يستبين الباحث أهمية التراث العربي بوصفه تجسيداً للهوية، ويرى أنه متجدد لأنه متنوع الثقافات مما يضفي على الهوية العربية وعياً تاريخياً يمكننا من التكيف مع راهن العصر. وعليه يأتي دور الإعلام في زيادة الوعي وتكوين ضمير تراثي يحافظ على ذاكرة الأمة.

التراث في الخطاب الإعلامِي المعاصر

(إغواءٌ ثقافي يأبى المراس ويستنفر الإبداع)

بليغ حمدي إسماعيل

1 التُّرَاثُ والهُوِيَّةُ:
فكرة المحافظة على التراث والالتفات حول مصادره تعد أمراً في غاية الأهمية وضرورة حتمية للحفاظ والإبقاء على مفهوم الهوية ودلالتها، فهذا التراث الذي تحتفظ به أمة ما هو جزء أصيل من ذاكرتها وذاكرة أفرادها، لما يحتويه التراث من قيم ثقافية واجتماعية تكرس لبقاء الأمم، هذا إن أُحسن استغلال هذا التراث وتم توظيفه بالطريقة اللائقة به من خلال سعة عرضه وتعدد قنوات تقديمه سواءً المرئية والمسموعة والمقروءة أيضاً. وربما يندهش بعض مواطني الدول العربية حينما يفطنون إلى حقيقة واقعية مفادها أن ثمة بلدان أوروبية مثل هولندا وبريطانيا وفرنسا حينما استشعرت أهمية الحفاظ على التراث بوصفه تجسيداً للهوية بإنشاء علم معرفي متخصص يسعى للحفاظ على تراثهم ومن ثم تقديمه بصورة استثنائية للأجيال المتعاقبة.

والمشكلة أن البعض لا يزال ينظر إلى التراث على أنه مجموعة من النصوص القديمة والمتون المكتوبة منذ مئات القرون، أو مبان عتيقة تشير إلى عصر بعينه مرت به الأوطان، والحقيقة أننا يمكننا النظر إلى تراث الأجداد بصورة مغايرة تماماً لهذه النظرة الضيقة، فالتراث في جملته هو حفاظ حتمي على ذاكرة الفرد والجماعة، مما يجعله حاجة اجتماعية ملحة في الأوقات الآنية التي تتوافد فيه التيارات والثقافات المغايرة والمستحدثة زمنياً، وأن قضية الحفاظ تلك ليست بدعة غربية بل هي مهمة إنسانية تعكس رؤى المفكرين والأنظمة السياسية الحاكمة نحو أوطانهم وشعوبهم.

وثمة علاقة إيجابية ومضطرة بين التراث والهوية، من حيث إن الهوية تعرف بانتماء فرد إلى جماعة، تبدأ الجماعة بالعائلة الصغيرة إلى العائلة الكبيرة إلى القبيلة، ثم الطائفة وأخيراً إلى الدولة، والفرد من خلال هذه الرحلة يحمل عدداً من الهويات المتعددة والمختلفة والتي تنقل إليه صوراً ونماذج من تراثه. ولا شك أن التراث هو الذي يشكل في نهاية الأمر ما يسمى بالهوية الوطنية الجامعة التي تحاول جاهدة أن تكون جسراً ورابطة وصل بين أبناء الأمة الواحدة بغير صعوبة أو تكليف مجهد. وكثيراً ما أشار رواد النهضة العربية في مهادها مثل رفاعة رافع الطهطاوي إلى أن تراثنا العربي العتيق يمثل لحظة تحول كاشفة لدلالة هويتنا وأن تراثنا هو بحق متجدد لأنه متنوع الثقافات مما يضفي على الهوية العربية وعياً تاريخياً يمكننا من التكيف بيسر وسهولة مع المعطيات الثقافية الجارية. وإذا أردت أن تبحث عن ملامح التنوع الثقافي الخلاقي مع الاحتفاظ بسمات للهوية فلا تعبأ بالتنقيب والتفتيش عن أمكنة متتعدة، بل عليك أن تذهب مباشرة نحو التراث، هذا المنتج الثقافي المتنوع والخصب الذي يعد بقعة سحرية في جغرافيا الشعوب والدول، لأنه المقام العمراني والجغرافي والثقافي بالطبع الوحيد الذي يصر على عدم الدخول في معركة البقاء التاريخي، لا لقصور أو عجز، بل لأنه بالفعل يغرد خارج السرب، ويغني منفرداً خارج السياق وإن كان في الأصل يشكل الحاضر والمستقبل.

والمستقرئ لتاريخ الدراسات التي اهتمت بالتراث القومي للشعوب على مستوى العالم يفطن إلى حقيقة مهمة، وهي أنه منذ طرحه فكرياً أو معمارياً أو فنياً وهو في حفاظ أزلي للهوية، ليس فقط لهويته الثقافية المتفردة، بل لطبيعة الوطن ذاته، لذلك نجد ثمة رهان سياسي وثقافي على هذا التراث الذي يجدد دوماً شباب الهوية ويحافظ على معالمها.

وفي هذا التراث نجد أركان ومقومات الثقافة متجسدة فعلياً بغير تنظيرات أو طروحات مكرورة ومملة، فاللغة تجد مهاداً خصباً لها بغير تصحيف أو تحريف، والموسيقى كجزء من الهوية نجدها تحتفظ بطبيعتها التي تبعد تمام البعد عن الصخب والضجيج وهي متلازمة مع أنماط الحياة السائدة. وكذلك الملامح الثابتة التي لم تعبأ بهوس الاستلاب نحو التغريب كالمأكل والمشرب، ولعل كلمة السر في هذا كله هو تقديس الموروث بوصفه مظهر إخلاص القدماء نحو الوطن.

2 التُّرَاثُ .. عَبْقَرِيَّةُ المَاضِي:
والمستقرئ للإصدارات الفكرية الأجنبية لاسيما في بريطانيا يدرك على الفور هذا الهوس المحمود تجاه إلقاء الضوء على تراث الأمة، ليس من باب اجترار الذكريات أو فشل الواقع، إنما هذه الإطلالات المتجددة يوماً على صدر يوم هي من قبيل إظهار عبقرية الماضي ودفع المستقبل نحو الريادة، وإذا فكرنا بهذا المنطق فالتراث العربي من أدب وفقه وسياسة وموسيقى ومعمار جدير بالاهتمام، ولما لا، وتراثنا بالفعل يزخر بالعبقرية في مجالات متنوعة كالفلسفة والجغرافيا والتكنولوجيا والكيمياء والطب والرياضيات. ومن العجب أن نرى ثمة ملامح انحطاط ثقافي في بعض بيئاتنا العربية وجذورنا التراثية في مسيرة الحضارة الإنسانية ضاربة في القدم والعمق.

ومسألة إلقاء الضوء على تراثنا ليست رفاهية أو ترفاً، بل إن معرفة الجذور التي كونت الهوية وشكلتها وسيلة جيدة في اكتساب الثقة بالنفس لاستيعاب مقومات الحضارة البشرية من جديد، ونقطة انطلاق لخوص الاستباق المعرفي والتكنولوجي والتنافس بقوة لمجاراة الحضارات الأخرى. إن أحد أبرز مكونات شخصية الأمم هو تراثها وما أفرزه هذا التراث من منتج ثقافي غير وجه الحضارة، وإذا رصدنا تراثنا العربي والإسلامي لتبينا على الفور أصالة العقل العربي الذي أفرز تراثه الأصيل والمتجدد، ولكن يبقى التساؤل المهم محل النظر والاهتمام، هل استطاع إعلامنا العربي تقديم هذا التراث الأصيل على نحو يليق به ؟ وهل نجح الإعلام العربي في نقل صورة صادقة لتراثنا العربي للأجيال المتعاقبة ؟

3 الخِطَابُ الإعلامُ العَرَبِيُّ بَيْنَ مَطْرَقةِ الإْخْبَارِ و سِنْدَانِ التَّثْقِيفِ:
بداية، يمثل الإعلام عبر مختلف وسائله ومستوياته أداة ووسيلة رئيسة لا يمكن الاستغناء عنها لاسيما في واقعنا الراهن، وله دور بالغ الأهمية في فترات الشدة والنزاعات والحروب بقدر ما له نفس الدور والوظيفة في أوقات الراحة والاستقرار، وبتعقد الحياة المعاصرة تعقدت وظائف الإعلام وتباينت أهدافه وتأرجحت بين الإخبارية والمتابعة الحصرية للأحداث والتعليق عليها وتحليلها، وبين الدور الرئيس لهذه المنظومة وهو التثقيف، ويمكننا إضافة دور آخر لهذه المنظومة والذي يعني بالحفاظ على تراث الأمة وتقديمه ونقله بصورة جيدة للأجيال، وخصوصا في الوقت الذي أصبح الكتاب يعاني من أزمات وعوائق تبعده جلياً عن أيدي المواطنين مما يجعلهم أكثر لهثاً وراء الإعلام المرئي والمسموع والوسائط الإليكترونية بوجه عام.

ولا ينكر أحد أن الإعلام العربي بوجه عام أصبح فريسة سائغة للحدث السياسي الداخلي والخارجي، بل وأصبح مهموماً بالبحث عن خبر سياسي هنا، و وحدث ذس صبغة سياسية هناك، وصار الإعلام يوصف بالحداثة والريادة حينما يستطيع أن ينصب شركاً لحادثة سياسية مهمة يمكن نقلها وتحليها بيسر وبساطة. ولكن قد يعد هذا خللاً بائنا في طبيعة ووظيفة الإعلام، لأنه يغفل قدراً مهما في تاريخ وطنه وهو التراث، وكم من إعلام عربي صار يفتش عن احتفالية أو تدشين مؤتمر أو تأبين شخصية أو خطاب سياسي عالمي وهو يجهل كنزاً لا نضب، ونبعاً متجدداً من الخبرات ألا وهو التراث بما يتضمنه من قيم واتجاهات ومعارف ورؤى.

4 تَلازُمُ الإعلامِ والثَّقَافَةِ:
إذاً، ثمة خلل في حالة الإعلام لا سيما المرئي دون المقروء والمسموع تجاه التراث، ويعكس هذا الخلل حجم البرامج الحوارية السياسية والقنوات الفضائية المهتمة بالسينما والأغاني والرياضة، وهذا الخلل يلازمة أصالة وريادة في نقل البيانات والمعلومات الراهنة، وقليل جدا ما نكتشف مطالعات إعلامية مرئية عن أمسيات شعرية أو ندوات تناقش كتاباً تراثياً، أو أن تهتم قناة فضائية بنقل وقائع لمؤتمر يتناول التراث وقضاياه وإسهاماته، وهذا إن دل فإنما يدل على حقيقة ربما تعد مخزية بعض الشئ وهي غياب الذراع الإعلامي عن التراث، ومن خلال المتابعة الفضائية لبعض القنوات التي تبث بعض المسلسلات التاريخية على سبيل المثال لم أجد تذييلاً لعرضها ببرنامج حواري ثقافي يتناول عرض المسلسل من زاوية تاريخية رصينة، وهو دور أغفل عنه هذا الإعلام الذي ظل قابعاً لحدث سياسي يجئ.

وما أجمل أن يستثمر الإعلام المرئي طاقاته في عرض ونقل التراث الثقافي لهذه الأمة، لا سيما وأن هذا التراث الذي نتفاخر به كل صباح ومساء جاء إلينا بوسائط إعلامية تقليدية، بل وإن المريد قديماً كان يتكبد عناء المشقة للذهاب إلى التراث في عرينه، أما اليوم فالأمر اختلف نسبياً، فيمكن للمواطن أن يظل في بيته أو مكتبه أو جالساً على المقهى ليطالع تراثه على شاشات التلفاز بسهولة، ورغم ذلك الانتظار، لا يعبأ الإعلام العربي أحياناً تلك الرغبة وبشوق انتظار المعرفة، وهنا ينبغي أن يأتي دور الإعلام لتجسير الهوة بين التراث والمتلقي، ومن ثم ينبغي وجود خطة إعلامية عربية مشتركة ضمن أعمال جامعة الدول العربية للاهتمام بنقل تراث الأمة بصدق وربط هذا التراث بواقعها.

والوطن العربي هذه الأيام يعج حقاً بفعاليات واحتفاءات ثقافية وتشهد مداً تراثياً يربطنا بالجذور الأصيلة، وهذا المد يقابله انحسار أو شبه تغطية غير كافية من جانب الإعلام، وإذا كنا نناقش موقف الإعلام تجاه التراث وقضاياه فإنه من الأحرى تضمين مادة أساسية في ميثاق الشرف الإعلامي يُلزم الإعلام بوسائطه المتعددة اعتبار التراث ومهمة نقله واجب وطني وقومي وعروبي، وهذا الحراك الثقافي نحو التراث التماساً بفشل الواقع أحياناً يلزمه حراك إعلامي موجه تجاه التراث الذي يصر على تجدده وحضوره رغم الغياب الزمني وتباعد فترة إنتاجه.

5 التُّرَاثُ والإعْلامُ .. ثُنَائِيَّةُ الحُضورِ والغِيَابِ:
ثمة مشكلات وعوائق تقف أمام مهمة نقل التراث للأجيال المتعاقبة، لا يمكن الحديث عنها جميعها، لكن يقصر الحديث عن دور الإعلام في تكريس وزيادة مساحة هذه المشكلات، منها ما تم ذكره من أن الإعلام يظل رهن الإخبار دون التثقيف، وأنه يأنى بنفسه بعيداً عن خدمة الثقافة والتراث حرصاً منه على البقاء في المشهد السياسي من حيث كون الأخير محل اهتمام المواطن العربي العادي، من جهة أخرى فإن الإعلام المرئي تحديداً يتلكأ في مواكبة التطور الثقافي الذي يحدث في المجتمع وحراك هذا المجتمع تجاه التراث ورموزه، وربما اهتمام الإعلام المرئي بثقافة الصورة هو الذي جعله بعيداً عن تراثه وأهميته، وحتى إذا اهتم الإعلام المرئي بالتراث المعماري على سبيل المثال فإنه يعرضه صامتاً مصاحباً لموسيقى أو أغنية دون الإشارة المكتوبة إلى تاريخ هذا المبنى والمكان وعرض جملة من تفاصيله الشاهدة على حضارة أمة.

ولعل الدور البارز للإعلام اليوم في ظل توافد التيارات والأفكار والثقافات الغربية هو زيادة وعي المواطن العربي بتراثه المعرفي، والاهتمام بتكوين ضمير تراثي يستهدف المحافظة على هذا المنتج الحضاري الموجود بذاكرة الأمة، وعليه فإنه لابد من الاستفادة القصوى من تقنيات التكنولوجيا المعاصرة في نقل وتبسيط تفاصيل التراث العربي للأجيال عن طريق البرامج والأفلام الوثائقية التي يعتبرها كثيرون قليلة بالنسبة للأفلام التي تعالج الشخصيات السياسية أو الأحداث السياسية من معارك وحروب.

والإعلام بهذا الدور يأكل نفسه وتتضاءل مكانته الثقافية، وبقدر ابتعاده الطوعي تجاه التراث بقدر ما سيكون مستقبله، لأن تراث الأمة العربية لا يزال الأكثر حضوراً في المشهدين السياسي والاجتماعي، وأن التراث بما يضمنه من رصيد ثقافي ومعرفي سيكون طوق نجاة لخطاب إعلامي يبحث عن ريادة وهوية.

(مدرس المناهج وطرق تدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية)

كلية التربية ـ جامعة المنيا

Bacel21@hotmail.com