مساء الخير باعروب: أنت أيضا؟
إلي عبد اللطيف محفوظ صديقا في المحنة والنسيان.
ضربة القدر الغادرة الموت هو الحقيقة التي تذبح بمفاجآتها، فلا تترك لنا غير الغصات المالحات الكالحات، وبقايا ذكريات نصر على استحضارها كي لا نفقد تاريخنا وذواتنا. والعربي الذهبي الذي غادرنا، دون إذن أو إشارة واضحة، إثر حادثة سير عبثية، ترك لنا روحه الشامخة وإرثا علميا فدا، وذكريات عميقة. لماذا جاءت ضربة القدر غادرة هكذا ... ونحن لم نفكر أبدا في الموضوع؟ ألئن القدر هيأك، من قبل، لأكثر من حياة لتزرعها، وأنت تغادر، في رفاقك القدامى والجدد، وفي ابنيك الصغيرين.. فمقعدك يبدو لنا ما زال معمورا بقدراتك في النقاش والإقناع، يشع بصنيعك العلمي والبيداغوجي الذي يقره باعتزاز زملاؤك وطلبتك، من فجر الشاوية إلى ضحى تادلة.
كنا خمسة ترسخت علاقتنا مع بداية نجاحنا في الشهادة الابتدائية وانتقالنا من مدرسة القشلة،ابن تاشفين (كمحاربين نبحث عن ساحاتنا لخوض أجمل المعارك) إلى ابن عباد. كنا خمسة أصدقاء أنا والعربي الذهبي وعبد الكريم نور العابدين ومحمد المودن واحمد هادن ... وسنبقى خلال سبع سنوات منشغلين بتدابيرنا حيث أسسنا بدار الشباب نادي الوحدة وحققنا مجلة حائطية ومسرحية( المجذوب في سوق اشطيبة) والعديد من الانشطة التافهة والهامة. وكان أستاذنا في هذه المرحلة الجمعوية الشاعر سعيد سمعلي. (لم يفكر أي واحد منا بشاعريته المنهرقة أو عنفه الصارخ أن الموت آت للانقضاض بكل مخالبه المعلومه وغير المعلومة على رقم من عددنا المضبوط). في لحظات الإضرابات التلاميذية، كان العربي هو كاتبنا بخطه الباهر الذي يسبق سنه بكثير ، يكتب لنا مناشيرنا بوعي شاعري وثورية عالية..ولم نحس قط أننا في مدينة هامشية منشغلة بحرثها وحصادها.
في هذه المرحلة الإعدادية انخرطنا مبكرا في العمل السياسي - رغم عدم بلوغنا السن القانونية - ضمن الشبيبة الاتحادية ..وجرى في يوم ما اعتقالنا واستنطاقنا في مكتب الشرطة الذي كان موجودا بمحطة الحافلات.واعتبرنا ذلك دلالة أولى على ضرورة وأهمية ما نفعله.
شكلنا خلال سبع سنوات مدرسة داخل المدرسة، خلالها نضج وعينا الثقافي والسياسي والإنساني.. لكن إرغامات متابعة الدراسات العليا، غداة حصولنا على الباكلوريا ستفرقنا ( كما لو أننا أولياء هممنا للبحث عن كراماتنا ). ذهب العربي إلى آداب مراكش وتسجلت أنا بآداب البيضاء ،فيما اختار المودن الرباط وهادن فرنسا، أما سي عبد الكريم نور العابدين، أكبرنا وأعقلنا، فاختار التعليم وهو اليوم مدير من الكفاءات المهمة. لم نعد نلتقي كما كنا، وأصبح الصيف وحدة الجامع بيننا في خيمتنا القديمة : فندق با إبراهيم كما كنا في السبعة أعوام الفائتة. في بداية التسعينات اشتغلت في آداب البيضاء كما التحق باعروب بعدي بآداب بني ملال..ثم تزوجنا في يوم واحد ،وبدأنا نعيد البحث عن صيغة جديدة للعمل، وبتشجيع واقتراح من أحمد هادن...فشاركنا باعروب في لقاءات عديدة وباقتدار ملحوظ ،آخرها لقاء الرواية المغربية التونسية في فبراير الماضي حيث كان نجما في جلسته بمشاركته وتدخلاته وهو ما كان يشعرني بالفخر والاعتزاز.
قبل 20 عاما..مات محماد المودن في مثل هذا الصيف من عشرين عاما خلت مات واحد منا نحن الخمسة، محماد المودن في حادثة سير عبثية أيضا بالجنوب المغربي . وكان حدثا مؤلما وصعبا علينا. أتخيل اليوم، لو بقي محماد حيا معنا بنظارته وأناقته ولكنته الامازيغيته ومعلوماته المتجددة دوما في السياسة، حيث كانت له قدرة على إعادة صوغ الأخبار بطريقة مغايرة( كما كان يفعل بخصوص العديد من القصائد التي كانت مقررة في دروسنا..) لو بقي حيا لقال لنا بان موت الذهبي مؤامرة مدبرة بإحكام. الآن أفهم لماذا كان محماد المودن طيبا ؟ ولماذا كان العربي الذهبي أيضا غاية في الطيبوبة...ليتهما كانا من " الأشرار " مثلنا، فالموت يحب الطيبين ويترك الأشرار!!
ايمايل من أخبار الأدب في نفس يوم سابع عشر يونيو، راسلني الأديب عزت القمحاوي، يطلب مني المشاركة في ملف تعده أخبار الأدب حول الحَمًام باعتباره ليس فقط فضاء للاستحمام، بل باعتباره أيضا مؤشرا على خصوصيات ثقافية، ومجسدا لذاكرة. في نفس اليوم كتبت إليه معتذرا نظرا لانشغالات متراكمة، لكني اقترحت عليه اسم العربي الذهبي الذي أنجز دراسة قيمة وطريفة حول فضاء الحمامات، فقد كان مشرفا على ندوة في الموضوع انعقدت،من قبل، بكلية آداب بني ملال، ووعدته باني سأحرص على إمداده بمادة باعروب. وقبل أن أرسل هذا الايمايل الجوابي ،كلمت على المحمول الصديق الذهبي واستشرته إن كان يود المشاركة في ملف أخبار الأدب.رحب وقال لي بأنه يمكن توفير أوراق أخرى لزملاء غيره في الموضوع من تخصصات مختلفة.ثم تواعدنا على موعد نهاية الأسبوع.وأرسلت الايمايل إلى عزت مطمئنا. في الساعة الرابعة وأربع دقائق من يوم الأحد 24 يونيو ،كما هو مدون بذاكرة هاتفي، كلمني الذهبي ليقول لي بان ثلاث مداخلات في الموضوع لزملائه ببني ملال جاهزة وسيرسلها إلي يوم الاثنين. أما مداخلته ففي نفس الأسبوع...ثم توادعنا دون أن اعرف انه وداع أزلي، فبعد نصف ساعة تقريبا ستنتقل روحه السمحة والطاهرة إلى ربنا الكريم.
مقطع قديم كنا خمسة. بل خمسة آلاف.. نتقدم نحو قبائلنا المنسية. لم أكن أحمل شيئا من زادي أو سلاحي غير طروس خرائط وآثار دم الأحلام وأغنية من جملتين وخمسة آلاف معنى. على يميني كان العربي الذهبي يرافقني إلى جوار الآخرين. صورة واحدة بدون مرايا ولم يشأ أحد منهم سؤالي في لحظة فاتنة نخترق فيها الحدود الفاصلة بين دمين، دم الحياة ودم الجنة.. قال العربي في نفسه ما أحسست به في نفسي : ـ لماذا كان علي أن أموت وقصائدي ما زالت مدفونة في صدري؟ نتقدم كأي جيش أسطوري،نبحث عن الجنة التي كنّشتها في تقيد قديم... ـ "نحن نكتب المحتمل ثم نبحث له عن التوقع. لا بل نكتب التوقعات ونبحث عن احتمالاتها (قال مرة أخرى في نفسه). في الطريق (لم تكن هناك طريق) داخل الامتداد المتصل الذي تحده شمس تظهر بالنهار وتختفي ليلا، في قلب بلاد الشاوية، نهر رسم تيهنا مثلما أنبت وجة تادلة على طول مساراته، هل هي تادلة فعلا أم أرواحنا المنتظرة؟ نزلنا، لا بل هبطنا، ضربت برجلي فأحسست باللوعات المتسربة في كل جوارحي، العربي بدا متمايلا فتمنيت أن أقول له في الجنة سنهبط ونمشي متمايلين كأننا مرايا ثملة. لاحق للزمن فينا. مثلنا، الآن وهنا. رأيته رجلا قصير القامة على رأسه شد أبيض ملفوف بتناسق ..يمده بشموخ لامنته .
بكيت، منذ متى لم أبك ؟ منذ موت شامة في بداية القرن الماضي، لا بل منذ استشهاد علي الشاوي في القرن الثامن عشر ، وهذا الشهيق الرومانسي الشفاف المتبقي في صوتي وكلامي كأثر لازم. لم أعرف لماذا التفت العربي الذهبي جهة الغروب، جهة محماد ورفع يمناه ،بنفس الثقل الذي رفعه في كل الحروب التي خضناها معا أو خاضها لوحده ولحسابنا ، فتوقف غروب الشمس حقيقة -بتلك الحركة الطاهرة من يده الروحانية- ولم يتهيأ لي أن أسأله لماذا تعجل الذهاب مبكرا..وتركنا. لم افهم شيئا.
لا، بل فهمت كل شئ..فقد خسرنا أديبا وأستاذا جامعيا باحثا ألمعيا وصديقا لا يعوض. يظل العربي ساكنا أرواحنا ويطوف حولنا بروحه البهية، و حاضرا عند الآخرين بفضل كتابه: شعريات المتخيل: اقتراب ظاهراتي، دار النشر المدار الدار البيضاء،2000 وأطروحته التي لم يقدر له أن يدافع عنها، بل ستدافع عن نفسها بروحه العلمية الرصينة المؤبدة فيها.. الآن صرنا ثلاثة .هل نفكر أن يأخذ الموت براحتيه الواسعتين واحدا منا بعد عشرين عاما أخرى؟
الطيب فينا ينتظر دوره ! طاب مساؤك باعروب. 25 يونيو2007