تكشف قراءة الناقد المصري لرواية الفائز الجديد بجائزة نوبل عن جدة الكتابة عنده وعن حساسيته لما يفعله ثقل الواقع المعاصر بالشخصيات الهامشية الهشة في قلب العاصمة الفرنسية. شخصيات طيفية، وكأنها تحت الممحاة، وهي ممحاة اجتماعية ووجودية تكشف عن ثقل العالم وفداحته التي تناوش العقم والموت.

السخرية والتمرد والهويات المؤجلة

في رواية «مجهولات» لباتريك موديانو

محمد سمير عبدالسلام

يكشف الروائي الفرنسي المبدع (باتريك موديانو) – الحاصل على جائزة نوبل في الآداب 2014 – عن التناقض بين مركزية البنى الاجتماعية المهيمنة، والتي تتسم بالتكرار، والأحادية من جهة، والبحث عن أصالة الهوية الفردية، والإحساس المستمر بالتمرد، والتجاوز، وتأكيد فكرة ثراء الحياة الطيفية الهامشية لدى بعض الشخصيات من جهة أخرى؛ إنه يقدم وعي الشخصية بهويتها الذاتية، والإبداعية، وإحساسها بالتفرد في سياق اجتماعي يعزز من الأفعال الآلية الأدائية المضادة للنزعة الفردية، رغم حضورها الجذري داخل الشخصية، وفي الأنساق الثقافية للمجتمع الغربي في آن؛ ومن ثم تبدو الشخصيات الهامشية ثرية، ومتناقضة، وتسخر من كل بنية ثقافية، أو صوت، أو ممارسة رتيبة متواترة في الحياة اليومية؛ فهي ترتبط بإيحاءات المكان، وروائحه، وثقافته، ولكنها تنقطع عنه في المستوى الطيفي / الهامشي من الحضور المتمرد، والمتجاوز لنشوئه، وتاريخه، واستجاباته الأدائية التي يتطلبها تناقض البنى الاجتماعية.

ويبدو ثراء الحياة الهامشية في الوعي المبدع للشخصيات واضحا في رواية (مجهولات) ل(موديانو)، وقد صدرت بترجمة (رنا حايك) عن دار ميريت بالقاهرة سنة 2006؛ إذ تبدو التجارب الفردية للفتيات الثلاث في النص، وكأنها تؤدي إلى الفراغ، أو الدرجة القصوى من التمرد على الرؤى، والأنساق المركزية في المجتمع، ثم استنزاف الضمير الشخصي لبنيته من داخل بحثه المستمر عن التجاوز، والتحقق.

ويقوم النص على ثلاث شخصيات نسائية منفصلة، ولكل منهن علاقة بالمكان / باريس، وكذلك إعادة اكتشاف الذات في الحياة الهامشية، وما فيها من تعددية، وثراء، وتناقض، ورفض، وتجاوز للفردية من داخلها.

ترتبط المتواليات الثلاث الكبرى – إذا – بالبطلات الثلاث، ومدى تعلقهن العام بالمكان، والأحاسيس الداخلية إزاء الأنظمة الطبيعية، والاجتماعية، وكذلك الرؤى والأخيلة المرتبطة بدهشة اكتشاف العالم، والاستجابات الأدائية للذات في الحياة اليومية. وبصدد القلق الملازم لحالات من التمرد لدى هذه الفئة العمرية من الطلاب، والشباب، والشابات في المجتمع المعاصر، يرى (بيير بورديو) أن من هم دون الطبقة العاملة من الشباب لا يستطيعون إطلاقا الإمساك بدفة حاضرهم، أو مستقبلهم، ويعايشون حالة مستمرة من القلق، وعدم الاستقرار، وكذلك يجمعون بين الواقعية القصوى، والطوباوية المغامرة. (راجع / بورديو وآخرون / بؤس العالم / الجزء الثالث / منبوذو العالم / ترجمة: رندة بعث / مراجعة وتقديم: د. فيصل دراج / دار كنعان للدراسات والنشر / دمشق / 2010 / ص 26).

ثمة وثبة أو طفرة للتجاوز داخل الذات – إذا – تختلط على نحو رئيسي بالخضوع، والدهشة إزاء الاستجابات المتعلقة بثبات الوضع الاجتماعي؛ وهو ما يكشف عنه نص (موديانو) الروائي عبر تصوير الانفعالات الداخلية لثلاث فتيات يتمردن على النزعة الفردية من داخلها، ومن داخل تناقضاتها المفاهيمية في السياق الاجتماعي في آن.

ويقوم النص على تقنية (المتوالية القصصية) المتعددة، والمتعلقة بالبناء الفني للشخصيات، ومدى تداخل مصائرهن، أو ارتباطهن بالمكان، أو الانقطاع عنه؛ فالفتاة الأولى تعيد اكتشاف ذاتيتها من خلال تأكيد التمرد، والفردية، وبكارة اكتشاف العالم، ولكنها تواجه الفراغ، والتحولات الطيفية للشخصية إزاء مركزيات المجتمع؛ أما الفتاة الثانية فتجمع بين البحث عن حب حقيقي، والتمرد السلبي الممتد على العالم، والأنماط، والبنى الاجتماعية؛ وتبحث الثالثة عن التناغم المفقود، وتقع بين الخروج عن حالة (التشيؤ)، وميكانيكية الأصوات، والإيماءات المتكررة للحياة الاجتماعية، وإعادة اكتشاف هويتها من خلال العمل الاجتماعي الممزوج باستبطان الذات، والبحث المؤجل عن أسئلة الوجود، والكينونة.

ويمكننا ملاحظة خمس تيمات فنية في العمل؛ هي الهوية المؤجلة، وسخرية وتمرد، والموت، والموت المضاد، وشخصيات طيفية، والمتوالية القصصية بين الأصالة، والانقطاع.

أولا: الهوية المؤجلة:
يعيد الوعي المبدع اكتشاف ثراء الهوية الفردية في بكارة تلقيها للأشياء، والعلامات، والأحداث، وعلاقات القوى المركزية في المجتمع، والأفعال الآلية البسيطة المرتبطة بصيرورة الواقع، والحياة بما تحمله من تناقض بين الحتميات، والإنتاجية الإبداعية التي تشبه تداعيات الكتابة؛ ومن ذلك التناقض يظل البحث عن اكتمال الهوية مؤجلا في مسار الشخصيات الروائية؛ فقد بحثت الفتاة الأولى عن تحققها الآخر خارج تاريخها السابق، وعائلتها، وعايشت تجربة جديدة مع صديقة تدعى (ميراي ماكسيموف) وزوجها (إيدي)، في شقة لا تمتلكها صديقتها بباريس، بعد تجربتين غير موفقتين في الدراسة، ثم محاولة العمل كعارضة، ثم تقيم علاقة مع أحد من عرفتهم بباريس مع صديقتها وهو يدعى (غي)، وهي تشك فيما يقول عن نفسه، وعن عمله، ولكنه يدعوها لمعايشة الحياة، ويمنحها النقود لتشتري الملابس، والأحذية؛ فيبدو كملاك حارس، ولكنه يجسد في وعيها غموض الكينونة والحضور الذاتي، كما يمثل حالة من الفراغ الذي تحبه.

هل كان (غي) تمثيلا استعارية للهوية المؤجلة بداخلها؟

إنها تكتشف ذاتها من خلال بكارة لحظة الحضور، ومن التاريخ الآخر المؤجل في تلك التجارب التي عايشت فيها الغربة عن المكان، وعن الآخر رغم إحساسها بالأصالة، وثراء الهوية، ولكنه ثراء مؤجل في حالات الوجود الطيفي على الهامش؛ فقد بدت البطلة مجهولة مثل المجهولات اللاتي ينتحرن في السين، أو يختفين على هامش باريس، بينما يعتقل (غي)، أو يموت فجأة بعد مطاردات مجهولة؛ وكأن سؤال الكينونة يظل مؤجلا في السياق الاجتماعي، والثقافي المتناقض إزاء النزعة الفردية في اللحظة الحضارية الراهنة. إن الانعكاس المدهش للصور في وعي البطلة يمثل إنتاجية خفية، واكتشافا جماليا للهوية الفردية، رغم أنها تظل بلا اسم، أو تاريخ عائلي راسخ؛ وكأن تلك الإنتاجية تحقق الحضور المؤقت والفريد للذات وسط الإحساس بالغربة، والغموض، وتكرار لحظات مواجهة الفراغ.

أحست البطلة أنها توشك على الانتحار في السين بعد إحباطها، ثم عايشت بكارة التمرد على تاريخها القديم، وتجاوزت العمق المظلم للنهر في رحلتها، وتولدت بهجة خفية بداخلها حين شعرت بالتواصل الاجتماعي، وإمكانية تجدده، وعاينت خريفا آخر بباريس أكثر عنفا، وغموضا في الشوارع، والوجوه، والأضواء التي أوحت إليها بالخدر، وثقل الطاقة الكهربائية.

وتتمثل الإنتاجية الإبداعية الخفية في مجموعة الوظائف الحكائية السابقة في امتزاج الصور بتأويلاتها الذاتية، وحالات الأداء الخيالية الممكنة في كل موقف؛ وكأن الصور تقع في تحولات استعارية داخلية تمنح البطلة اسما مؤقتا، ووجودا فرديا مؤقتا يتجاوز الفراغ من داخله. إن البطلة لتستنزف وجودها الفردي من داخل تعددية الحالات، والصور المقاومة لحالة التعارض المهيمنة بين المركز، والهامش، ولمدلول الهوية المؤجل أيضا؛ فالعالم هو تلك النغمات المتناقضة بين البهجة، والسفر، والكآبة، والغربة، والغموض الجمالي، والأصالة المؤجلة للصوت، أو الذات المتكلمة.

ثانيا: سخرية، وتمرد:
تتصاعد نغمات الحرية، ووثباتها الإبداعية داخل الفتيات الثلاث؛ فيسخرن من البنى الاجتماعية، والأنساق الواقعية المتكررة، ومن تاريخهن الشخصي، أو وضعهن الاجتماعي على الهامش، ومن ذاتيتهن الطبيعية في سياق تجاوز قد يبدو سلبيا لدى الفتاة الأولى التي تترك نفسها في مواجهة الغموض، والفراغ، والثانية التي تجسد الموت، والموت المضاد عبر تدميرها للأنا، والآخر معا، أما الفتاة الثالثة فتوترت بين جبرية الاستجابات الذاتية إزاء المجتمع، ومحاولة اكتشاف الذات من داخل المجموعة الجزئية، والواقع الافتراضي. ويذكرنا ذلك التمرد الشامل بتحليل (بودريار) لتلك النزعات، وما تحمله من تناقض في المجتمعات المعاصرة إزاء ما هو طبيعي، ومتكرر، وكذلك بفكرة السخرية في الأعمال ما بعد الحداثية التي تؤكد التفكيك، واللامركزية، والتجاوز.

لقد تمردت الفتاة الثانية على الأحاسيس النمطية بالقهر، والجوع، والكبت في الحياة الداخلية بالمدرسة، ثم خلعت رداء المدرسة، وارتدت ثوب العمل؛ فاعتنت بكلب يخص سيدة بورجوازية، ثم عملت كمربية، وتعرضت لتلك النظرات النمطية نفسها التي تتعامل معها كشيء، أو كمجرد فتاة مهمشة من رب الأسرة، وصديقه؛ فقتلته بمسدس والدها، واستعادت الشعور بالسخرية، والتمرد على أي نمط سابق.

هل كان القتل نصيا في صيرورة الكتابة؟

لقد حقق النص فكرة التجاوز بصورة سلبية؛ ليؤكد وثبة الحرية، وفكرة الخضوع للنمط مرة أخرى داخل الفتاة؛ إذ تخطى التجاوز طبيعة الفتاة، وذاتيتها، وهويتها باتجاه المحو، ودلالاته الجمالية المتناقضة في النص.

ثالثا: الموت، والموت المضاد:
تتوتر نهايات الفتاة الثانية بين موت الآخر/ رب الأسرة المستغل، والموت الذاتي العبثي المضاد للموت الأول. إن النص يطرح ذلك التساؤل الفلسفي المتكرر حول الموت، وعلاقته بالكينونة، والأثر، والوجود المرتبط بلحظة الحضور المؤقتة؛ فتداعيات النص، وعلاماته تحاول التمرد على الموت كنظام طبيعي، بينما تؤكد حدوثه؛ فيبدو الموت عبورا مضاعفا باتجاه الحرية، وكذلك نظاما استاتيكيا مركزيا يتجاوز سخرية الفتاة، ووثبتها. وتذكرني نهايات الفتاة بالموقف السردي الأخير لبطل رواية (الغريب) لـ(ألبير كامو)؛ فقد جسد (موديانو) ذروة أحاسيس السخط الداخلي على الأنساق الثابتة المتواترة، مثلما صرح بها صوت بطل (كامو) قبل أن يواجه الإعدام.

تقول الفتاة الثانية في رواية (موديانو):

«في كل الأحوال ستكون دوما نفس المواسم. نفس البحيرات. نفس الحافلة يوم الأحد مساء. الإثنين. الثلاثاء. الجمعة. يناير. فبراير. مارس. مايو. سبتمبر. نفس الأيام. نفس الأشخاص. نفس المواعيد. دائما خمسة أصابع، كما كان يقول أبي». ص 99. لقد هيمن التواتر الممزوج بنغمة السخرية على وعي، ولا وعي البطلة؛ فدخلت عالم الظلمة، أو موت الذات، وموت الآخر نصيا؛ ليخلف النص سؤالا متجددا حول علاقة الموت بالزمن، والكينونة، والهوية الجمالية، دونما إجابة.

أما بطل (الغريب) لـ(كامو) فتوتر بين إحساس معايشة كل شيء من جديد، وأن يرى الصرخات المليئة بالحقد، والكراهية إزاءه قبل الإعدام في عالم فقد الإحساس به. (راجع / كامو / الغريب / ترجمة: عايدة مطرجي إدريس / دار الآداب ببيروت / 2013 / ص 149).

إن تلك الأسئلة المتعلقة بإشكالية الموت، والحياة العبثية، والتمرد تتواتر في الفكر الغربي، ويعيد (موديانو) طرحها بصور نصية، وجمالية فريدة، وفي لحظة حضارية متناقضة، ولا تنفك عن تراث الغرب الفلسفي، بما يحمله من مواقف إزاء الذات، وتناقضاتها اللاواعية، وتأكيد بعض البنى الاجتماعية، والسخرية منها، ومحاولات تجاوزها.

رابعا: شخصيات طيفية:
تتناوب الشخصيات حالات من الظهور، والاختفاء المفاجئ؛ ومن ثم فهي شخصيات طيفية؛ لأن مرجعياتها الواقعية، والتاريخية مفككة، ومتناثرة، وتختلط – بصورة رئيسية – بلحظات المحو، والفراغ. لقد انشقت الشخصية الأولى عن تاريخها، وتعلقت بالمكان/ باريس عبر وسيط صديقتها، وزوجها، وهما أيضا لا يملكان الشقة، ولكنها لإحدى صديقات صديقة البطلة، أما الرجل الذي عايشته الأخيرة فمجهول الاسم، والمصير. إن (موديانو) يومئ في عمله الروائي الفريد إلى تلك الشخصيات الفريدة التي تقع على هامش الحضارة، وبقايا المركزية، وهي شخصيات شبحية متمردة، وأدبية، وتوجد في مسافة استعارية بين الحضور، والغياب في الثقافة العالمية المعاصرة.

وتومئ عتبة العنوان/ مجهولات إلى ذلك الحضور الذي يفتقد التعريف، والتأريخ، والجذور، وإلى ما فيه من مقاومة إبداعية لفكرة الجذور الثابتة في حدودها القصوى أيضا.

خامسا: المتوالية القصصية بين الأصالة، والانقطاع:
المتوالية طبقا لـ(رولان بارت) مجموعة من الوظائف السردية المتماسكة منطقيا ضمن نسيج القصة، أو الرواية، وقد ترتبط بمتواليات أخرى جديدة، أو بالشخصية الفنية؛ وهو ما نلاحظه في البناء الفني لرواية (موديانو) التي ارتكزت على ثلاث متواليات كبرى تتعلق كل منهن بفتاة متمردة محبطة لها علاقة بهامش المكان/ باريس، وثقافته الراهنة، كما تتواتر المتواليات القصصية المتعلقة بكل شخصية على حدة بكل من الأصالة، والانقطاع عن المكان، والتاريخ، والمدلول الثابت للهوية.

وبصدد علاقة المتوالية ببناء الشخصيات في القصة، يرى (رولان بارت) أن كل شخصية تستطيع أن تكون فاعلا لمتوالية من الأفعال الخاصة بها، فكل شخصية، وإن كانت ثانوية، هي بطلة متواليتها الخاصة.

(راجع / بارت / مدخل إلى التحليل البنيوي للقصص / ت: د. منذر عياشي / مركز الإنماء الحضاري بسوريا 1993 / ص 64).

هكذا صاحبت المتواليات الشخصيات النسائية في نص (موديانو) في حالة من اتصال المصائر، والشعور بالغربة، والعبث معا.

وتتجلى متواليات الأصالة، والانقطاع عن المكان بوضوح في شخصية الفتاة الثالثة التي تلقت رتابة الأصوات، والأفعال بسخرية، وتمرد، ومحاولة لتجاوز كل ما هو تقليدي في وعيها، ولا وعيها. لقد شعرت الفتاة في متوالية الانقطاع عن المكان بالقلق، والسخرية المريرة إزاء صوت حوافر الأحصنة التي يتم التخلص منها بعد أن عملت في السيرك، وعرفت الأغنياء يوما.

هل كانت الأحصنة تمثيلا مجازيا للمهمشين، والمهمشات في مسار الحضارة العالمية، وتناقضاتها؟

إن الفتاة تبحث أيضا عن التناغم الداخلي المرتبط بالمكان في متواليات أخرى، ولكن يظل تحققه مؤجلا دائما.

ويبدو هذا واضحا في المتوالية المتعلقة ببدايات جلسة استرخاء في المجموعة التي عملت معها الفتاة؛ فقد أشارت عليها (جنيفييف بورو) بالاسترخاء، والهدوء، والتخلص من الحزن، وأطفأت المصباح، وهي تدلك جبهتها، ولكن الفتاة ظلت تتساءل حول الوقائع التي تثير الإحباط، والتمرد، وأسئلة التناغم الذاتي المؤجلة مرة أخرى.

لقد وقعت الفتاة في مسافة مؤجلة من التحقق، والأصالة التي بدت في المتوالية السردية أقرب إلى العوالم الخيالية، والافتراضية.

 

msameerster@gmail.com