يرى الروائي والناقد الأردني أن هذا الكتاب يَعصى على التصنيف، أقدمت كاتبته على الالتفاف خلف المرآة لتقف، راصدةً ومعاينةً ومسجلةً لِمْا يتبدّى هناك من حالات نسائية، خصوصية وحميمة مثلما هي عامة ومستترة في آن، دون أن تغضّ البَصَر والبَصيرة عن الاشتباك الساخن بين ذلك كلّه وتصاريف الواقع المعيش.

كتابٌ مُضَمَّخ بالحياة على هيئة الحياة

«دليل الاستخدام»

إلياس فركوح

دليل استخدام ماذا، ولِمَن، ولأي غَرَض أو أغراض؟

ربما تشكّل هذه الأسئلة الثلاثة المدخل الأنسب لولوج أبواب هذا الكتاب الاثني عشرة.

كتاب يَعصى على التصنيف، وفقاً لمألوف الكتب التي قرأناها بأقلام كاتبات نُظِر إلى نتاجهنّ بوصفه اختراقاً وخرقاً للعاديّ، وتحطيماً للرتيب المتكلِّس، وفضحاً لحالات التواطؤ والمُتفَق على السكوت عنه. فمألوف كتب الكاتبات، الأشدّ صراحةً في إظهار ومواجهةصور الاضطهاد والتخلّف الاجتماعيين، غالباً (إنْ لم يكن دائماً) ما يبدو "مضاداً" للرجل بوصفه الممثِّل التقليدي لسلطة الذكورة المتبجحة بفحولة منقوصة،وأحد رموز النظام السياسي القامع بلا نقصان. وبالتالي؛ فإنَّ موقع المرأة في مرآتها، غالباً (إنْ لم يكن دائماً) ما يتموضع أسفل اللوحة مرسوماً – ومرسومةً – على هيئة "الضحيّة"، بأكثر من معنى.

هذا أمرٌ لا تجدي المكابرة بإنكاره. نعم؛ المسألة هكذا في الواقع كما في الكتابة.

غير أنّ الجديد الطازج في هذا الكتاب، والصادم المشاكس في الوقت نفسه، إنما يتمثَّل في أنّ فيروز التميمي أقدمت على الالتفاف خلف المرآة لتقف، راصدةً ومعاينةً ومسجلةً لِمْا يتبدّى هناك من حالات نسائية، خصوصية وحميمة مثلما هي عامة ومستترة في آن، دون أن تغضّ البَصَر والبَصيرة عن الاشتباك الساخن بين ذلك كلّه وتصاريف الواقع المعيش، والخَشِن، واليوميّ. كأنها، بعملها هذا، تستكمل أو تتماهى مع ما قامت به "أليس" الجائلة "في بلاد العجائب"، حين تراءى لها أن تستكشف ما لا تعكسه المرايا عادةً على سطوحها المباشرة، الأمامية. أن تستقرئ المخبوء المتواري عن العيون العابرة. ماذا يكمن هناك في الخلف؟ في الوجه الآخر المُهْمَل والمَنْسيّ؟ ماذا يتضمن السطح الخلفي الداكن للمرايا غير العاكس؟ غير المُظْهِر للمعروض والمقصود؟ سطح المرايا الآخر دائم الصمت؟

إذَن: نحن حيال استنطاق الصمت، بمعنى غير المنطوق به وعنه، بمعنى مكتوم البوح. نحن حيال التجرؤ المسؤول على الحفر، بالمبضع الحاذق، داخل الطياتوالثنايا الرقيقة ليوميات الـ"مرأة" (قاصداً أل التعريف والتعميم) - تلك المناطق الكانزة للحقائق المُرَّة والجارحة حدّ صرخة الوَجَع العميق. حقائق ووقائع ينبغي التستُّر عليهابوحي تعليمٍ وتعليمات "تربوية" نادراً ما كانت، وتكون، صادقة أو نزيهة أو قويمة. نحن حيال الربط الحياتي والحيوي في آن، بين تاء التأنيث الماثلة ذاتاً متكلمةً في نصوص هذا الكتاب؛ ذاتاً من لحم ودم وعقل يفكِّر،وهي تصارح ذاتها وتكاشف ذوات بنات جنسها من جهة، وهذا المجتمع ككتلة ثقيلة منتجة لعذابات واحتيالات تجعل من العالم اليومي نُسَخاً متكررة من حياةٍ مُلَفَقَّة.

غير أنّ اللافت في كتاب فيروز التميمي هذا، كما في روايتيها: "ثلاثون"، و"كأنها مزحة"، مقدار الحياة النابضة بحقائقها كما هي وبالزَخَم الوافر فيها. لا تبالغ، إكثاراً أو إقلالاً. مقدار تفاصيل العُمْر "الخام" الخالية من أيّ عملية تنظيف، أو تلطيف، أو حتّى تهذيب بيوريتانيّ مصنوع، غايتها عدم المسّ برهافة مجتمعٍ اكتسى بجلد التماسيح والخراتيت منذ زمن طويل. مقدارالمرئيّ والخَفي من حيثيات المرأة الحميمة تُكتب بعيداً عن أيّ ضرب من ضروب الإثارة؛ تُكتب وثمّة ما يجوز للقارئ المتأني معاينتها بوصفها "محاكمةً وكشف حساب"تقوم بها الكتابةُ نيابةً عن صاحبتها، ولصاحبتها، ولِمَن يهدف أن يقرأ دواخله ودواخل الكائن/ الإنسان– امرأةً ورجلاً معاً.مقدار الصدق والشفافية في مصارحة الذات لذاتها وإضاءة جوانب "الكذبات والتحايلات" الصغيرة، التي تجترحها يومياً، وبحق نفسها في غير قليل من المرَّات، لتمرير بقايا العُمْر بخسائرٍ أقلّ وحفنة أرباح سرعان ما تتبدد.

فمن خطوات "دليل الاستخدام" في "كيف تخرجين من حبّ.. خطوة بخطوة"، تنصُّ الخطوة 11 مثلاً على: "اشطبي أوّلاً بأوّل كل رسائله، لا تُبقي منها شيئاً. هذه الخطوة ستمكنك من المضي في حياتك كامرأة واثقة. لا أجمل من امرأة بلا ذاكرة، تكون قوية وسطحية وليس من السهل إضاعتها. حين لا تملكين أرشيفاً من اللحظات الحميمة والرسائل الحارقة، سيمكنك التخلي إنْ كنتِدون تاريخ."

لا تُقرأ شبكة "الاحتيالات" على الذات الواردة هنا وفي معظم صفحات الكتاب، ومن ثَم فضحها والسخرية المريرة منها، وبالرؤية غير المهادنة المعهودة لدى فيروز التميمي– وإنْ بدت "وقحة" لدى البعض، إلّا بكونها خطوطُ دفاع الفرد المُفْرَد المجرد إلّا من "واحده"الأعزل،أمام شراسة الواقع المكتظّبفوضى قِيَمه المتحللة وادّعاءاته الزائفة. كما أنها، في الوقت نفسه، بناءٌ أصيل وواعٍ لكتابةٍ تعتمد الصِدقَ والنزاهةَ في البوح وسيلةً، وهدفاً، ودرباً لبلوغ تلك المسافة الأقرب للروح.

روح الكاتبة والكتابة في آن.

تتجلّى هذه الروح الواحدة في رصد حالات المفارقة والتناقض paradox، وذلك حين يشير علينا "الدليل" بواحدة أو اثنتين من الطُرُق الكفيلة بتحديد الألم من أجل مواجهته، فنقرأ:

"- أيشبه ألَم الجَمال الذي لا يمكنك الاحتفاظ به؟

- أيشبه ألَم السنوات التي تمرّ؟"

إذَن؛ ثمّة ألَمٌ أعظم من هذين الألميَن الأليمين جداً!

إنها مفارقة العيش: بالجرح الصغير نداوي/نداري الجرح الكبير!

*   *   *

* أهذا "دليل الاستخدام" اللازم لكيفية ممارسة الحياة الخاصّة بالنساء في مجتمع مُتَمْسِّح آخذ بالتَفَسُّخ؟

نعم. بمعنى أنّ مجتمعاً كهذا، برمة ما آلَ إليهكَرُزْمةٍ واحدة one package، لا يعدو أن يكون "مادةً" مُشتراة ينبغي لـ"شاريها" المُضطرمعرفة أفضل الطُرُق لعيشها دون أن تؤذيه. قد يبدو هذا استنتاجاً ناتئاً وقراءةً مزعجةً لكثيرين. غير أنَّما نحياه،في هذا الواقع الاستبداديّ متصحِّر الروح، لا يستحق سوى أن نبادله الشيء بالشيء: أنتَ مجرد "مادة" ما دمنا نتحرك فيكَ بوصفنا "موضوعات"،لا أكثر.

* أهذا "دليل الاستخدام" الموجَّه للنساء وعن النساء وكيفية تدبر شؤونهنّ الخاصة والحميمة، فقط؟

أبداً. هو دليلنا جميعاً، لنا وعنّا،نساءً ورجالاً نملكُ الأنوثةَ والذكورة في تكويننا الأصلي بـ مقدار محسوب، ونُجْمَل ونُجْمَع معاً داخل هذه "الرُزْمة"بالمقدار نفسه.

* أما عن الغَرَض أو الأغراض من هذا "الدليل"؛ فاجتهادي يقودني لأن أقول:

بالكشف النزيه عن خبايا الروح الجريحة (والجسد كذلك)، الصادق الصادم، يمكن لنا أن نَشفى منها، أو التخفف من وطأتها. وإلّا: دامَ تصحُّرنا.

باختصار ليس عادلاً بما يكفي:

هذا كتابٌ مُضَمَّخ بالحياة على هيئة الحياة. كتابٌ يَنِزُّ حياةً لا تعتريها وتعتريه عَكارةُ الكذب.

 

20/21  شباط 2014