في قراءتها لكتاب محمد شاويش (نحو ثقافة تأصيلية: البيان التأصيلي) تكشف الباحثة السورية عن أزمة الفكر التأصيلي العربي في سعيه للتحرر من الاستلاب الذي يسم كثيرا من اجتهادات الفكر النهضوي المعاصر.

نحو ثقافة تأصيلية

رغداء زيدان

 

تمهيد

على الرّغم من سيادة الخطاب التغريبي بين المثقفين العرب الباحثين عن طرق النهضة، ووقوعهم تحت تأثير الاستلاب للغرب، وتبنيهم للمسلمات الغربية لمعايير التقدم والتخلف، وترويجهم للأفكار الغربية في السياسة والاجتماع والاقتصاد والأدب واللغة ... إلخ على اعتبارها، المثال المرتجى، والذي يجب العمل بكل طاقاتنا لتمثّله، ومحاربة كل ما من شأنه الوقوف كعائق في طريقه، فإن باحثين ومفكرين عرباً لم ينخدعوا بهذه الأمور، وسلموا من الاستلاب الذي حكم أبحاث وآراء المثقفين عموماً في بلادنا. فبحثوا بجرأة ـ وأقول هنا بجرأة، كون الخروج عن مسلمات المجموع ليس بالأمر الهيّن، ولا يستطيعه إلا من تمتع بقدر مهم من الثقافة والمعرفة والفطرة السليمة تسمح له بوضوح الرؤية وعدم الإنخداع والتبني اللاواعي لمسلمات مفروضة قبل التحقق من صحتها ودراستها دراسة منطقية سليمة. هؤلاء بحثوا بجرأة في معايير التقدم والتأخر، وبيّنوا بالحجة والمنطق أن النهضة لا تعني التخلي عن الهوية والشخصية، ولا تعني أخذنا لكل ما هو غربي دون النظر في مدى ملائمته لكياننا وديننا وخصائصنا الإجتماعية والفكرية. وكان من هؤلاء الدكتور جلال أمين، والدكتور عبد الوهاب المسيري، والدكتور غريغوار مرشو، ومنير شفيق وغيرهم من الذين اهتموا بالدرجة الأولى بإزاحة الغشاء السميك الذي وُضع على عيوننا وجعلنا نعتقد أن كل ما عندنا لا شيء، وأن كل ما هو غربي هو تقدمي وحضاري.

غير أن كتابات هؤلاء المفكرين لم تصل لمرحلة التنظيم والتبويب والانتشار لتصبح تياراً لـه وجوده الفاعل والمؤثر في المجتمع، ولذلك أسباب كثيرة، فبالإضافة لضعف الأمّة الشديد الّذي جعلها خاضعة لسيطرة الدول القويّة مادياً ومعنوياً، فإنّ كتابات هؤلاء المفكرين فُهمت على أنّها دعوة إلى الرجعيّة، وبكاء على أمور لا تستحق البكاء عليها، فهم يدافعون عن هويّة متخلفة، تمنعنا من التقدّم واللحاق بركب الحضارة، وفق التصوّر الاستلابي السائد عموماً بيننا.

وقد تنبّه لهذا الإشكال كاتب مازال يكتب بصبر وتفاؤل وايمان عميق بهذه الأمة وما فيها من خير وإمكانيات كامنة، هو محمّد شاويش، درس الهويّة العربيّة دراسة تحليلة معمّقة بعيدة عن المسلمّات المفروضة، فكتب عن «التأصيل» وأفكاره، وعمل على إبرازه كتيار «تأصيلي»، له ملامحه الخاصّة، الّتي تجعل منه أساساً ومنطلقاً لنهضة الأمة، وخلاصها من انحطاطها، ودعا إلى نشر ثقافة «تأصيلية» في المجتمع تساهم في توعية الأفراد، وإفهامهم أنّ رقي المجتمع وتحضّره هو مسؤوليتهم بالدرجة الأولى، بعد إفهامهم أننا كأمّة نملك من الإمكانات الأصيلة، الّتي إذا نجحنا في تفعيلها بيننا، ما يؤهلنا لنكون من أكثر الأمم حضارة ورقياً.

البيان التأصيلي

عن دار نينوى والدار العربية للعلوم صدر حديثاً كتاب المفكر محمّد شاويش (نحو ثقافة تأصيلية، البيان التأصيلي). وهو الكتاب الثّاني المنشور للكاتب  بعد كتابه المعنون بـ(حول الحب والاستلاب: دراسات في التحليل النفسي للشخصية المستلبة)، بالاشتراك مع حسين شاويش، والذي صدر عن دار الكنوز الأدبية في بيروت سنة 1995. (نحو ثقافة تأصيليّة) يقدّم فيه محمّد شاويش مصطلح «التأصيل» عبر مجموعة من المقالات تظهر ملامح الفكر التأصيلي العربي، فهو أراد كما قال في كتابه "أن يطرح الأفكار الأهم والأعم التي تشكل لبّ الفكر التأصيلي العربي المعاصر". فقدّم لكتابه بمقدمة عامّة جعل عنوانها «البيان التأصيلي» حدد فيها الملامح الرئيسية لمفهوم التأصيل القائم على أسس مستمدة من خصائصنا وكياننا كأمّة عربية لها هويتها الخاصة، هذه الهويّة اعتبرها الكاتب المفهوم الرئيسي من مفاهيم الإتجاه التأصيلي. وعلى هذه الأسس التي وضعها في بيانه، يبدأ بتتبع الأفكار التأصيلية في كتابات الأدباء والمفكرين العرب، وينتقل للبحث في مقدمات التيار التأصيلي في الثقافة العربية، ويكتب عن المسلّمات الاستشراقية في الثقافة العربية، ويتناول نظرية المفكر عبد الله العروي عن الأيديولوجيا والأدب في المجتمع العربي المعاصر، ونظريته الثانية عن الأشكال الأدبية العربية، ويناقش فكرة مالك بن نبي رحمه الله عن القابلية للاستعمار، ويضع ملاحظاته على كتاب محمّد أسد (ليوبولد فايلس) الإسلام على مفترق الطرق.

الاستلاب

عندما كتب المفكر محمّد شاويش كتابه الأول (حول الحب والاستلاب: دراسات في التحليل النفسي للشخصية المستلبة)، حاول تقديم نظرية خاصة حول مفهوم الاستلاب وأنواعه، وقدّم تحليلاته الخاصة حول الموضوع. وفي كتابه هذا (نحو ثقافة تأصيلية) وجد أن من الأهمية بمكان الحديث هذا المفهوم على اعتبار أن دراسته من المهام الرئيسية للتيار التأصيلي. وانتقل للحديث عن مفهوم (السلبنة) كعملية تصنع الاستلاب، فالاستلاب هو ناتج نجاح هذه العملية. ونجد في الكتاب مجموعة من المقالات ترتكز في أساسها على دراسة مفهوم السلبنة والاستلاب وشرح أبعاده ونتائجه وتقديم أمثلة عنه. سواء في الثقافة العربية، كمقال «الاستلاب في الثقافة العربية، سوريا نموذجاً»، أم في مجالات الحياة الأخرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفنية وحتى الجمالية، فجاء مقال «ثقافة النماذج المفروضة»، ومقال «التذوق والفهم»، ومقال «الحنين والغضب»، ومقال «هل تفهم في الموسيقى الكلاسيكية؟»، ومقال «الفن الأصيل والفن المثقفي»، ومقال «الغرب نموذجاً وبرهاناً»، ومقال «بيرم يعود للوطن». ويرى الكاتب أن شعوبنا العربية وقعت ضحية للاستلاب للغرب، نتيجة أسباب عديدة، شرحها في مقالاته تلك، حتى صار الغرب عندها «نموذجاً» يجب تمثّله، وتمثّل قيمه في كل مجالات الحياة، فكل ما هو غربي هو تقدمي، ويجب علينا إذا أردنا أن نكون تقدميين أن نتبنى هذه الأفكار الغربية، بتسليم كامل، غير خاضع للنظر أو المراجعة.

نحو ثقافة تأصيلية

يختم محمّد شاويش كتابه الهام هذا، بمقال يقدم فيه التأصيلية «بصفتها ملهماً للبحث النظري في قطاعات محددة من "العلوم الإنسانية"». فالتأصيلية على اعتبارها أيديولوجيا يمكن أن تكون ملهمة لأبحاث نظرية في جوانب من علم الإنسان، كعلوم اللغة، والأدب المقارن والثقافة المقارنة وتحليل ظاهرة الاستلاب بأشكاله المختلفة ... إلخ.  ثم يقدّم عرضاً لبعض توجهاته البحثية على اعتباره باحثاً وكاتباً في الثقافة التأصيلية، حيث كتب في تحليل الاستلاب وتحليل الذوق الجمالي، وقدّم توجهات نحو "نظرية التفاهم".. "نظرية عامة للترجمة"، وبحث في الأفكار العملية التي تساعد على تحويل الأفكار التأصيلية النظرية إلى واقع عملي. وقد وجد أن التربية والبيئة لهما الدور الأكبر في تكوين الشخصية، وأننا بحاجة إلى البحث " بحثاً دقيقاً في الظروف الفكرية والاجتماعية التي تقود الأفراد في مجتمعنا إلى تبني خيارات متعارضة مثل خيار التغريب وخيار التأصيل ولا شك عندنا أن واقعنا الاجتماعي يحتوي بالفعل على مشجعات كلا الاتجاهين". ومما يقوي التوجه التأصيلي، برأي الكاتب، هو وجود عامل عالمي يتمثّل بفشل النظام الغربي القائم على العامل المادي حيث باءت بالإخفاق محاولة الغرب بناء المجتمع على أساس الدافع الاقتصادي لوحده، وظهرت موجة عداء كبيرة للعولمة، على اعتبار أنها لن تكون إلا تعميماً لهذا النظام الفاشل، لذلك فإن العداء للعولمة يصب حكماً في (الطاحونة التأصيلية).

يعدّ هذا الكتاب مرجعاً ومؤسساً للتيار التأصيلي، ويمكننا القول إن الكاتب قدّم أفكاراً وآراء لم يسبقه إليها أحد من المفكرين والمثقفين العرب. ولكنني أعتقد أن أفكاره تلك، ستواجه ممانعة ومقاومة من قبل بعض المثقفين  ضحايا الاستلاب الذي تحدث عنه في كتابه، ذلك أنهم غير مستعدين لمناقشة أية فكرة ما لم تكن مختومة بختم غربي، هذا الختم الذي يعطي الفكرة أهمية، ويجعلها جديرة بالنظر والمناقشة، ليس لجوهريتها ومنطقيتها، ولكن لأن مصدرها غربي، أو لأنها حازت على اهتمام غربي. وقد تكون هذه الفكرة مجرد كلام فارغ لا يستحق الاهتمام ككثير من الأفكار التي يشبعها مثقفونا بالتحليل والدراسة، فقط لأن الغرب قدّمها أو اعتنى بها. إنّ أهميّة الأفكار الواردة في الكتاب تكمن في أننا نستطيع جعلها منطلقاً لمراجعة كثير من الأمور التي تحكم حياتنا، وتجعلنا أمّة غير فاعلة، ينحصر عملها في رد الفعل دون الفعل ذاته، مما جعلنا نعاني من حالة موات حضاري، وانحطاط يكاد يعصف بوجودنا نفسه. هذه المراجعة ستوضح لنا الرؤية، وسيكون من مهمة التيار التأصيلي، كما قال الكاتب، جعل هذا المجتمع ينطق، بمعنى تفعيله وتفعيل مكامن القوة والتحضر فيه. وهكذا يكون التأصيل بداية وقاعدة للنهضة الحقيقية الصحيحة، لا المتخيلة، أو المتوهمة.

ولا بد لنا من وقفة تقيمية، يكون هدفها مزيداً من التنظيم والتبويب لهذه الأفكار، وقفة نحاول من خلالها المساهمة في تقديم أسس هذا التيار وخصائصه بصورة أكثر تنظيماً وترتيباً، حتى يسهل على المتلقي فهم مقاصده ومراميه، مما يساعد على الوصول لأفضل النتائج المرجوة منه. ولابد أيضاً من العمل على نشر هذا التيار في المجتمع، حتى تتشكل ثقافة تأصيلية فاعلة، تزيح الغمّة عن العيون، وتعمل على نهضة المجتمع نهوضاً ذاتياً، يراعي خصائص مجتمعنا. وأتفق مع الكاتب، بأن التربية هي أهم وسيلة من وسائل نشر هذه الثقافة، ولكن حتى تستطيع التربية أداء هذا المهمة، لابد من توعية المثقفين أنفسهم وتأهيلهم ليكونوا تأصيليين، متعافين من مرض الاستلاب الذي يقيدهم، ويلغي فاعليتهم، ويجعلهم مستهلكين لأفكار الغير فقط. وهذا لن يتم ما لم تتضافر الجهود مجتمعة لدفع تيار التأصيل، وتقديمه وتنظيمه، والبحث في جوانبه المختلفة، وتقديم الدراسات والأبحاث اللازمة لجعله علماً مميزاً، لأنه لا يكتفي بالجانب النظري فقط، بل إنه لا يكتمل إلا بجانبه العملي الذي سيعيد أمتنا للحياة من جديد بإذن الله.

 

سوريا