَن يسمع وتتحدّث إليه كما هو في نموذج العجوز إيشليوا وحديثها مع صورة القديس، والقط نابو، كما يقدِّم صور لحالة التعدُّد الإثني داخل العراق وتعايش المغتربين كعزيز المصري صاحب المقهى، ولقمان الجزائري مع أبناء العراق على اختلاف هويتهم. لا ينفصل ماضي العراق البعثي عن حاضرها تحت الاحتلال فالتاريخان مرتبطان، أو على الأقل ماثلان في ذاكرة الشخصيات عبر الأحداث المؤسفة التي كانت سببًا في غياب الأبناء أو مقتلهم بسبب إشراكهم في أم المعارك كسليم ابن أم سليم ودانيا ابن المرأة العجوز، وهو الماضي الذي كان يطل في صورة أبو زيدون الحلاق، السمسار الذي قاد الأبناء إلى التجنيد.، أو عبر حالة القتل الجماعي كما حدث للأكراد في حلبجة، وهو ما أكسب الرواية زخمًا، وإن كان لا يقف الرواي كثيرًا عند هذه الأحداث إلا أنه لم يتغافلها وسط انشغاله بعراق اليوم، وما تشهده مِن صراعات وهجمات واقتتال طائفي، فتحوّلت العراق على يد النخب أو السياسيين إلى مجرد أسماء ومصطلحات تتبدَّل فيها الحرب الأهلية، إلى حرب نمطية، حيث «الأوضاع العامة تتجه إلى تدهور أكثر، الصراعات على شاشات التليفزيون بين السياسيين تقابلها حرب فعلية في الشوارع أدواتها المفخخات والاغتيالات والعبوات الناسفة واختطاف السيارات بركابها، وتحول الليل إلى غابة مجرمين»(ص، 199). وما تبعها من انتشار تجارة الحرب على نحو شخصية فرج الدلال ومحاولة استغلاله حالة الحرب وشراء كل ما تقع عليه يديه، وإن انتهى نهاية بشعة بسقوط بيت العجوز وخسارته للكثير من الأموال بعد تهدُّم فندق عرفة، وأيضًا ظهور رجال ما يُسمى بالمرحلة كشخصية العميد سرور مدير دائرة المتابعة والتعقيب.
كما يقف الكاتب عند المعتقدات العراقية كالإيمان بالشعوذة، والاشاعة التي وجدت رواجًا في ظل غياب المعلومات الدقيقة؛ إشاعات عن علاقات مع رجال الأمن أو مع الأمريكان، أو حتى علاقات نسائية كما في حالة "أبو أنمار" صاحب فندق العروبة، وعلاقته بالمرأة الأرمنية فيرونيكا التي تأتي لتنظف له الفندق كل أسبوع، وقد يصل بعضها إلى الادّعاء أن ابنها المراهق أندروا هو أبوه الحقيقي، وقد تكون الإشاعة سببًا في قتل أكثر من ألف شخص أثنا عبورهم على جسر الأئمة، حيث أُشيع عن وجود انتحاري فداست الأقدام مَن داستْ وقفز في النهر مَن قفز. بل يشير إلى أن الحكومة كانت تستعين بالجان في حروبها، وهي الأخرى تكشف عن العجز واللجوء إلى حلول تلفيقية وغيبية، وأيضا ارتباط البركة ببعض الأشخاص فيجعل من وجود العجوز إيليشوا حائلاً لعدم حدوث الانفجارات وما أن ترحل حتى تهز الانفجارات حي البتاويين.
(4)
يعمد السَّارد إلى تقسيم نصه إلى وحدات سردية عبارة عن فصول مكوّنة من تسعة عشر فصلاً تأخد عناوين مستقلة، لم يتكرَّر العنوان غير في الفصلين الثالث والخامس عشر (روح تائهة)، تبدأ بالمجنونة وتنتهي بالمجرم، وإن كانت الفصول مسبوقة بتقرير نهائي تحت عنوان «سري للغاية»، هو عبارة عن النتيجة لما حدث بعد الانفجار الأخير في حي باليتاوين، وإن كان هذا التقرير ينحي بالنص إلى نوع من التوثيق التاريخي، والميل بالنص إلى الأرشفة حيث توثيق الأحداث التي وقعت في فترة سلطة الائتلاف بقيادة بول بريمر 2003،
أما داخل الفصول فيقسمها إلى وحدات قصيرة تأخذ هذه المرّة أرقامًا متسلسلة لا تتجاوز الرقم 5، بعضها قصير والبعض الآخر يميل إلى الطول، في داخل الفصول يتبنى السارد نظام المونتاج السينمائي حيث تقطيع الحدث وتوزيعه ثم العودة إليه مرّة ثانية وهي تقنيّة مستفادّة من عمله في إخراج الأفلام الوثائقية. كما يمزج الكاتب بين السَّرد الشِّفاهي الذي يأتي على لسان هادي العتاﮒ لأصدقائه في المقهى والحكاية المكتوبة والمسجلة عبر تسجيل الصحفي، وهو ما صحابه تعدُّد في تقنيات الكتابة ما بين سردٍ يميل إلى الغرائبية كما هو عند هادي نفسه، وفي بعضه إلى الاعترافات كما في رواية الشِسمة، وثالث يميل إلى التحقيق الصحفي كما جاء مرويا ومنشورًا على لسان الصفحي، وهو ما تبعه تعدُّد لغوي موازٍ، فمالت اللّغة إلى البساطة، وفي كثير منها مطعّمة بالدارجة العراقية، خاصة في وصف أنواع الطعام والمشروبات، بالإضافة إلى الحوارات، كما أنه مَالَ إلى اسخدام اللغة السوريانية مع العجوز والحفيد دانيال، دون أن يقدم ترجمة لما دار بينهما وهو ما سبب غموضًا، كما استخدم بعضَ الكلمات الغريبة «كريمونت» دون أن نعرف مصدرها حيث المعروف «ريموت»، وأيضًا «أيقضه» كبديل لأيقظه، على كلّ فهي لغة وصفيّة تعبيريّة، خلت من المجازات أو الصُّور المركبة لتناسب الحدث المسرود، الذي مال في بعض منه إلى الطابع البوليسي.
(5)
سيطر على معظم أجزاء النَّص الرَّاوي الغائب المُلاصق للشَّخصيات والمُتتبع لتحركاتهم وكذلك خلجات أنفسهم، باستثناء الفصل العاشر المعنوّن بالشسمة جاء بالضمير الأنا، وهو كنوع من الاعتراف يلقيها الشمسة في التسجيل الذي منحه له هادي العتاك من قبل الصحفي محمود كنوع من تبرئة ذاته من وصفه كمجرم كما أقنعه هادي العتاك، ومع هذه السيطرة التي أعطت له مساحة للرؤية أكبر من رؤية الشخصية نفسها المروى عنها، كما هو حادث فيما يقوله عن حالة هادي بعدما اقتحمت الشرطة بيته هكذا يأتي السَّرد من منظور أعلى «سيصاب بنوبة غضب شديدة، ولكنه لن يستطيع القيام بشيء آخر» (ص،231). وهو ما أعطى للراوي الحرية في أن يرصد حديثين في وقت واحد وكأنه عين الكاميرا الراوي: لاحظ رصده لشرب فرج الدلال شايه بهدوء في مكان مقتل الشحاذين الأربعة، وفي مكان مغاير وإن كان في زمان واحد يرصد شخص آخر يقوم بذات الفعل: هكذا«كان هناك مَن يشرب شايه بهدوء أيضًا إنه العميد سرور محمد مجيد المدير العام لدائرة المتابعة والتعقيب»(ص، 82). لكن في بعض أجزاء النص نفتقد هوية الراوي على سبيل المثال «لماذا يفعلون هذا؟ إنهم غير معنيين بهذه التفاصيل إنهم جامعو معلومات، لماذا يطعنون أحدًا ما من أجل المعلومات»(ص، 221).