يرى الأمين العامّ للحزب الاشتراكيّ التّونسيّ في هذا الحوار أنّ الحزبَ ما يزال في طور البناء، وأن الحركةُ النضالية الناجعة يجب أن ترتبطَ بوعي النّاس، وأن تكون حسْب مدى استعداد الجماهير للتّحرّك، وأنّ الفكرةَ الماركسيّة تحمل في طيّاتها حلمَ "الشّيوعيّة"، ويوضح أسباب المأزق التاريخي الذي يعيشه اليسارُ الماركسيّ، وأسباب نجاح الإسلامُ السّياسيّ المتطرّف حيث فشل اليسارُ العَلمانيّ المستنير.

محاورة سياسيّة مع السّيّد: محمّد الكيلاني

الأمين العامّ للحزب الاشتراكيّ التّونسيّ

فوزيّة الشّطّي

إعداد وتحرير

وُلد "محمّد الكيلاني" في 31 جانفي 1949 بمنزل تميم من ولاية نابل (الوطن القبليّ)، درس في كلّيّة العلوم بتونس العاصمة اختصاصَ الرّياضيّات إلى حدود 1975، لكنّ الانقطاع الفعليّ عن الدّراسة يعود إلى نوفمبر 1973 عندما بدأ تتبّعُه في القضيّةِ عدد (101) الخاصّةِ بـ منظّمة "آفاق"[1] الّتي كان انضمّ إليها سنة 1973. فعاش في السّرّيّة، ونشط أثناء ذلك في صفوف "الاتّحاد العامّ لطلبة تونس". تمّ إيقافُه في العهد البورقيبي من ثورة اشتراكيّة إلى ثورة ديمقّمعارةَ أنّ وصولَ الطّبقة العاملة في فرنسا إلى سدّة الحكم سيحقّق آليّا يّ في 28 فيفري 1975، ومثَل ضمن مجموعة "العامل التّونسيّ" أمام محكمة أمن الدّولة من 7 جويلية - 4 أكتوبر 1975. حكم عليه بـ9 سنوات سجن. غادر السّجنَ في إطار عفو رئاسيّ أواخرَ جويلية 1980. ساهم في تأسيس "حزب العمّال الشّيوعيّ" المعلَن عنه يومَ 3 جانفي 1986. حُوكم من جديد عامَ 1988 في "قضيّة قابس"[2]. لجأ مُحاورُنا إلى السّرّيّة إلى أن قدّم اعتراضا على الحكم طالِبا إيقافَ التّتبّع في شأنه، وحُكم له بعدم سماع الدّعوى. بمناسبة الذّكرى الخامسة لـ "7 نوفمبر 1987" أصدر "حزبُ العمّال" في 1992 بيانا يحوي تقييما سلبيّا لأوضاع البلاد. فأُوقِفَ بمنطقة المروج (2) في 28 جانفي 1995.  ثمّ تمّتْ محاكمتُه وسجنُه. وأُطلق سراحُه في نوفمبر من نفس العام بموجب عفو رئاسيّ. قبل ذلك كان قد قدّم استقالتَه من "حزب العمّال الشّيوعيّ" في 1993. وساهم عامَ 1999 في تأسيس "الحزب الدّيمقراطيّ التّقدّميّ" دون الانضمام إليه. أعلن في 1 أكتوبر 2006  عن تأسيس "الحزب الاشتراكيّ اليساريّ" الّذي حُذفت من اسمه صفةُ "اليساريّ" أثناء المؤتمر الثّاني المنعقد يومَ 28 مارس 2012 بعد أن عُرضت المسألةُ على الاستفتاء. فصوّت ثلاثةُ أرباع الأعضاء والمنخرطين تقريبا مع الحذف تجنّبا للتّكرار لا تغييرا في مرجعيّات الحزب أو في برنامجه.

ألّف ستّةَ كتب هي: "الحركة الشّيوعيّة في تونس (1920-1985)"، "الماويّة معادية للشّيوعيّة"، "في الحكم الفرديّ"، "التّروتسكيّة والتّروتسكيّون في تونس"، "التّجربة السّوفياتيّة: اشتراكيّة أم رأسماليّة؟ نحو تجديد المشروع الاشتراكيّ"، "النّظامُ العالميّ الجديد وحربُ الخليج". وأصدر حواليْ ستّين كرّاسا هدفُها التّثقيفُ الحزبيّ والسّياسيّ للأعضاء أو التّعبيرُ عن مواقف الحزب من قضايا متنوّعة. وهو الآن بصدد تأليف كتاب عن "الثّورة التّونسيّة" الّتي يعتبرها "انقلابا نفّذتْه الأجهزةُ الأمنيّة والعسكريّة والسّياسيّة مُتستّرة بحراك شعبـيّ".

1-               ما موقعُ "الحزب الاشتراكيّ" من الحياة السّياسيّة التّونسيّة ومن اليسار العربيّ والعالميّ إجمالا؟

لا علاقات لدينا مع اليسار العربيّ ولا العالميّ لسبب بسيط هو أنّ حزبَنا ما يزال في طور البناء ولم يشتدّ عودُه بعدُ. وجودُنا على الميدان التّونسيّ ما زال هشّا. وعندما يصبح ذا شأن سنلتفتُ إلى اليساريْن العربيّ والعالميّ. وحينها ستربطنا بهما علاقاتُ اتّفاقٍ والتزامٍ بالاتّفاقيّات حتّى نكونَ في موقع المسؤوليّة. أمّا الآن فمواردُ الحزب محدودةٌ جدّا لأنّ أغلب منخرطيه من المعطّلين عن العمل ومن الطّبقات الاجتماعيّة الضّعيفة. ننتظرُ تسويةَ مسألة تمويل الأحزاب الّتي تضبطها قوانينُ ظلّت إلى يومنا هذا نصوصا معلَّقة ولم تدخلْ بعدُ حيّزَ التّنفيذ لكوْنها سُنّتْ بعد الانتخابات التّأسيسيّة في 23 أكتوبر 2011. ومن المفروض أن يتمّ تطبيقُها في المستقبل القريب.

أمّا موقعُنا في الحياة السّياسيّة التّونسيّة فهو موقعُ الحزب المجدِّد سياسيّا وإيديولوجيّا وتنظيميّا، هو حزب منقادٌ بالعقلانيّة وبقراءة موازين القوى في البلاد، جلُّ تحرّكاته مدروسةٌ ومُقاسة حسْب إمكانيّاته وحسْب ما تتيحه الظّروفُ للنّاس من إمكانيّات كي يدخلوا في حركة نضاليّة. أعني: كي تكون الحركةُ ناجعةً يجب أن ترتبطَ بوعي النّاس في قطاع مّا أو في البلاد عامّة وأن تكون التّحرّكاتُ حسْب مدى استعداد الجماهير للتّحرّك. فإيمانُ النّاس بنجاعة فِعلهم سيدفعهم تدريجيّا إلى تحرّكات أرقى. في هذه المسألةِ أختلف مع أغلب مكوّنات الطّيف اليساريّ التّونسيّ: اليسارُ يُسقط الوعيَ الحاصلَ لديه على عموم النّاس. فلا يكفي أنّه متعالٍ على واقع الجماهير، إنّما هو متسلّطٌ على الوعي العامّ.

2-              الشّيوعيّون جزءٌ من الكلّ اليساريّ الماركسيّ. فما هي الخصوصيّاتُ الّتي تميّزهم عن شُركائهم في الحاضنة الإيديولوجيّة الماركسيّة؟ أيْ على أيّ أساس يكون اليساريُّ "شيوعيّا" أو لا يكون؟

لا أرى فارقا جوهريّا بين الأمريْن باعتبار أنّ الفكرةَ الماركسيّة تحمل في طيّاتها "حلمَ" الشّيوعيّة. فالشّيوعيّةُ جاءت مُصاغةً بشكل طوباويّ حتّى في النّصوص الماركسيّة التّأسيسيّة. شخصيّا لا أتوقّع أنّ إنسانا مّا قادرٌ على أنْ يتصوّر الحالةَ الّتي ستكون عليها المجتمعاتُ خلال قرن أو قرنين من الزّمان. ها نحن نرى الرّأسماليّة تُغيّر أساليبَ إنتاجها، تصنعُ الأزمات لتقضيَ على المنتوج المتراكِم ولتُهمّشَ الجزءَ الهامّ من الطّبقة العاملة الّذي حقّق مكاسبَ معيّنة، فتُجرّده منها كيْ تفرضَ عليه القبولَ بالشّروط الجديدة للعمل. سيستفيد الشّغّالون حتما من هذه التّجارب المتراكمة في صراعهم مع الأخطبوط الرّأسماليّ. ثمّ إنّ النّخبةَ صارتْ جزءا من الطّبقة العاملة. فهي مضطرّة، كي تعيشَ، إلى أن تبيعَ قوّةَ عملِها الْمُجَمَّعةَ (القوّة الذّهنيّة). لذلك تقلّص إلى أبعد الحدود مجالُ الانتفاع بما لديها من موارد إضافيّة. الأمرُ الإيجابيّ أنّ هذا الوضْعَ الجديد قد وفّر نفْعا للطّبقة العاملة. إذْ أصبح عملُها مزيجا من صنفيْن: قوّةِ العمل الطّبيعيّة (Brute) وقوّةِ العقل. لذا عليها أن تُغيِّر أساليبَ الصّراع والنّضال بما لها من إمكانيّات جديدة. وهذا سيُغيّر بالضّرورة الصّراعَ الطّبقيّ من حيث مظاهرُه وأساليبُه وأهدافُه. فرأسماليّةُ العولمة ليستْ رأسماليّةَ بداية القرن العشرين (تاريخ الثّورة البلشفيّة الاشتراكيّة: أكتوبر 1917).

الرّؤيةُ الماركسيّة للعالم تُشكّل الأداةَ الفعّالة للتّحليل. وما عدا ذلك فهو تنظيرٌ للواقع. أستحضر في هذا السّياق قولَ فريديريك إنجلز: «الشّيوعيّةُ هي دليلُ العمل». إذنْ، يجب أن نعرفَ الواقعَ لنُحسنَ استغلالَ هذا الدّليل.

3-               بِم تفسّر ضُمورَ اليسار اليومَ على السّاحة العربيّة سياسيّا وفكريّا وجماهيريّا؟ هل يكفي التّعلّلُ بسقوط المعسكر الاشتراكيّ السّوفييتيّ وبتغوّل الإمبرياليّة الأمريكيّة؟

سقوطُ المعسكر السّوفييتيّ وتغوّلُ الإمبرياليّة الأمريكيّة هما، حسْب رأيي، سببان ثانويّان. اليسارُ الماركسيّ عموما يعيش مأزقا تاريخيّا: لم يُقيِّمْ تجربتَه بصورة موضوعيّة، ولم يَرجعْ إلى تاريخ التّجارب الشّيوعيّة في الاتّحاد السّوفييتيّ وفي الشّرق (الصّين ويوغوسلافيا). الخطأ أنّ كافّةَ التّجاربِ الشّيوعيّة العالميّة لم تُقيَّمْ من زاويةِ هل حقّقتْ تقدّما أم لا، بل من زاوية الحكمِ التّاريخيّ لها أو عليها. إذْ ساد الاكتفاءُ بسؤال: هل نجح الشّيوعيّون، وهم ماسكون بالسّلطة السّياسيّة، في تحقيق المشروع الشّيوعيّ؟ لم يَعتنِ التّقييمُ بالأسئلة الرّئيسة: هل طرحتْ هذه التّجاربُ نفسَها في موقع التّغيير؟ هل انشغلتْ بتنميةِ الإنسان نفسيّا وعقليّا وبمكانته في الوجود على قدْر اهتمامها بالتّنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة؟ هل خطتْ، ولو خطوةً بسيطة، في هذا الاتّجاه النّقديّ التّقييميّ؟

إنّ الشّيوعيّين، وهم في السّلطة، قد تراجعوا عن المقولات الماركسيّة الأصليّة وانخرطوا في صراع جيوسياسيّ مدمّر. ثمّ إنّ الحركات الشّيوعيّة من "فلاديمير لينين" فصاعدا بُنيتْ على التّعارض مع جوهر الفلسفة الماركسيّة (قُطباها: كارل ماركس وفريديريك إنجلز) في بُعدِها الإنسانيّ هذا: تحقيقِ إنسانيّة الإنسان. فالإنسانُ ليس مجرّدَ أداة لإنتاج الثّروة. إنّ الشّيوعيّةَ الحقيقيّة هي الباحثةُ عن تحقيق إنسانيّتها.

4-               قبلَ الرّبيع العربيّ وبعدَه، أثبتتِ الأصوليّةُ الدّينيّة قدرةً على استقطاب الجماهير وعلى اجتياح ميادين الصّراع العسكريّ وعلى قطف ثمار مسار ديمقراطيّ هي آخرُ مَن يؤمن به. لماذا نجح الإسلامُ السّياسيّ المتطرّف حيث فشل اليسارُ العَلمانيّ المستنير؟

الجوابُ عن هذا السّؤال المعقّد بسيطٌ جدّا: الحركةُ الإخوانيّة الإسلاميّة منذ تأسيسها عامَ 1927 بمصرَ موجودةٌ في سياق الأجندا الإمبرياليّة. وصعودُها الآن في الحراك الاجتماعيّ ثمّ في الحكم مُصاغٌ ضمن «مشروع إصلاح الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا» الّذي وَضعتْه الولاياتُ المتّحدة الأمريكيّة مع الاتّحاد الأوروبيّ في مطلع الألفيّة الثّالثة لتجديد الطّبقة السّياسيّة الحاكمة في بلداننا. أرادتْ الإمبرياليّةُ أن تُدخل الإسلامَ "الوسطيَّ المعتدل" بهدف توطينِ الإرهاب في أرضه الأصليّة وإعطاءِ روح جديدة لأدوات الحكم. أرادتْ أن تُنصّب أحزابا جديدة على الرّأي العامّ العربيّ والإسلاميّ، أحزابا "صِداميّة" (أي لم تُصِبْها التّهرئةُ الّتي كانت أصابتْ الأحزابَ الحاكمة قبل "الرّبيع").

5-               أتعتقدُ أنّ اليسارَ العربيّ يدفعُ الآن ثمنَ أخطائه التّاريخيّة القاتلة الّتي ارتكبها في حقّ قضاياه الوطنيّة (التّحرّر الوطنيّ من الاستعمار الغربيّ...) وقضاياه القوميّة (القضيّة الفلسطينيّة والوحدة العربيّة...)؟

اليسارُ الّذي شارك في الحركة الوطنيّة قبل التّحرّر من الاستعمار ارتكبَ أخطاءً في محاربة الاستعمار. فقد حاربه من مواقع اجتماعيّة لا وطنيّة، فظلّ موقعُه مهتزّا في السّاحة السّياسيّة. بدأت الحركةُ الشّيوعيّة في تونس منذ 1909، وفي 1920 كانت قد حقّقتْ وزنا كبيرا في البلاد، وأثّرتْ في الحركة النّقابيّة، وشاركتْ في بناء «جامعة عموم العَملة التّونسيّين» سنةَ 1924، وأسْهمتْ في كلّ التّحرّكات النّضاليّة، وجمّعت المثقّفين النّيّرين. ظلّتْ كذلك حتّى الاستقلال. المعضلةُ أنّ "الحزب الشّيوعيّ التّونسيّ"، وهو فرعٌ من الحركة الشّيوعيّة القديمة، ظلّ متردّدا تردُّدا صريحا في أمريْن: تَوْنسةِ قياداته حتّى عام 1939 والموقفِ من الاستعمار الفرنسيّ. فهو لم يُطالبْ بخروج المستعمر، ولم يرفعْ شعارَ طردِ المحتلّ الأجنبـيّ إلى حدود عام 1949 تقريبا. بل تبنّى فكرةَ أنّ وصولَ الطّبقة العاملة في فرنسا إلى سدّة الحكم سيُحقِّق آليّا: الاشتراكيّةَ والاستقلالَ الوطنيّ معا.

أمّا في شأن فلسطين فقد ارتكب اليسارُ العربيّ أخطاء قاتلة. مصيبةُ اليسار برمّته هي أنّه اعتبرَ نفسَه وصيّا على القضيّة الفلسطينيّة ومارس تسلّطا واضحا على الشّعب والقيادة الفلسطينيّيْن. فبدا قوميّا أكثرَ من القوميّين أنفسهم. ثمّ أخطأ ثانية في حقّ فلسطين عند صياغة الموقفِ من قرار التّقسيم[3]. شخصيّا أعتبرُ موقفَ الحبيب بورقيبة «خُذْ، وطالبْ» الّذي أعلنه في خطابِ "أريحا" الشّهيرِ[4] أسْلمَ الحلول وأكثرَها واقعيّةً وتعقّلا. إذْ كان من المفروض أنْ نقبلَ مع توفير الشّروط الدّنيا لمواصلة الكفاح، وأوّلُ هذه الشّروط توحيدُ الفلسطينيّين في أرض مّا. وكانت القيادةُ الفلسطينيّة هي الْمُطالَبة بتوحيد شعبها ورصّ صفوفه. لكنْ لقيَ الموقفُ البورقيبـيّ ردودَ أفعال رافضة، بل اعتُبِر موقفا عمِيلا للأمريكيّين وللصّهيونيّة العالميّة. وقيامُ الدّولة الصّهيونيّة غيّر ظروفَ النّضال الوطنيّ الفلسطينيّ نحو العسْر والتّعقيد إلى حدِّ جعْل الفلسطينيّين "شعبا بلا أرض".

6-              ما هي أشنعُ الخطايا الّتي اقترفتْها الشّيوعيّةُ العربيّة في حقّ نفسها؟

أُولى خطاياها أنّها لم تُفكّرْ في هويّة خاصّة بها ولم تجتهدْ لبنائها. لا نُنكر أنّ بعضَ الشّيوعيّين قامُوا بمحاولات محدودة انتهتْ جميعُها إلى الفشل. ثانيتُها أنّ الأحزابَ الشّيوعيّة العربيّة تابعة دوما للاتّحاد السّوفييتـيّ أو للصّين في كلّ مواقفها الإيديولوجيّة والسّياسيّة والقوميّة والوطنيّة. ثالثتُها أنّ الشّيوعيّةَ العربيّة لم تضعْ نفسَها يوما على ذمّة واقع بلدانها من أجل تغييره، إنّما ظلّتْ منشغلةً بالصّراعات الإيديولوجيّة والفكريّة الّتي كانتْ استعراضيّةً غالبا. رابعةُ الخطايا أنّ بعضَ الأحزاب الشّيوعيّة العربيّة أعطتْ نماذجَ سلبيّة جدّا عندما اعتبرت الانقلابَ طريقَ الوصول إلى الحكم وشاركتْ في انقلابات عسكريّة (العراق، سوريا، السّودان، اليمن...)، وبعضُ تلك الانقلابات كان دمويّا جدّا. أمّا خامسةُ الخطايا الشّنيعة فهي دخولُ أحزاب شيوعيّة عربيّة في تحالفات مشبوهة مع الأنظمة المحليّة الدّيكتاتوريّة أو مع الحركات الإسلاميّة الّتي تتبنّى مشاريعَ استبداديّة باسم الدّين.

7-               هل فعل اليسارُ العربيّ، حسْب رأيكم، كلّ ما استطاع لتعطيل نكبة 1948 ونكسة 1967 وصفقة أوسلو 1991 وسقْطة 2003 (الغزو الأمريكيّ للعراق) أو للحدّ، على الأقلّ، من نتائجها الكارثيّة؟

لم يفعلْ إلاّ القليلَ. ففي تونس مثلا تَبنّـى اليسارُ القضايا العربيّةَ (خاصّة منها فلسطين) أكثرَ ممّا تَبنـّى قضاياه الوطنيّة. لكنّه غالبا ما كان يستعملُها وسيلةً للتّحريض السّياسيّ وللضّغط على الحكّام، ولم يتجاوزْ غالبا حدودَ ذلك. وفي أحسن الحالات اهتمّ اليسارُ بتجميع المساعدات الطّبّيّة والغذائيّة للشّعوب العربيّة الواقعة في جحيم الحرب والغزو والاجتياح (لبنان، العراق، غزّة..). فعلى سبيل المثال، لم يُوجِّه اليسارُ العربيّ أيَّ نقْدٍ لـ "حزب اللّه" الّذي يعلم الجميعُ أنّه أداةٌ في يد الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة وأنّه "دولة داخل الدّولة اللّبنانيّة" يستغلّ القبليّةَ والطّائفيّة ويكرّس محورَ التّحالف بين سوريا وإيران. نجد، على العكس من ذلك، أنّ كلَّ مَن عارضَ السّيّدَ "حسن نصر اللّه" قد اُتّهِم بالخيانة والعمالة.

8-               الاتّحادُ السّوفييتيّ بزعامة جوزيف ستالين هو ثاني من اعترف رسميّا، بعد الولايات الأمريكيّة المتّحدة، بدولة "الكيان الصّهيونيّ" المعلَنة في 14 ماي 1948. وكان، قبل ذلك، قد صادق على قرار تقسيم فلسطين بين العرب واليهود الصّادر عن الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة في 29 نوفمبر 1947. وكان لهذيْن الموقفيْن "مفعولُ السّحر" على عديد الشّيوعيّين العرب. فتجنّدوا لتسويق الموقفيْن (التّقسيم والاعتراف) عربيّا وللتّنكيل بالرّفاق "المارقين عن الصّراط السّتالينيّ". هل مِن قراءة نقديّة لكلّ هذا؟

فعلا، لقد تورّطت الشّيوعيّةُ العربيّة القديمة في هذه السّياسة. وكانت أسوأُ صِيغ تورُّطها يتمثّل في التّصفيات الدّاخليّة للقيادات الّتي تُعارض التّمشّيَ السّوفييتـيّ (خاصّة في المواقف من حركات التّحرّر الوطنيّ ومن تقسيم فلسطين ومن إعلان الدّولة اليهوديّة..). مِن الشّيوعيّين العرب مَن تلقَّى أمْرَ الالتحاقِ بموسكو ليتمَّ التّحقيقُ معه هناك وأحيانا تصفيتُه جسديّا. حدث هذا كثيرا في العهد السّتالينيّ، وصار ممارسةً دائمة في عهد "ليونيد بريجنيف"[5]. هذا هو إرهابُ الدّولة ضدّ شيوعيّي العالم لإخضاعِهم وإلباسِهم الموقفَ السّوفييتـيّ الرّسميّ. 

9-               تفوّق الشّيوعيّون العربُ في تعريةِ الإمبرياليّة الأمريكيّة وفي فضحِ مشاريعها الاستعماريّة ومؤامراتها التّخريبيّة ضدّ الدّول الخارجة عن طوْعها. لكنّهم في المقابل لم يعترفوا بوجود "إمبرياليّة سوفياتيّة". لقد سكتوا، مثلا، عن الغزو السّوفياتيّ المدمّر لأفغانستان، بل اعتبروه "نجاحا باهرا للثّورة الاشتراكيّة الدّائمة" و"خطوة إيجابيّة نحو الأمميّة".

لِـمَ الكيلُ بمكياليْن؟

اِرتبط الشّيوعيّون العربُ التّقليديّون بمنظومة فكريّة وسياسيّة مع السّوفييت، فما استطاعُوا أنْ يَروْا في الاتّحاد السّوفييتـيّ مواصفات الكيان الإمبرياليّ. والسّوفييت في كتاباتهم حلّلوا الإمبرياليّةَ الأمريكيّة بدقّة وبأساليب علميّة. لكنْ إذا ما تحدّثوا عن أنفسهم انقلبتْ جميعُ المصطلحات إلى "إنجازات" و"تطوّر اشتراكيّ" و"ثورة دائمة"... ومِثلُهم فعلَ الشّيوعيّون العربُ القُدامى بمَن فيهم ذوُو الكفاءةِ الفكريّة العالية. فالتّبعيّةُ تغتال الكفاءةَ. أمّا اليسارُ الجديد فقد راجع نفسَه في هذا الشّأن وتبنّـى فكرةَ وجود إمبرياليّة اشتراكيّة ونَسبَها إلى الاتّحاد السّوفييتـيّ واعتبرها تحمل نفسَ مواصفات شقيقتها الأمريكيّة.

9 ولاءُ ما يُسمّى "السّلفيّة الجهاديّة" لتنظيم القاعدة أو للتّنظيم العالميّ للإخوان المسلمين أو لأمراء الحرب حاليّا لا يكادُ يختلف حِدّة وعُنفا وثباتا "عقائديّا" عن ولاء الشّيوعيّين العرب أمسِ للأمميّة الثّالثة (الكومنترن) ثمّ للحزب الشّيوعيّ السّوفييتيّ الحاكم بأمره في المركز كما في الأطراف.

أتجد في هذه المقارنة ظلما لليسار العربيّ أو تعسّفا على الحقيقة التّاريخيّة؟

أجدُ في هذه المقارنة ظلما فادِحا. فاليسارُ العربيّ مهما تطرّفَ لم يصلْ حتّى في أحْلك فتراته إلى "تنظيم الإرهاب" (La gestion du terrorisme). مِن هذا أستثني ما وقعَ في الثّورة الفلسطينيّة مطلعَ السّبعينيّات (السّنوات 1970- 1974) خاصّة مع "الجبهة الشّعبيّة لتحرير فلسطين" و"تنظيم أحمد جبريل" اللّذيْن اتّخذا منحًى إرهابيّا تمثّل في اختطاف الطّائرات وتحويل وجهتها. وكان "التّنظيمُ"، الخاصّ بأحمد جبريل، تنظيما إرهابيّا فعليّا وأداةً في يد بعض الأنظمة العربيّة (سوريا وليبيا) تورّط في التّفجيرات والاغتيالات. في ما عدا ذلك لم يكنْ اليسارُ، قديمه وجديده، إرهابيّا. بينما "السّلفيّةُ الجهاديّة" هي حركةٌ إرهابيّة عالميّة قلبا وقالبا.

10-         يتحدّث بعضُ المفكّرين عن "سلفيّة" ماركسيّة صادرتْ حقَّ اليسارييّن العرب في نقد المركز السّوفييتيّ وحرمتْهم واجبَ إخضاع المنظومة الإيديولوجيّة لخصوصيّات الواقع العربيّ الإسلاميّ ولحاجاته وجعلتهم يتعسّفون على قضاياهم المحلّيّة الحارقة صوْنا لـ "نقاء" النّظريّة. ما ردّكم؟

كانت "النّقاوةُ النّظريّة الإيديولوجيّة" فكرةً سائدة لدى اليسار العالميّ. مع ذلك، لم تكنِ النّقاوةُ ضاغطةً على اليسار العربيّ القديم بشكل مُجحِف إلاّ في طوريْن: أوّلُهما تقسيمُ فلسطين الّذي مثّل رجّةً وخلق الدّعوةَ إلى التّمسّك بالمقولات الأصليّة. ثانيهما ظهورُ المراجعات منذ 1964 مع "نيكيتا خروتشوف"[6] ثمّ "ليونيد بريجنيف" اللّذيْن نقدا السّياسةَ السّتالينيّة من زاوية عبادة الشّخص فحسبُ. لكنْ ظلّت التّغييراتُ ضئيلةً لأنّها انحصرتْ في صراعِ الكُتل القائمة بين مختلف مكوّنات البورجوازيّة البيروقراطيّة للدّولة (نعني بها: قيادات الحزب الشّيوعيّ السّوفييتـيّ). فالحزبُ صار هو الدّولةَ يتحكّم بثروات البلاد تحت شعار "ديكتاتوريّة البروليتاريا".

11-        اعترفتْ بعضُ الأحزاب والتّنظيمات الشّيوعيّة العربيّة بـ "حقّ الكيان الصّهيونيّ في الوجود" مُعلّلة ذلك بـ "ضرورة الانسجام مع المبادئ الماركسيّة اللّينينيّة" أو بـ "التّعريف السّتالينيّ للأمّة ولشروط تكوينها". حتّى إنّ خالد بكداش (الأمين العامّ للحزب الشّيوعيّ السّوريّ) قد أثبت صفةَ "الأمّة" لليهود وهمْ في ما يُسمّى "الشّتات" ونفاها عن العرب المقيمِين في بلدانهم منذ قُرون مديدة.

كيف يُدحض هذا التّعليلُ ماركسيّا؟ وكيف تقيّمون "ورطةَ" الاعتراف بشرعيّةِ غُزاةٍ كانوا ومازالوا ذراعا طُولَى للإمبرياليّة الأمريكيّة؟

كانت هذه التّعريفاتُ تبريرات لمواقف سياسيّة معيّنة هي مِن قبيل "المعَرّات". فلا توجد في العالم قضيّةٌ يهوديّة. لم يكنْ لليهود وطنٌ أبدا، منذ أن تمّ تشتيتُ "دولة يهودا" (الّتي كانت دولة لجزء من اليهود على جزء من فلسطين وآخر من الأردن) من قِبل الإمبراطوريّة الرّومانيّة، كيْ تتمّ إعادةُ توطينهم فيه. هذه قضيّة عقائديّة وثقافيّة. فقد كان اليهودُ ينتمون في الأغلب الأعمّ إلى شريحة الوُسطاء الّتي، بامْتلاكها المالَ، تخترق المجتمعات وتخترق التّاريخَ أيضا وتجد لها مكانةً في مختلف البلدان الّتي بلغتْ حيّزا من التّطوّر وأصبحتْ تحتاج إلى هذا النّوع من الوساطة الماليّة. وكان اليهودُ يقدّمون هذه الخدمةَ. لذا لم يكنْ لهم وطنٌ، ولم يُطرِدْهم الرّومانُ من بيت المقدس ولا المصريّون القدامى من مصرَ. حتّى "مملكةُ يهودا" كانت جزءا ضئيلا من أرض فلسطين لا يتجاوزُ مرتعَ قبيلة.

حسب رأيي قدّم جوزيف ستالين إضافات مهمّة في مقاربته الاجتماعيّة لمسألة الأمّة (في كتابه "الماركسيّة والقضيّة القوميّة" الّذي ترجمه خالد بكداش). أهمُّ تلك الإضافات التّفريقُ بين «أمّة ناضجة جاهزة» وبين «أمّة في طوْر التّشكّل». ومع الصّنف الثّاني يُطرح السّؤالُ التّالي: ما الّذي ينقص هذه الأمّةَ؟ يؤدّي تحليلُ ستالين إلى أنّه لا يمكن اعتبارُ اليهود "أمّة" لأنّ الجامعَ بينهم ثقافيٌّ. ولم تظهرْ قضيّةُ العودة إلى "الأرض الموعودة" إلاّ مع المؤتمر الصّهيونيّ الأوّل[7]. وقبل هذا التّاريخ لم يكنْ للطّوائف اليهوديّة أيُّ ارتباط بالأرض الفلسطينيّة. وبعد ألفيْ عام من الحضارات ومن الوجود المتنوّع حضاريّا وجغرافيّا، ظهرتْ قضيّةُ "وطن قوميّ" ليهود الشّتات. في الحقيقة "وعدُ بلفور"[8] هو الّذي أوْجدَ «الأرضَ الموعودة» لليهود كبنْدٍ أساسيّ في البناء الصّهيونيّ. والغايةُ هي التّحكّمُ في الشّرق الأوسط باعتباره مركزَ الثّروة الطّاقيّة. إذنْ، إذا طبّقنا مقاييس "الأمّة" على اليهود خَلصْنا إلى أنّهم دولةٌ مصطنَعة لخدمة المدّ الإمبرياليّ في المنطقة.

أمّا في ما يخصّ العرب فأنا مع خالد بكداش، لكنْ من زاوية أخرى. أرى أنّ "الأمّة العربيّة" لم تتحقّقْ بعدُ لأنّها لم تستكملْ حتّى الآنَ الخصائصَ الّتي تؤكّدُ ثبوتَ الأمّة وتحدّدُ كيانَها النّهائيّ، أعني الخصائصَ الّتي ضبطها ستالين في كتابه السّالف الذّكر. أُولَى هذه الخصائص هي: الوحدةُ الاقتصاديّة أي التّكاملُ في الدّورة الاقتصاديّة الواحدة لا المتعدّدة. ثانيتُها: انتفاءُ الحدود بما هو شرطٌ لازم لاستكمال كيان الأمّة. ثالثتُها: الوحدةُ الثّقافيّة. صحيحٌ أنّنا نتكلّم العربيّةَ وأنّ مصادرَنا العقائديّة واحدةٌ. بيد أنّنا ثقافاتٌ متعدّدة: فينا الأمازيغُ والأكراد والطّوارق المرتبطون بجنوب الصّحراء والأقباط والثّقافة الفرعونيّة السّودانيّة... ماذا نعني باستكمالِ هذه المكوّنات؟ معنى ذلك أن نتركَ لها الوقتَ اللاّزم لتنضجَ إمّا بالانصهار في الثّقافة العربيّة الحاضنة وإمّا بالعيش معا. هذا هو العنصرُ الّذي إذا ما اكتملَ نستطيعُ عندها الحديثَ عن كيانِ أمّةٍ متحقِّق. الآن نحن نتحدّثُ عن أمّة عربيّة افتراضيّة، فنُوهمَ النّاسَ بوهْم إضافيّ.

إذنْ، حتّى لو أصابَ خالد بكداش في اعتبار العرب "أمّةً في طور التّشكّل"، فإنّ تنظيرَه لوجود "أمّة يهوديّة" قد أفسدَ الأمريْن معا.

12-        كشفتِ السّيرُ السّياسيّة والحزبيّة لعديد الشّيوعيّين العرب عن ضمور الانتماء الوطنيّ والقوميّ في مقابل تضخّم الانتماء الإيديولوجيّ (خالد بكداش الملقَّب بـ "عميدِ الشّيوعيّين العرب" نموذجا). ألمْ يكن بالإمكان تحقيقُ الوفاق بين هذه الدّرجات من الالتزام الفكريّ- السّياسيّ؟

هؤلاء الشّيوعيّون لم يُوجدوا لأنفسهم هويّةً خاصّة ولم يستطيعوا التّخلّصَ من التّبعيّة كما سبق أن قلتُ. شخصيّا أعيشُ هذا التّوازنَ: فلا يتناقض انتمائي الوطنيّ والقوميّ مع انتمائي إلى الإيديولوجيا الاشتراكيّة العلميّة. ألّفتُ في القوميّة العربيّة، ونظّرتُ لها ضمن كراريس أنجزتُها في مؤتمرات الحزب. أنا مستقلّ استقلاليّة تامّة عن كلّ تبعيّة. وما أنجزناه في تونس كان بمجهود تونسيّ محض. بعد استقالتي من "حزب العمّال الشّيوعيّ" ودراستي النّقديّة للتّجربةَ السّوفييتيّة أعلنتُ تبايُنـي مع الفكر اللّينينيّ. فأنا أمارس استقلالي الفكريّ إلى حدِّ التّباين مع "الأب الرّوحيّ". بفضل هذا الاستقلال حافظتُ على التّوازن بين الانتماءات المذكورة. مع هذا، أنا مشدودٌ إلى الماركسيّة بقُطبيْها: كارل ماركس وفريدريك إنجلز في نِظرتهما للعالم. أمّا فلاديمير لينين فكان ماركسيّا قوميّا روسيّا. وكلّ ما فعله جوزيف ستالين هو أنّه طبّق مشروعَ لينين، لكنْ بهمجيّة. في مناخ الإيديولوجيا الرّاديكاليّة كان لديهم جميعا نفسُ القدر من العنف ومن النّزعة الإقصائيّة التّصفويّة. فقد طبّقوا نظريّة «الحزب يتقوّى بتطهير نفسه». وعلى هذا الأساس انخرطوا في عمليّات تصفيةٍ للرّفاق وتنقيةٍ للصّفوف ممّن اعتبروهم «عناصر عميلة أو مرتدّة».

13-        ما مدى هيمنة "الظّاهرة البكداشيّة"[9] على الأحزاب الشّيوعيّة العربيّة؟ بعبارة أخرى كمْ أنجبتْ الشّيوعيّةُ العربيّة من "خالد بكداش"؟

لكلّ دولة عربيّة "خالدُها البكداشيّ"! حَرِيٌّ بنا أن نذكرَ أنّ دُولَنا لم تبلغْ الدّرجةَ نفسَها من الولاء للسّوفييت ومن "عبادة الفرد". بل هناك تفاوتٌ جليّ بينها. ففي تونس مثلا لم تكن الجوانبُ الغارقةُ في التّقديس موجودةً ولم نصلْ إلى "الظّاهرة البكداشيّة": كان الأمينُ العامّ للحزب الشّيوعيّ التّونسيّ يُنقد ويُجبر على مراجعة مواقفه. أمّا اليسارُ الجديد ففِيه مزيجٌ من "الظّاهرة البكداشيّة" ومن التّمرّد عليها. توجَد الصّرامةُ في التّنظيمِ وفي المقولاتِ النّظريّة والمواقفِ السّياسيّة في الحركات اليساريّة المتطرّفة أو "اليسْراويّة" (Le Gauchisme ما يسميّه لينين «مرضُ الشّيوعيّةِ الطّفولـيُّ»). ما نعيشُه اليومَ هو مرضُ الشّيخوخة لا أمراضُ الطّفولة. فبعضُ الأحزاب الشّيوعيّة الرّاديكاليّة تُحافظُ على نفس النّهج منذ ثلاثين سنة أو أكثر، بما يعني أنّ المرضَ صار علّةً.

أنا مقتنعٌ تماما بأنّ الأحزابَ لا تستطيعُ التّجدّدَ وإظهارَ طاقاتها الكامنة طالما ظلّت الأقطابُ القياديّة التّقليديّة تتحكّم في الدّواليب باعتبارها صاحبةَ التّنظير لتلك الآليّات. فلا يمكن لأيّ حزب التّخلّصَ من "الآلة المنتِجة للأفكار" إلاّ بالتّداوُل على المسؤوليّة الحزبيّة. ولتيسير الوصول إلى الأمانة العامّة من الضّروريّ تنحيةُ القداسة عن منصب الأمين العامّ. حينها ستظهرُ ملَكاتٌ وطاقات وإمكانيّات جديدة. لكنْ نلاحظُ أنّ مسألةَ التّداول على منصب الأمين العامّ ما زالتْ من باب المسكوت عنه. إذْ يسودُ الوهمُ أنّ هذا المنصبَ يجب أنْ ينالَه أفضلُ عناصر الحزب، والحالُ أنّ المسألةَ إداريّةٌ: الأمينُ العامّ هو القادرُ على إدارة الشّأن الحزبيّ والتّفاعل الميسور مع الحياة السّياسيّة والكفيلُ بتوحيد الصّفوف وخلْق الوئام بين مناضِلي الحزب.

الأمينُ العامّ في "الحزب الاشتراكيّ" هو عضوُ لجنة مركزيّة مكلَّفٌ بالأمانة العامّة له صوتٌ كباقي الأعضاء، ولا يمثّل سلطةً فوق اللّجنة المركزيّة. فالمؤتمرُ ينتخب أعضاءَ اللّجنة المركزيّة، وهؤلاء ينتخبون بدورهم الرّفيقَ المكلَّف بالأمانة العامّة.

14-        حتّى عندما يجتهد الشّيوعيّون العرب في نفي الشّرعيّة عن الاستعمار الاستيطانيّ الصّهيونيّ لفلسطين، يفعلون ذلك مُستندين إلى المرجعيّة الماركسيّة دون سواها. لِم كلّ هذه النّصّيّة؟ وما سرُّ الفقر النّظريّ الّذي عانى منه اليسارُ العربيّ وما يزال؟

أنجز اليسارُ العربيّ نقدا خصوصيّا جدّا لـ "إسرائيل". نستحضر، على سبيل الذّكر لا الحصر، مجلّةَ "شؤون فلسطينيّة" الّتي احتوتْ نقدا ثريّا شارك الشّيوعيّون العرب بكثافة في إنتاجه. المصيبةُ أنّ البعضَ يستعمل نفسَ المنظومة النّظريّة ليصلَ إلى نتائج متناقضة. ويتنزّل هذا في إطار الهشاشة الفكريّة والمرجعيّة الّتي يُعاني منها اليسارُ العربيّ. لا ينفي ذلك قيمةَ التّراث النّظريّ المحترم الّذي أنجزه اليسارُ، من ذلك إسهاماتُ إلياس مرقص وحسين مروّة ومهدي عامل... (والأخيران من أوائل ضحايا الاغتيالات السّياسيّة). هذا التّراثُ لم يتمَّ تثمينُه كما يجب ولم ينلْ حقَّه في القراءة النّقديّة ولا في التّرجمة إلى لغات أخرى.

15-        كيف تقيّمُ التّعاطي اليساريّ عموما والشّيوعيّ خصوصا مع القضيّة الفلسطينيّة؟ هل أثبت اليساريّون في الدّول العربيّة وفي العالم قدرةً نظريّة على تفكيك "المنظّمة الصّهيونيّة العالميّة" ونجاعةً سياسيّة في تقليم بعض أظافرها؟ 

اليساريّون يفهمون الصّهيونيّةَ على الوجه الأكمل. ولا أحدَ قادرٌ على تقديم عرضٍ تقييميّ منهجيّ عميق عن الصّهيونيّة مثلهم. لكنْ على قدر كفاءَتهم في فهْم الصّهيونيّة، كان قصورُهم عن فهم القضيّة الفلسطينيّة.لم يفهمُوا أنّ الشّعبَ الفلسطينيّ مستقلّ بذاته، عنده مطالبُ وأهدافٌ خصوصيّة هو المسؤولُ الوحيد عنها. نحن، بعَمائنا ودُغمائيّتنا، نتدخّل في الثّورة الفلسطينيّة لتبليغ آرائنا، وفي تبليغها نوعٌ من العسْف يزيدُ أوضاعَ الفلسطينيّين تعقيدا. لا نستطيعُ أنْ نساعدَ الفلسطينيّين على التّحرّر لأنّنا غوغائيّون.

لو ضغط اليساريّون على بلدانهم لتضغطَ هي بدورها على القُوى العظمى حول مطلب خصوصيّ كإزالة "الجدار العازل" الّذي يُعيق حركةَ المواطنين الفلسطينيّين ويحتجزهم في نقاط عبور خانقة، لكُنّا قدّمنا عوْنا حقيقيّا. أنْ نضغطَ طِبقا للمطالب الّتي تساعدُ السّلطةَ والشّعبَ الفلسطينيّيْن. أنْ نُقدّمَ مقترحات ملموسةً للدّولة التّونسيّة تضغط بها على المجتمع الدّوليّ الّذي تربطه علاقةٌ مّا بهذه القضيّة. أنْ نُطلقَ وطنيّا وعربيّا وعالميّا حملات ضدّ "جدار الفصل العنصريّ" مثلا أو حملاتِ مسانَدةٍ لأيٍّ من المطالب الفلسطينيّة الخصوصيّة. بيد أنّنا نترك كلَّ هذا لنلجأ إلى سياسة "اللاّءات". ونكتفي بإصدار البيانات الحزبيّة وبترديد الشّعارات الّتي لا تُغني ولا تُسمن من جوع. أمّا "حركةُ المقاطعة"[10] فهي معدومةٌ تونسيّا وهزيلةٌ عربيّا. لو امتلكنا الأساليبَ البنّاءة في دعْم القضيّة الفلسطينيّة لكانتْ وجدتْ طريقها إلى حلّ عادل. وفي هذا الشّأن أرى أنّ مثال "جنوب أفريقيا" هو الأكثرُ قابليّة للتّطبيق: حلُّ دولةٍ واحدة لشعبين هو الأوفرُ واقعيّة ومنطقيّة، وهو يُراعي الظّروفَ الفلسطينيّة والإقليميّة والعالميّة الرّاهنة.

خلاصةُ القول: نحن نعرف "إسرائيل"، لكنْ لا نعرف فلسطين.

16-        كانت الأحزابُ الشّيوعيّة في العالم قاطبةً تنال شهادةَ الميلاد [وأحيانا شهادةَ الوفاة أيضا] من المركز السّوفييتيّ باعتباره "الممثّلَ الشّرعيّ والوحيد للماركسيّة- اللّينينيّة" و"النّاطقَ الرّسميّ باسم الأمميّة الثّالثة" (الشّيوعيّة). وكانت المواقفُ السّياسيّة لهذا المركز المهيمن بمثابة "الفتاوَى الشّرعيّة" الّتي تحلّل أو تحرّم بلا رادع. وكلُّ مَن حاول السّباحةَ ضدّ تيّار "الهيمنة السّوفييتيّة" أُعدِم حزبيّا وحتّى سياسيّا (طُرد "إلياس مرقص" مثلا من الحزب الشّيوعيّ السّوريّ طردا مُهينا بسبب مواقفه النّقديّة من "الأب الرّوحيّ المستبدّ").

الآن، وقد توفّرت المسافةُ النّقديّة، كيف تفسّرون ذلك الارتهانَ المصيريّ بالمعسكر الشّرقيّ؟

هؤلاء نشئُوا وتربّوْا على التّبعيّة، ولم يَـخلقُوا أيَّ صيغة أخرى لوجودهم كشيوعيّين ذوِي كيانات خصوصيّة. لذا ظلّوا "يُولدون ويموتون" (مجازيّا) بقرار سوفييتـيّ. في حين نشأ اليسارُ الجديد متمرّدا ضدّ السّوفييت بدفْع نسبـيّ من الماويّة الصّينيّة. فقد خَلقتْ معارضةُ السّوفييت نوعا من "النّعرة" (أي الاعتداد بالذّات) عند هذا اليسار الجديد. مِن اليساريّين الجدد مَن اندمج في تبعيّة بديلة مُعلنا ولاءَه للصّين، فذابَ. ومِنهم مَن رفضَ كلَّ أشكال التّبعيّة فاستمرّ. على سبيل المثال، ارتبط "حزبُ العمّال الشّيوعيّ التّونسيّ" بعلاقة نقديّة مع ألبانيا: كانت لدينا عديدُ الانتقادات لبعض مواقفها وعديدُ التّحفّظات على علاقاتها بالصّين أو بالحركات الإسلاميّة في المنطقة العربيّة. ألبانيا متباينة مع الصّين ومع السّوفييت. كانتْ، وكنّا، طرفا ثالثا. فالتقيْنا.

17-        عجز العالمُ العربيّ الإسلاميّ، طيلةَ حواليْ سبعة عقود من النّشاط الشّيوعيّ الدّؤوب في ربوعه (من 1924 تاريخِ تأسيس الحزب الشّيوعيّ السّوريّ إلى 1991 تاريخِ تفكّك الاتّحاد السّوفييتيّ)، عن توليد نموذج ماركسيّ خاصّ به. فلا بُعث فينا "ماو تسي تونغ" الصّينيّ ولا "أنطونيو غرامشي" الإيطاليّ ولا "جوزيب بروز تيتو" اليوغوسلافي. ظللنا عالة على الآباء الأمميّين المؤسِّسين وأبناءً عاقّين لأوطاننا.

أين تكمنُ العلّةُ؟ أفي التّبعيّة النّفسيّة ونزعة التّواكل؟ أم في سهولة الاستيراد؟ أم في الانتهازيّة "البكداشيّة" الّتي جعلتْ بعضَ الشّيوعيّن العرب ينخرطون، بأوامر سوفياتيّة، في مقاومة الفاشيّة جنبا إلى جنب مع مُستعمرِي بلدانهم أكثرَ بكثير ممّا فعلوا في حركات التّحرّر الوطنيّة؟

أوّلا أودُّ تصحيحَ بعض ما جاء في السّؤال: الحزب الشّيوعيّ السّوريّ ليس المولودَ البكرَ للشّيوعيّة العربيّة. إنّما سبقه "الفرعُ الفيديراليّ للأمميّة الشّيوعيّة" الّذي تأسّس بتونسَ عامَ 1920 والّذي صار اسمُه عامَ 1933 "الحزب الشّيوعيّ التّونسيّ".

المشكلةُ عند اليسار العربيّ أنّه لم يُثمّنْ ما لدينا، لم يُروّجْ أعمالَنا، لم يُوفّرْ الفرصةَ لقياداته كي تُقدّمَ الإضافة. بقيتْ المجهوداتُ النّظريّة والتّأليفيّة مهمَّشةً سيُثمّنها التّاريخُ. أمّا الدّولةُ فهي ديكتاتوريّة في علاقتها بالفكر. وكما تَسحقُ السّاسةَ المعارضين، تُصادرُ الفكرَ وتَخنقُ المفكّرين. لم يحصلْ عندنا التّراكمُ الفكريّ اللاّزم. فالمؤلَّفاتُ لم تكنْ قبل "الثّورة" تُطبَع أو تُروَّج بصورة قانونيّة. ما كان بإمكاني، شخصيّا، إصدارُ كتُبـي. وبُعيْد "الثّورة" كان الوضعُ هشّا والدّيمقراطيّة تواجهُ خطرَ النّشأة. فمنحتُ الأولويّةَ لتركيز الحزب وللدّفاع عن ديمقراطيّتنا النّاشئة الهشّة المستهدَفة.

أعتقد أنّه على اليساريّين العرب أنْ يبذلُوا مجهودا ذاتيّا في البحث وأنْ يتبادلُوا منتوجاتهم وطنيّا وعربيّا وأنْ يتّحدوا في مقاومة دكتاتورية الدّولة. فكلُّ دولة، حتّى لو كانت عريقةً في الدّيمقراطيّة، تظلّ ديكتاتوريّةً في علاقتها بالمفكّرين وبالشّعب. الفكرُ "سلطةٌ مضادّة" تمثّل دوما خطرا مّا على أيّ سلطةٍ سياسيّة. والشّعبُ يصبح سلطة فعليّة إذا ما اتّحد مع "السّلطة المضادّة".

في كلّ الأحوال أنا لا أعتبرُ نفسي "ابنا عاقّا لوطني". أنا تونسيّ «بالفَمِ والْمَلاَ» [أصرَّ ضيفي على إدراج هذه العبارة بالدّارجة التّونسيّة لثرائها الدّلاليّ. وهي تعني تقريبا: الامتلاء التّامّ بالانتماء إلى الوطن التّونسيّ].

18-        ماذا أعدّ اليسارُ العربيّ والعالميّ لمكافحة الإمبرياليّة بوجهيها: الوجهُ الصّريح المتمثّل في العدوان العسكريّ بتعلّة "نشر الدّيمقراطيّة" (بعد أن كان الاستعمارُ الغربيّ قد تكفّل بـ "نشر المدنيّة"!)، والوجهُ والمقنّع المتمثّل في بسط السّيطرة الاقتصاديّة وتعميم الهيمنة الثّقافيّة؟

لا يوجد في العالم عبر تاريخه الطّويل، غزوٌ عسكريّ لم يكنْ مسبوقا بهيمنة ثقافيّة. ولا توجد، بالمقابل، ثورةٌ سياسيّة لم تُمهِّدْ لها الطّريقَ ثورةٌ فكريّة. فالثّقافةُ هي «مفتاحُ بابِ القلعة». واليسارُ العربيّ، حسْب رأيي، قد تحمّل المسؤوليّةَ في إنتاج الثّورة الثّقافيّة. فقدّم الإبداعات الكبيرةَ في الفكر والفنون والآداب. أستحضر، على سبيل الذّكر لا الحصر: هشام جعيّط، مارسيل خليفة، محمود درويش، سميح القاسم، الطّاهر الهمّامي، البحث الموسيقيّ، جيل جيلالة... حتّى اللّيبراليّون استعملوا آليّات يساريّة في إنتاج إبداعاتهم الفنّيّة ومؤلّفاتهم النّظريّة. الثّراءُ الفكريّ موجود فعلا في أوطاننا، وهو الآن ينضجُ على مَهَل لأنّ الثّورةَ الثّقافيّة طويلةُ الأمد. لا ننسى أنّ الثّورةَ البورجوازيّة الغربيّة بدأتْ منذ القرنِ الثّاني عشرَ [ق12م] تاريخِ تكوين أوّل جامعة علميّة في باريس تلتْها جامعتان أخريان في مدينتـيْ "ليون" ثمّ في "تولوز"... وهكذا دواليْك إلى أنْ بلغ عددُ الجامعات الفرنسيّة ثمانية، وعصرُ "النّهضة" لم يكنْ قد بدأ بعدُ. ستبدأ "النّهضةُ" خلال القرن الرّابعَ عشرَ [ق14م]. قبل ذلك تمّتْ عمليّةُ تثقيف للمجتمع بما سيجعله قادرا على نسْف الإقطاعيّة في القرن الثّامنَ عشرَ [ق18م]. ولإنضاج ما تحقّقَ في الثّورة الفرنسيّة الّتي اندلعتْ منذ 14 جويلية 1789، تواصلتْ عمليّاتُ التّثقيف الجماعيّ قرنا وزيادة، إلى أن اندلعت الثّورةُ الباريسيّة، ثورة "كمونة باريس" 1871. ثمّ أتى "قانونُ الجمعيّات" الّذي وضع الإطارَ القانونيّ للمجتمع المدنيّ والسّياسيّ بصورة عامّة. وقتها بدأ التّأسيسُ القانونيّ للحرّيّة، أي شرعَت الحرّيّةُ تكتسبُ مناعةً وتتحصّنُ من خطرِ المصادَرة. من ذاك الوقت بدأ انقلابُ الموازين. واستمرّت تلك "الحالةُ الثّوريّةُ" إلى الخمسينيّاتِ تاريخِ الحركة النّسويّة الّتي تلتْها الحركةُ الشّبابيّة في 1968. هذه الأوضاعُ جميعُها خلقتْ تفاعُلا جديدا مع الدّيمقراطيّة.

لكنْ كلُّ هذا ما يزال غائبا عن بيئتنا العربيّة الإسلاميّة. والمشكلُ أنّ اليسارَ يُدرك أنّ تلك الأمورَ قد تحقّقت خلالَ قرون مديدة، لكنّه يُوهم نفسَه وجماهيرَه بأنّه قادرٌ على تحقيقها الآنَ دفعةً واحدة. وأعتبرُ هذا الاعتقادَ الواهِم ترجمةً للتّكلّسِ الفكريّ وللجمود العقائديّ وللتّعويل المفرَط على الشّعارات. يكادُ اليسارُ أنْ يُلخّصَ الثّقافةَ في شعارات محدودة يسجن نفسَه في إطارها. فيظلّ يدورُ في حلقة مفرَغة حتّى يُصابَ بالدّوران ويغيبَ عن وعيِه بالواقع.

19-        الآن وقد تمرّستَ بالسّياسة وبالإيديولوجا عقودا، أتعتبرُ الأمميّةَ مشروعا مثاليّا حالِما هزمتْه الرّأسماليّةُ المتوحّشةُ النّاجية من أزماتها المتلاحقة؟ أم هي "حتميّة" سيظلّ تَحقّقُها مؤجّلا حتّى اكتمالِ النّضج المجتمعيّ الإنسانيّ؟

أميلُ إلى اعتبارها مشروعا مؤجَّلا. بيد أنّي لستُ أرى فيها البابَ الأوحدَ للإنسانيّة في هزْمِ الرّأسماليّة وفي عمليّة الارتقاء التّاريخيّة الحضاريّة الّتي سيقطعُها المجتمعُ من الطّور الرّأسماليّ إلى علاقات إنتاجيّة ومُجتمعيّة أكثرَ عدلا وإنصافا وتكاملا، أي أكثرَ إنسانيّة، علاقات تتحقّقُ فيها إنسانيّةُ الإنسان. أمّا الصّيغُ العمليّة الملموسة لبلوغ ذلك فلْنتركْها لأهلها أيْ للبشريّة عامّةً. ليست الأجيالُ اللاّحقة في حاجة إلى أمميّة تُـملي ما عليها أنْ تفعل أو لا تفعل. التّبادلُ الأمميّ هو البديلُ عن الْمَرْكَزَةِ السّوفييتيّة (أي جعلُ الأمميّة مركزَ القرار). علينا تجنّبُ خطر الوقوع من جديد في المرْكزة، وإلاّ عدْنا إلى "الكومنترن" (كلمةٌ روسيّة تعني: اللّجنة التّنفيذيّة للأمميّة الثّالثة). وإذا تعذّر على الإنسانيّة ولوجُ بابِ الأمميّة الشّيوعيّة، فيمكنُها النّفاذُ عبرَ باب التّواصل الإقليميّ والعالميّ لتحقيق عمليّة الارتقاء تلك.

20-        ما كلمةُ الختام؟

ألحُّ على الفريضة الغائبة الّتي تتمثّل في تثمينِ المجهود اليساريّ العربيّ في كلّ المجالات فكرا وفنّا وأدبا. هذا الإنتاجُ جزءٌ رئيسٌ من تاريخنا. وأمّةٌ بلا تاريخ لا مستقبلَ لها.

 

تونس: 2014.03.13

 

باحثة تونسيّة في الفكر السّياسيّ العربيّ المعاصر.

 

ملاحظة: الهوامش من إنجاز مُعِدّة الحوار.



 [1]  تأسّستْ منظّمةُ "آفاق" في 1962 كفرعٍ من اليسار الجديد، اتّخذتْ سنة 1974 اسمَ "العامل التّونسيّ": حافظتْ على مرجعيّتها الإيديولوجيّة اليساريّة وغيّرتْ خطّها السّياسيّ من ثورة اشتراكيّة إلى ثورة ديمقراطيّة وطنيّة.

[2]  أصدر "حزبُ العمّال الشّيوعيّ" في مدينة قابس بيانا بعنوان "الصّراع الدّستوريّ الإخوانيّ لا علاقة له بمصالح الشّعب". فتمّ إيقافُ عديد الأعضاء منهم "نبيل بركاتي" الذّي عُذّب حتّى الموتِ من 1 إلى 8 ماي 1986. وجرتْ ملاحقةُ أعضاء آخرين.

[3]  القرار عدد 181 الصّادر عن الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة في 29 نوفمبر 1947.

[4]  الخطابُ الّذي ألقاه الرّئيسُ التّونسيّ الحبيب بورقيبة في أبناء فلسطين بمنطقة أريحا بتاريخ 3 مارس 1965.

[5]  الأمين العامّ للحزب الشّيوعيّ السّوفييتيّ والرّئيس الفعليّ للاتّحاد السّوفييتيّ بين عاميْ 1964 و1982.

[6]  حكم الاتّحادَ السّوفييتيّ بين 1953 و1964، وأعلن الحربَ على السّتالينيّة.

[7]  انعقد في مدينة "بال" السّويسريّة بين 29 و31 أوت 1897.

[8]  رسالةٌ بعثها "آرثر جيمس بلفور" إلى "ليونيل وولتر روتشيلد" بتاريخ 2 نوفمبر 1917 تتضمّنُ وعدا بلْ تصريحا بتأييد حكومة بريطانيا لإنشاء "وطن قوميّ لليهود في فلسطين".

[9]  البكداشيّة: صيغة نسبة إلى "خالد بكداش" [1912- 1995] الأمين العامّ للحزب الشّيوعيّ السّوريّ- اللّبنانيّ ثمّ للحزب الشّيوعيّ السّوريّ بعد انفصال الدّولتين، وهو المعروف بالولاء اللاّمشروط للمركز السّوفياتيّ وبالنّهج السّياسيّ السّتالينيّ وبنصّيّة حَرفيّة لا تقبل "تحريفا" للمصادر الماركسيّة اللّينيّنيّة.

 [10]  BDS : حملةُ مقاطعةِ إسرائيل وسحْبِ الاستثمارات منها وفرْضِ العقوبات عليها.