لأسباب متعددة أحياناً، تغيم مشاهد الحياه على الإنسان، تضطرب الافكار وتزيغ الرؤى، يستوي في ذلك المهموم بكفاف عيشه اليومي أو المهموم بما يعتقد أنها قضايا أكبر من ذلك بكثير، ويجد الإثنان صعوبة بالغة في استجلاء وجه الحقيقة في المناخ الضبابي المحيط، فذاك أصبح عسيرا فالحقيقة تلونت بوجوه كثيرة وكنيت بأسماء متعددة، وما أن يعتقد الإنسان أنه عثر على بغيته وقبض عليها وما أن يهب بالصياح وجدتها يبرز النقيض في لحظة ويكتشف الانسان أنه قبض الريح، ويعود حائرا يفتش عن حقيقة باقية بوجه واحد، ولولا حقائق مطلقة كشروق الشمس وغروبها وشروق الحياه وغروبها لاعتقد الانسان أن الحقائق قد اختفت من الوجود.
وعلى ذكر الحياه سوف نتوقف في هذا الطرح (المقبض) عند نقيضها أي عند الموت، لكننا سنتوقف عند باب القبر، حيث لا نرغب في الدخول، نقصد الدخول في سجالات الاختلاف بين العقائد والثقافات حول ماهو التالي بعد لحظة المغادرة، سنقف عند المتفق عليه بين الجميع، المؤمنين وغير المؤمنين، وهو لحظة المغادرة مغادرة الحياه مغادرة الروح للجسد وتحول هذا الكيان الذي كان يملأ الدنيا حركة وتأثيرا إلى جثة هامدة، ويبدأ الجميع وعلى عجل (ومن باب إكرامه) إعداد حفرة لإلقاؤه فيها ويهال عليه التراب، وفي ثقافات مغايرة صندوق (محكم الغلق) موشى بالزخارف ويدفن أيضا في التراب، وربما يكرم هذا أو ذاك (طبقاً لامكاناته) بشاهد رخامي عليه الاسم وتاريخ المغادرة، أو مجرد حجر وغرسة صبار كمعلم يضيع مع أول هبة ريح، أو ربما يحرق الجثمان ويختزل في قارورة صغيرة بها بعض الرماد وتوضع على رف معلق بها بطاقة صغيرة كتلك المعلقة في رقاب مومياوات المتاحف، أو تنثر على سطح مياه النهر (المقدس) نعم هو سيد حقائق الحياه بلا منازع، الحقيقة الوحيدة المتفق عليها بين كل البشر من كل الاجناس، لا يملكون ولا يستطيعون الاختلاف عليها كبقية (الحقائق الأخرى)، فهو الحقيقة الوحيدة على الاطلاق التي لها وجه واحد، وإسم واحد حقيقة طالت كل البشر السابقين، أما الباقين فهم في انتظارها، يتصنعون تجاهلها، كل يتشاغل بشيئ ما يسرد حبات مسبحة أو يلعب النرد أو يجمع المال أو يعب من متع الحياه، والجميع يعرفون أنها قادمة، وتبدأ المقدمات: تشيب الرؤوس، تتهدل جلود الرقاب، ترتخي الجفون، يخفت بريق العيون، وتهن الأصوات وتظهر خريطة الزمن على الوجوه اخاديد عميقة، وتتكاسل القلوب والاكباد والكلي والعيون، أو لاشيئ من ذلك كله فقد يأتي كلص يخطف نسمة الحياه من الجسد الغض في عارض ينسب للقدر أو لأسباب أخرى، وتتعدد الأسباب والموت واحد، نعم هو سيد حقائق الحياه بلا منازع، الحقيقة التي يبدو مظهرها المؤكد واضحا للجميع، جثة هامدة منطرحة أرضا ومعها مظاهر اتعاظ وتأثر (مؤقتين) وبعض الحزن من كل المحيطين، حيث لم تفلح كل طرق المقاومة في صد زحف اللحظة لحظة خروج (السر)، ولم تفلح الصبغات ولا (الباروكات) ولا شد الجلود ولاشفط الدهون ولا الادوية ولا الاعشاب، لم يفلح كل ذلك في (رجوع الشيخ إلى صباه) أو وقف زحف اللحظة أو حتى إبطاء سرعتها ولو قليلا حتى يتم نهو بعض المهام وغالبا لاتنتهي. وغيبيات كثيرة تفرزها كل الثقافات تحاول استكشاف خفايا تلك اللحظة الفارقة بين الحياه والموت، لكنها لاتعدو كونها رغبة الانسان الملحة في الاستكشاف، استكشاف المجهول المطلق المغلق على عقله المحدود، وبدءا مما لم تره عين ولم يخطر على قلب بشر وحتى الحور العين مرورا بالثعبان الأقرع، تخرج إجتهادات من كل الثقافات تتخيل مابعد اللحظة لحظة عبور البرازخ والسراديب لحظة الحقيقة الناصعة التي لا تقبل التشكيك.
نعم الموت هو القضية الوحيدة المحسومة والتي لازالت صامدة على وجه الأرض، تسري أحكامها النهائية على الجميع، فكل الحقائق شوهت أو تم لي أعناقها أو تطويعها للمآرب أو تزويرها، في عالم أصبح كمرجل يغلي بالأكاذيب وتحته وقود جاهز سريع الاشتعال، صحف صفراء وشبكة عنكبوتية وقنوات يحتلها كذبة منافقون اعتلوا منابرها ليغسلوا أدمغة البسطاء، وبدلاً من أن يعرضوه كحقيقة عرضوه كبضاعة تسوق بطرق مدلسة هامش ربحها يتعاظم كل يوم في جيوب الموردين، حقيقة يلجأ إليها البؤساء التعساء القانطين المطاردين بموجات الحزن والكآبة والتنهد، في عالم مملوء بالظلم والعبودية والفرز والتمييز والقهر في كل بقاعه، عالم تحالفت فيه الرؤوس الكبيرة مع رؤوس الاموال ورؤوس الافاعي، ليظل هذا الكوكب في انتظار لعنة أو طوفان تعيد منظومة الأسماء الحقيقية للأشياء الحقيقية.
ولولاه ما احتفى الإنسان بالحياه، الإنسان العاقل الذي يدرك أنها قصيرة، وعليه أن ينجز شيئاً قبل فوات الأوان، شيئا مفيدا لنفسه وإن أمكن لغيره وإن أمكن للبشرية كلها.
وعندما تعارفنا أول مرة ذات صبح حزين وحمل الرجال أمي إلى الصحراء اقترن إسمه بشعور يتم ظل كامنا في روحي يطفح كلما رأيت مراسمه في أي مكان.
وألتقيته كثيراً: خطف أبي وخطف صديقي وخطف أعزة كثيرين، وبت في الحالة التي يتوحد فيها كل سكان هذا الكوكب، الحالة الوحيدة على الإطلاق التي لم يستثنى منها زرع بشر، وهي أننا جميعا في انتظاره.. في انتظار الموت.