غالبا ما يُحمَّل العنوان - أول عتبات الخطاب، وثريا النص - بطاقة إيحائية لاستشراف مضمون مدفون في طيات النص/ الأوراق. على أسس مختلفة كالرمز أو التناقض أو الامتداد أو... الخ. (فرانكشتاين في بغداد) عنوان رواية (احمد سعداوي)، فضلا عن إحالته الواضحة، والمقصودة، الى رواية ميري شيلي (فرانكشتاين)، المترجمة من قبل كاظم سعد الدين والصادرة عن دار الشؤون الثقافية - بغداد سنة 2002، يعتمد على اسم علم لشخصية أسطورية. واذا استثنينا كثيرا من ذلك، يبقى المهم هو اعتماد العنوان على اسم علم، بطل، يـُـفترض أنه سوف يشكل العمود الفقري في بناء الرواية. ولكن، وهنا بداية المفارقة، هذه الرواية ليست من روايات الشخصيات/ الأبطال (شلومو الكردي وأنا والزمن لسمير نقاش مثلا)، بل هي رواية تقليدية، من ناحية البناء الزمني، ولكنها تقترب من شكل رواية الأصوات الى حد ما؛ وهذا صلب المفارقة.
ثمة خلاف لم يُحل بعد بين علماء السرديات، في التفريق بين الصيغة والصوت، وموضع التبئير - وجهة النظر أو زاوية النظر أو البؤرة السردية أو المنظور.. الخ من المصطلحات التي لم يتفق عليها، أيضا - بينهما؛ حيث يوجد بين الرؤية وزاوية النظر فرق مهم، يقوم على أساس التفريق بين المادي والمعنوي. فالأول معنوي فكري يدل على الرأي، والآخر يدل على المجال الجغرافي الذي تغطيه العين في موقع معين، يتغير بتغيره.
يتعلق هذا الخلاف – في هذه الرواية - بالمفارقة التي ابتدأت من العنوان، واستمرت مع الراوي، الذي يحكي لنا قصصها. ففي رواية تقليدية، للراوي العليم، على تشظيه وتعدديته، الدور الأوضح والأوسع فيها. ومبنية وفق تسلسل زمني كرونولوجي (زمن الساعة)، لا يُـنتظر – عموما – العثور على استحداث تطور بنائي فني؛ ذلك ما انبنت عليه المفارقة، من خلال تنازل الراوي العليم عن الهيمنة المطلقة، وتشظيه الى أكثر من راو، فضلا عن وجود أدوار واضحة لشخصيات أخرى، قليلة.
إن هذا التشظي، والتخلي عن كلية العلم والحكي، لسارد مركزي في النص؛ أدى الى ضرورة تركيز الانتباه على مقومات العلاقة بين الصيغة والصوت والبؤرة السردية بدلالتيها المعنوية والجغرافية، وهو ما زاوج بين التقليدية والحداثة في هذا النص. كما انه، بعملية غير حسابية، يمكن أن يوازي – أو يتفوق مجموعا – على واحدية السرد.
فقد جاء الحدث الأول في الرواية (انفجار ساحة الطيران) محكيا على لسان أكثر من سارد، وفي أكثر من موقع في النص، متلبسا أكثر من وجهة نظر، ومتأثرا بالموقع الجغرافي للسارد.
وهنا، في مثل هذه اللعبة السردية المتعددة الأطراف، نلاحظ ثبات الزمن - فلا يمكن حصول الحدث عينه في أكثر من وقت، لكن يمكن حكيه مكررا من قبل راو أو أكثر - وتعدد الصيغ والأصوات، وبالتالي تعدد الرؤيات ومجالاتها. فضلا عن إن هذا الشكل يؤدي دور أداة الربط بين المقاطع – وهي واحدة من أصعب ضروريات السرد – ، ويكلل النص ببرقع الجمال والمتعة والشد، تلك التي لا غنى لأي نص سردي عنها.
"حدث الانفجار بعد دقيقتين من مغادرة باص الكيا الذي ركبت فيه العجوز ايليشوا أم دانيال" ص11. هكذا بدأت الرواية، في تجاوز لعتبة قد تكون جزءا من النص، وهكذا بدأت قصة الانفجار الأول؛ على لسان الراوي العليم، الذي يتنقل مثل الكاميرا بين أم دانيال، و "جارات العجوز ايليشوا في زقاق 7"، اللواتي قلن: "انها غادرت حي البتاويين ذاهبة الى الصلاة في كنيسة مار عوديشو قرب الجامعة التكنولوجية" ص11. ثم يكملها الراوي العليم/ الكاميرا حين تنتقل – بعد سبع صفحات – الى "فرج الدلال الذي كان في بيته حين حدث الانفجار المروع في ساحة الطيران. وبعد ثلاث ساعات من ذلك.......... شاهد الصدوع في الزجاجة الأمامية السميكة" ص18.
ثم ينتقل الراوي العليم الى شخصية محورية في النص، ليحكي هو، ولكن بلسان ورؤية هادي العتاك: "- الانفجار الأول لو الثاني؟ سأل العتاك. – الأول.. في ساحة الطيران. قال محمود كي يجعله يستأنف الحكاية...... كان الانفجار فظيعا.... لقد خرج هادي راكضا من المقهى......... وقفت سيارة دفع رباعية" ص 27- 28. فنلاحظ، حين ندقق، استباق الكاميرا للسارد، أو الرائي للسارد، حتى يستقرا معا: "كان هادي يراقب المشهد" ص28. بتوازن العلاقة بين من يرى ومن يتكلم، وتحفـّظ السارد على حدود كلامه، كي لا يتجاوز المجال الجغرافي لعين من يرى.
مرت بنا قصة واحدة، من القصص المتعددة في الرواية، مبأرة على ثلاث شخصيات، واحدة منها السارد، وإن ورد ذلك الحكي كله لراو واحد. ولكنه مقسم جغرافيا، في موقع الحدث وفي موقع الحكي/ النص. يتخلل المشهد الواحد قصص أخرى، بعيدة وقريبة عن الحدث، موضوعا وجغرافية وأشخاصا وزمنا.
وبعد أكثر من أربعين صفحة، وفي فصل آخر، تعود قصة (انفجار ساحة الطيران)، من خلال سارد وتبئير رابعين، استكمالا للعبة السردية التي تتطلب كثيرا من الفنون. السارد الرابع (محمود السوادي) شخصية مهمة في النص، سبق وظهرت في مقهى عزيز المصري، تفترض وظيفتها في الحكاية دورا يتشابه مع وظيفتها في القصة، تعود للظهور في تداخل مع السارد، ومن مجال آخر للرؤية، لم يظهر مع أي من الساردين السابقين [هذا ما يمكن وضعه تحت مصطلح تأجيل أو تقسيم المعلومة، وتتعلق هنا، بطريقة تعدد الحكي، وتعدد البؤر السردية]: "أيقظه الانفجار الذي حدث في السابعة والنصف في ساحة الطيران..... محمود عليك أن تنهض من فورك وتذهب الى مستشفى الكندي لأخذ صور للجرحى...." ص49.
إن تعدد المداخل، أو تعدد الرؤى، وحتى، وبشكل أقل وضوحا، تعدد الحكي، يتكرر في عدد من قصص الحكاية، كقصة (انفجار باب الفندق)، فيرويها العتاك، وترويها روح الضحية، كما تُروى، أو تُرى، مع محمود الصحفي وزميله وفريد شواف. وفي قصة (انفجار البتاويين)، نجد ساردا واحدا، هو الراوي العليم، ولكنه ينقل بؤرته السردية من (فرج الدلال ص 282) الى (العميد سرور ص 308) الى (محمود السوادي 309)؛ حيث سنقرأ أحداثا متعددة – في سياق واحد -، مقسمة على الساردين، لمشاركتهم فيها من مواقع مختلفة.
لكن التطور الآخر في هذا المبنى الحكائي، والذي لا يخرج عن سياق تعدد الحكي، وتعدد البؤر السردية، هو ما نقرؤه في قصة (الشسمه). هذه القصة التي تنازل الراوي محدود العلم كثيرا عن دوره في حكيها، وأعطاه للشسمه، بواسطة جهاز تسجيل (المسجلة). هذا التنازل فرضته جغرافية قصة (الشسمه)، المتمددة الى حي (الدورة)، بعيدا جدا عن الجغرافية المركزية في النص (حي البتاويين). وهذا التمدد الجغرافي هو السبب عينه الذي حجّم (هادي العتاك)، صانع أسطورة (الشسمه)، حكيا وجسدا، عن رواية القصة؛ على الرغم من انه حكى كثيرا منها بصفته حكواتي مقهى عزيز المصري. هذا التطور الفني يشتمل على انتقال (الشسمه) من موقعه كمحكي عنه/ موضوع القصة، ممهد له في إشارات متفرقة في الصفحات (134، 146، 149) الى سارد لقصة أخرى، هي جزء من قصته هو، ولكنها خارج سلطة الحكي للراوي العليم ولهادي العتاك، فافترضت ذلك التبدل الموقعي، من موضوع قصة الى ساردها، في فصل مستقل (الفصل العاشر) يحمل عنوانـُـه اسمَه، يحتل من صفحات الرواية (25) صفحة، هي جزء من قصته، هي "اكبر حكي بأقل ظهور للسارد"، وهي تحديث للطريقة الأقدم، وللساردة الأهم في تاريخ السرد الإنساني (شهرزاد)، لأنها ليست قصة داخل قصة، على أساس تنوع السارد، بل لأنها قصة تكميلية، بتعدد الساردين.
إن تعدد الساردين، اللعبة الفنية التي ظهرت مع ظهور الرواية الحديثة في بدايات القرن العشرين، ليست مما يعتمد بوضوح في هذه الرواية. بل هي تقترب – في هذا السياق – من الميتاسرد؛ لوجود النص – اللاسردي – المقدِّم للرواية، ولدخول (المؤلف) شكلا في النص، دخولا عنيفا من خلال وضع كلمة المؤلف عنوانا لأحد الفصول. ولأن هذه الكلمة لا تحتاج الى كثير من النقاش والتأويل، في ظل قراءات أيديولوجية وشخصية منتشرة في المشهد القراءاتي عموما.. فإن اللعبة تذهب بعيدا، باتجاه الإيهام.. المؤلف في النص ليس هو كاتب الرواية احمد سعداوي، لاسيما وان النص الميتاسردي، العتبة الثالثة في الخطاب، يتحدث عن المؤلف، في حادثة سوف تذكر في الرواية لاحقا.. مما يخلق إيهاما بواحدية المقصود، وهو لعبة سردية لا يمكن الكشف عن سرها، إلا من خلال قراءة، أو تقصي حقائق، لا يمت للرواية بصلة، بل هو بحث يمكن أن يحمل أي صفة إلا السردية.
وهو، ومن زاوية أخرى، إدخال لسارد، من خارج النص، دون مبرر فني، يثير أسئلة لا جواب عليها.. ولا يضيف للرواية ميزة مهمة.. إلا اذا ارتبط بالعتبة الثالثة، وبسلطة الإيهام السردي، يهدف الى إقامة جسر، ليس ضروريا غالبا، بين خارج النص وداخله، في صناعة خطاب ملتبس، يؤدي به – أو ببعضه - الى الوقوع في منطقة الميتاسرد، ولتحميل النص الروائي أقصى ما يستطيع أن يحتمل، في إمكانية المزاوجة بين الطرق التقليدية والحداثية والميتاسردية في تقديم نص يقوم على المفارقة والإدهاش، والاستعارة الفنية المقصودة – التناص – وقدرة التخييل على تقديم الواقع في مشهد سردي أكثر واقعية.