يسعى الكاتب المصري هنا إلى إدارة حواره الإبداعي مع رواية كالبفينو أو مع أطيافها المختفية وراء تلك الاستدراجات التي تتعمد ألا تفضي لنهايات واضحة. لكنه يكتشف أن الرواية برغم أنها ليست من نوع الروايات التي يعشقها، قد أمكست بتلابيبه، فهي قداس روائي لأحد أعظم كتاب بدايات القرن العشرين: فرناندو بيسوا.

لو أن قارئاً، في نهار صيفٍ، صَارَحَ كالـفـينو

عاطف سليمان

لا يُعرفُ عن أية لغة أُنجِزت هذه الترجمة إلى العربية؛ أهي عن الإيطالية مباشرةً أم عن لغةٍ وسيطة؟ والحال هو أن هذه معلومات يضنُّ الناشرون دائماً بها، كأنها أسرارٌ أو كأنها ثرثرة. ما عدا الهنات القليلة فهذه ترجمة رائقة متميزة، عُكِفَ عليها وبُذِلَ فيها إخلاصٌ وجهدٌ وفير. ولا يُنسى أننا في النهاية نقرأ نَصَ المترجم، أمَّا الفروقات بين نص المترجم ونص المؤلِّف فيعلمها الرحمنُ.

يصنِّفُ بعضُ نقّاد الأدب "إيتالو كالـﭭـينو" (1923-1985) كاتباً حداثياً أو ما بعد حداثيِّ أو كاتباً طليقاً من طائفة "آلان روب جرييه" والقائلين بـ"الرواية الجديدة" أو حتى من الخارجين على الطائفة، كما أن روايته هذه "لو أن مسافراً في ليلة شتاء" (1979) قد أدرجَها البعضُ ضمن قائمة "أفضل مئة رواية في تاريخ الأدب". مهما يكن من أمرٍ فالرواية التي بحوزتنا يمكن أن تُوصف بأنها رواية تجريبية، حداثية وما بعد حداثية وما بعد ذلك أيضا.

"لو أن مسافراً في ليلة شتاء" هي رواية من شظايا، كأنها مُصَمَّمَةٌ على شاكلة عنوانها المبتور، تبدو كَمَثلِ بلورةٍ ذات أسطحٍ متكاثرة لعُمقٍ غائرٍ يكاد لا يُحاطُ به ويكاد لا يُسبَر، ولا يُرادُ له. افتتاحياتٌ تلو افتتاحيات مميَّزة أدبياً إلا أنها تُقصَف فلا تتم؛ عَشر افتتاحياتٍ مشفوعة باستدراجاتٍ من الكاتب الذي يلوِّح للقارئ بسحرٍ موعودٍ مؤجَّل. وتتذبذب الروايةُ بين الرسوخ الأدبي الرفيع تارةً والتقمصات والفانتازيات الشبيهة بأفلام الكرتون تارةً أخرى. وإنْ تسأل أو تتساءل فإنَّ الجوابَ منصوصٌ عليه في الرواية ذاتها: «لا تسأل أين بقية الكتاب».

الافتتاحية الأولى ستكون مع وصول مسافرٍ، في ليلة شتاءٍ، بقطار الميعاد الأخير، إلى محطة صغيرة لإحدى بلدات الأقاليم حيث يسهل تمييز الغرباء على الفور. ويمضي القطارُ المسيَّر بالفحم والبخار، في زمن القطارات الكهربائية، تاركاً ذلك المسافر غيرَ مرتاحٍ بين بوفيه المحطة وكشك التليفون. في بوفيه المحطة تتأكدُ غُربة ذلك المسافر، وفي كشك التليفون تتضاعفُ غُربتُه ويحتدُّ قلقُه إذْ يحاول الاتصال بالشخص الذي كان سيلتقيه عند وصوله بحسب ترتيب سابق، وما من مُجيب.

المؤلف يتقدم في رواية قصته بعد مشاوراتٍ مع القارئ.

القارئ المقصود – حتى الآن - هو في الحقيقة قارئان اثنان، أو بالأحرى نوعان من القُرَّاء؛ قُراء خارج الكتاب يحاورهم المؤلف ويمازحهم ويجادلهم ويلعب معهم، وقُراء في صُلب الرواية داخل الكتاب تحت حُكم المؤلف (ربما) مثل "لودميلا" القارئة التي يصادقها "إيرنيريو"، اللاقارئ، الذي يقول عن نفسه: «...، اعتدتُّ على عدم القراءة، ...، هم يحملوننا لنقرأ منذ طفولتنا، ونبقى عبيداً طوال بقية حياتنا لكل الهراء المكتوب الذي يلقونه في وجوهنا. كان عليَّ أن أبذل بعضَ الجهد في البداية لكي أتعلم ألَّا أقرأ».

من الطبيعي أن القارئ الخارجي لهذه الرواية، بعد أن يتمرَّس مع انقطاعاتها، لا يعود يتوقع استمرارية الافتتاحيات التالية، ولعله سيتعامل بتشكُّكٍ في جدواها طالما أنها ستنقطع مثل سابقاتها، ويبدو الأمر – في أحد أوجهه – كما لو أن كالـﭭـينو يحوِّل قارئَه إلى "لا قارئ". كالـﭭـينو المحتاط، الذي يتفهم مسبقاً كل صنوف قُرائه ونُقاده، يكتب في هذه الرواية: «إنني أنتج الكثيرَ من الحكايات في وقتٍ واحد، ...، ...، تجد دوماً حكايات لا يُمكن أن تُحكى قبل أن تُحكى أولاً قصصٌ أخرى»، كما يكتب: «السبيل الوحيد الذي تبقَّى لي هو كتابة كل الكتب؛ أن أكتبَ الكتبَ لكل المؤلفين المحتملين». وواقع الأمر هو أن كالـﭭـينو قديرٌ على إنتاج القصص والروايات بمهارةٍ أودت به – فيما يبدو - إلى الزُّهد في تصنيع القصص وإلى الشهوة في إماتتها؛ فهو صانعٌ حاذقٌ حتى إنه يستطيع تصنيع وتقليد أنماط وأساليب كُتَّاب آخرين في المشرق وفي المغرب، وهو يعمد إلى إثبات جدارته الحكائية بكتابة هذه الافتتاحيات الروائية قاصداً استعراض قدراته فيها، لكنه لا يتمِّم أيةَ قصة، كأنه يعلن اشمئزازَه من القصص والروايات والحكايات المكتملة أو المستوفاة، وكأنه أيضاً يفصح عن احتقاره لكفاءة الكُتَّاب الآخرين في حَبْك القصص ونفوره من انسياقهم إلى تمجيد "الحكاية" المكنونة في الأدب. فهل استطاع كالـﭭـينو إذاً تقديم "الرواية الأخرى" التي ترضي قناعاته وقدراته؟ هل تمكَّن من كتابة الرواية التي تفلت من الحكاية إفلاتاً له سمْت العَداء والمقت؟

لدينا في الرواية بروفيسور في فقه إحدى اللغات التي ماتت أو أوشكت، ولدينا الروائي إيتالو كالـﭭـينو نفسه، ولدينا ثانٍ يكتب بالبولندية، وثالث يكتب بالسيميرية وبالسيمبيرية التي هي لغات من عنديات كالـﭭـينو، وبلجيكي يكتب بالفرنسية، وياباني اسمه "تاكاكومي إيكوكا"، ولدينا "كاليكستو بانديرا"، و"أناتولي أناتولين"، ولدينا آيرلندي يكتبُ عن سَلطنة عربية تكاد تنشب فيها ثورة، ويراقبُ بمنظاره المقرِّب امرأةً شابة اعتادت الجلوسَ على كرسي بحرٍ وتستغرق في القراءة بنهمٍ يثير غيرتَه من ذلك الكاتب الآخر الذي تقرأ هي له، حتى أنه – الآيرلندي - انشغلَ ودأب على أن يراقب ويقرأ هذه القارئةَ لكي يستقرئ من ملامحها وتعبيراتها الكتابَ الذي لا بد أنها سترغب هي في قراءته فيكتبه هو لها، ولدينا تشكيلة من القراء من بينهم سُلطانة إفرنجية زوجة عاهل من بلاد العرب، ثم القارئة "لوتاريا" - أخت "لودميلا" – التي تُطَوِّعُ المكتوبَ حتى يوافق قناعاتها، ثم القارئة الأخرى التي تشبه "لوتاريا" والتي اسمها "كورينا" كما يمكن أن يكون اسمها "جيرترود" أو "أنجريد" أو "ألفونسينا" أو "شيلا" أو "ألكسندرا"، وتصير الفرصُ مؤاتية لكالـﭭـينو لتسريب شذرات من ثقافته وآرائه في القراءة والكتابة والترجمة والنقد الأدبي، ومن ذلك رأيه بأن اللغة التي يمكن تدوينها هي جزءٌ فقط مما يعتاشُ عليه الأحياءُ من الناس لأن لديهم أيضاً لغة أخرى، بلا كلمات، لغة صامتة تمتنع عن الوجود في نصوص الكتب، كما أنه لا يفوّت عرضَ واستهجانَ منهج البنيوية في النقد الأدبي الذي كان من أحدث التقاليع النقدية وقت صدور الرواية. ثم لدينا المترجم، والمحاكاة، وتزييف القصص، ولدينا أيضاً مهنة التحرير الأدبي التي يشهد لها كالـﭭـينو من داخل روايته هذه: «لعلها كانت مهنتي الحقيقية وضللتُ إليها الطريقَ»، وذلك قبل أن يكتب: «لعل مهنتي الحقيقية هي أن أكون مؤلِّفاً للأبوكريفا (الكتب الدينية المحرَّفة والسرية)».

وتكون هنالك حكاية، سندها "الطبري"، عن إملاء النبي (صلعم) آيات من القرآن على الناسخ "عبد الله بن سعد بن أبي سرح" الذي كان بمكرٍ يغيِّر بعضَ كلمات الآيات التي يُمليها النبيُّ عليه – كأنه محررٌ أدبي – ثم يعرضها على النبي فلا يجده ينكرها، وكان أنْ انذهل عبدُ الله ثم ارتاب في الأمر كله وأنكره، إذْ كان هو الناسخ الذي يقدِّس النصَّ الذي ينسخه، بحرفيته، لكن كالـﭭـينو ينكرُ على عبد الله ريبتَه وإنكارَه، غير مدركٍ أن عبدَ الله كان غيوراً على حَرفية النص المقدس بسبب إعجازية هذه الحرفية بالذات في صميم إيمانه، مما يطرح مسألةَ الجدية طرحاً؛ عمَّا إذا كان كالـﭭـينو قد أحاط حقاً بالموضوع الذي يناقشه بخِفةٍ في روايته! لكن كالـﭭـينو يعودُ في الفصل التاسع فيكتبُ قطعةً نَيِّرةً عن حال الإنسان حين يكون في طائرة مسافراً بين مكانيْن: «أن تطيرَ يعني (أنك في) نقيض السفر؛ تعبر فجوةً في الفضاء، تختفي داخل الخواء، تقبل ألَّا تكون في أي مكانٍ لمدةٍ هي ذاتها نوع من الفراغ في الزمن، ثم تظهر من جديد في مكان وفي لحظة لا علاقة لهما بالمكان والزمان اللذيْن اختفيتَ فيهما،،،».

تقول الروايةُ في احترازٍ مُسبَق يشبه التحصينَ: «كل تفسيرٍ هو استخدامٌ للعنف ونزوات الهوى ضد النص»، لكن ألا يحتوي قانونُ كالـﭭـينو هذا – إذا كان صحيحاً - على قدرٍ موازٍ من العنف والقمع بل المغالطة! لذا تعود الروايةُ، بمهارةٍ، لتقول في موضعٍ بعيد: «الخلاصة التي انتهت إليها كلُّ القصص هي أن الحياة التي يسلكُها شخصٌ ما تظل واحدةً، واحدةً فقط، مُطردة النسق ومضغوطة مثل بطانية محبوكة حيث لا يكون بمقدورك التمييز بين الأنسجة».

تمنح هذه الروايةُ الشعورَ بأن كالـﭭـينو شخصٌ شاطرٌ تحتشد فيه طاقاتٌ هائلة للكتابة، إلا أنها طاقات يعوزها الرشادُ والمكوث والجدوى وربما المكر وربما الاستقامة، ولعلها تمنح أيضاً الشعورَ بأنها – هذه الرواية - مثل سيارة تدور عجلاتُها وتهدر، لكنها مرفوعة عن الأرض. تقرأ فيها: «من الوارد أن يشعرَ الشخصُ الذي يتابع قصتي بأنه تعرّض لخداعٍ ما وهو يرى دفقَ التيار يتبعثر هكذا، ...، وأنه لا تصله من الأحداث الجوهرية إلا الأصداء الأخيرة». غير أن كالـﭭـينو، وقد أسلفنا، سيدٌ معدودٌ يستطيع في مراتٍ أن يطلع بالدُّرِّ: «وحدُها الأشياءُ التي نشعرُ بأنها أشياؤُنا تصبحُ أشياءَنا».

بعد ثُلثيْ الكتاب توهَّمتُ أن كالـﭭـينو لن يسمح لنفسه بإنهاء الرواية على هذا المنوال، بل سينعش قارئَه ويدهشه ويمتعه إذْ سيجد سُبُلاً بارعة لِوصْل هذه الافتتاحيات ببعضها، وظننتُ أن الأبوابَ التي تُرِكت مفتوحة في الفصول الأولى ستغتني بالداخلين في الفصول الأخيرة، وأن التفاصيل والشخصيات التي تراكمت في وحدانيات مهجورة ستُضاءُ وتتشابك مُجددا. سُدى. الأسوأ هو أنه أمكن - قرب ختام هذه الرواية - رصدَ كالـﭭـينو مُحرِّضاً ومناصراً القارئ ضد استبداد "الحبكة القصصية" به، لَكأنه يروِّج بذلك لروايته هذه بالذات ويحاول الإفلات بها، ولا يعود المرءُ يدري أيشفق على الكاتب أم على القارئ؟

عُشاق آداب دوستويـﭭـسكي – أنا أحدهم – سيختنقون ويمرضون في صفحات رواية كالـﭭـينو المتكسِّرة، وسيفتقدون السعةَ التي تمنحها الرواياتُ لقارئها فيلتقي فيها بنفسِه وبروحه. لكن الحيِّز الذي لا سِعة فيه – إنْ أُوفى بثراءٍ وأمانة - له أيضاً جاذبيته وتحفيزاته ومجاهداته، وله عُشاقه الذين ليسوا بالقليلين أبدا.

قام المترجم بكتابة مقالٍ كتقديمٍ للرواية عنوانه "كالـﭭـينو: في مديح النُقصان"، وبعد التغاضي عن ابتذال تعبير «في مديح كذا» الذي غدا كأنه مسحوق غسيل، يبقى السؤال: ما نوع النُقصان هذا الذي يمكن امتداحه؟ عساها كلمة حق أخرى لأجل باطلٍ، وهل يمكن امتداح مثل هذا النُقصان لو أن مؤلف الرواية كان شخصاً آخر لا يحظى بمثل شهرة وذيوع كالـﭭـينو؟ لا، فالملك عارٍ كما قال الطفلُ في الأحدوثة.

إنْ كان هذا العرضُ قد تشدَّد هوناً مع إيتالو كالـﭭـينو فذلك بمقتضى أنه سيدٌ معدودٌ في فنون الأدب، وأنه صاحب مجموعة من أهم المحاضرات في الأدب التي جُمِعت في كتاب "ست وصايا للألفية القادمة"، ولأن روايته هذه هي – في النهاية - إحدى الذخائر الشهيرة، مثل رواية "لُعبة الحَجْلة" أو "لُعبة القفز بين المربعات" (1963) للكاتب الأرجنتيني "خوليو كورتاثار"، التي يجب ألَّا يُـفلِتها قراءُ الأدب.

في الختام، أنقلُ فقرةً أعجبتني جاءت على لسان "أركاديان بورفيريتش"، أحد الشخصيات العابرة في الرواية: «لا أحد في هذه الأيام يضع الكلمةَ المكتوبة موضعَ التقدير الرفيع كما تفعل الأجهزةُ البوليسية»!

-------

"لو أنَّ مسافراً في ليلة شتاء"، "“If on a winter’s night a traveler”/ Italo Calvino/ 1979 رواية، المؤلف: إيتالو كالـﭭـينو، المترجم: حسام إبراهيم، الناشر: الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة، الطبعة الأولى 2013، 338 صفحة.