تجمع (الكلمة) على عجل بعض ما نشر عن محمد ناجي، شاعر الرواية العربية الجميل الذي رحل قبل الآن، وهو مليء بالإبداع، آملين أن نرد بهذا المحور الصغير، وليس الملف بالمعنى الكامل للكلمة، عن هذا المبدع الكبير شيئا من الغبن الذي حاق به، لأنه نأى بنفسه عن الفساد، وابتعد عن الحظيرة وعن الفساد.

محمد ناجي .. رحيل حزين لشاعر الرواية المصرية

تكشف الطريقة الحزينة التي رحل بها محمد ناجي وحيدا، ضائعا تقريبا في باريس، عن أن الثورة المصرية لم تنجح بعد في وضع الأمور الثقافية في نصابها الصحيح. فبدلا من أن يتصدر المشهد كل الكتاب الذين رفضوا النظام الفاسد إبان سطوته، وزرعوا في وعي القراء ضرورة مقاومته وإسقاطه، ويتم الاهتمام بهم وعلاجهم على نفقة الدولة، التي سبق لها أن عالجت، وأحيانا لمرتين، على حسابها «كتابا» بين قوسين أقل منه قيمة وقامة. نجد أن ما جرى من قبل في زمن الانحطاط، زمن حسني مبارك، مع عبدالحكيم قاسم يتكرر بحذافيره مع كاتب يشاركه في الكثير من الخصال السردية والأخلاقية، وتألق الموهبة هو محمد ناجي. يسقط في باريس متعثرا في شباك جمع تكاليف علاجه، على حسابه الشخصي وحساب أصدقائه. وبدلا من أن يتوارى كلاب حراسة النظام الساقط خجلا مما اقترفوه، ومن جنايتهم على الثقافة والمثقفين طوال سنوات من الاستمتاع بعلف حظيرة فاروق حسني ونظام مبارك. وقد ترفع عنه كل كتاب مصر المخلصين، بمن فيهم محمد ناجي نفسه، نجد أن كلاب حراسة النظام الساقط سرعان ما التفوا على أنفسهم 180 درجة، ليعتبروا أنفسهم اليوم المعبر الحقيقي عن الثورة المهدورة. وليواصلوا إعادة تدوير كتاباتهم الركيكة تحت لافتة عريضة يصف صاحبها نفسه دوما بالكاتب الكبير.

وسط هذا الخلل الخطير يلملم هذا الكاتب الكبير بحق، رغم أنه لم يحرص مرة على أن يصف نفسه بذلك، أوراقه ويرحل، بعد أن أثرى الرواية المصرية بأعمال ستبقى خالدة على مر الزمن في وجدان الرواية المصرية، حينما لن يبقى من أعمال كلاب حراسة نظام مبارك، الذين ركبوا الأن الثورة، شيء. فمثل عبدالحكيم قاسم الذي كانت روايته الأولى (أيام الأنسان السبعة) علامة فارقة على تغير طبيعة الكتابة عن القرية المصرية، ومنهج التعامل السردي معها. كانت رواية محمد ناجي الأولى (خافية قمر)، والتي صدرت بعد مرور ربع قرن على رواية عبدالحكيم قاسم، هي الأخرى العلامة الفارقة التالية لها في مسيرة تلك الكتابة. فقد تميزت مثلها بلغة صافية تجعله واحدا من شعراء الرواية المصرية الكبار، ورؤية نافذة إلى بنى القرية الثقافية التحتية، وعالم بالغ الخصوصية والخصوبة والتميز. صحيح أنها تختلف عن رواية قاسم في كل شيء، إلا أن هذا الاختلاف هو سر تميزها وأهميتها معا. فالأعمال الكبيرة تضيف إلى مسيرة الرواية بالاختلاف أكثر مما تضيف لها بالتماثل، وتفتح أمامها مسارات مغايرة في سبر أغوار الواقع واستقصاء طرائق جديدة في الكتابة عنه. كانت هذه الرواية بحق، وقد كتبت عنها حينها، عملا مدهشا بكل معنى الكلمة.

وبدلا من أن تجيء الرواية التالية لها على منوالها، خاصة وقد أطرى الرواية الأولى الكثيرون، جاءت (لحن الصباح) وقد كتبت عنها في حينها أيضا، عملا مغايرا كلية: في لغته السردية، وبنيته الفنية، وعالم شخصياته الهامشية، وطريقتها المراوغة في نسج حبكتها المرهفة من أوهى الخيوط وأكثرها رقة وهشاشة. ثم تتابعت بعدها أعماله (مقامات عربية) و(العايقة بنت الزين) و(رجل أبله وامرأة تافهة) و(الأفندي) و(ليلة سفر). وقد قطعت الأسفار وتناقص التردد على مصر متابعتي لأعماله، فلم تقع في يدي إلا رواية واحدة من بين تلك الروايات، هي (رجل أبله وامرأة تافهة)، كتبت عنها في حينها. ولما التقيته آخر مرة في زيارة قصيرة للقاهرة عام 2011 قدم لي أعمال الأربعة الأخرى، ولكني انشغلت عن قراءتها بمتابعة ما كان يدور للثورة المصرية، وبكتابتي عن مؤامرات الثورة المضادة عليها، وكشف مخططاتها اللئيمة.

ولما عدت للبحث عن تلك الأعمال فور أن بلغني خبر رحيله وجدت أن الإهداءين اللذين كتبهما لي علي آخر روايتين: «إلى الضمير الباقي» أو إلى «الشمعة التي تضيئ ضمير النقد الأدبي» يمكن قراءتهما الآن كصرختي استغاثة. وكأنه يطلب مني المشاركة على الأقل في رفع الظلم الواقع عليه. فبرغم أن أعماله تتابعت بإيقاع معقول، واستمر مستوى الإبداع فيها مرتفعا، بل تواصل الارتفاع فيه من عمل إلى آخر، أقول هذا بعد أن قرأت روايتين من الأربعة، فإنه لم يحظ من الواقع الثقافي بما يستحق من تقدير. وكان وقتها يتحدث عن ضرورة السفر إلى باريس لإجراء جراحة زرع كبد، ولم أسمع عمن طالب بأن يعالج على نفقة الدولة، أو حتى على حساب اتحاد الكتاب الذي استثمرت وديعة سخية من حاكم الشارقة لعلاج كتابه. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو لماذا هذا الخلل؟

كان هناك رأي شائع بأن ما يتيح للكتاب الازدهار وذيوع أسمائهم هو العمل في الصحافة. لكن محمد ناجي أنفق جل عمره عاملا في الصحافة. إذن فالمسألة ليست مجرد العمل في الصحافة إذن. وإنما لابد أن يكون للعمل في الصحافة، كي يلمع صاحبه الذي له علاقة بالكتابة، جانب آخر. كأن يكون صديقا حميما لمسؤول جهاز أمن الدولة عن الصحافة، كما كان يتفاخر بعض من يزعمون بأنهم كتاب كبار. لابد أن يكون الكاتب جزءا من جهاز الهيمنة الذي يساهم في تدعيم سلطة الحكم، ويتحول فيه عدد من الكتاب إلى كلاب حراسة، ويتخلون كلية عن دورهم كحراس للقيم والفن والمواقف النبيلة. يكشرون عن أنيابهم لكل من ينتقد النظام أو يشكك في مشروعيته، ويساهمون في تشويش الضمير الثقافي باستمرار. ويبرهنون لسادتهم أنهم يعملون بإخلاص في خدمة النظام الذي يرد لهم الجميل بسخاء يزيد من رأسمالهم الفعلي والرمزي المغشوش، ويسبغ عليهم المناصب والجوائز التي لا يستحقونها، ويعرفون جيدا أنها جاءتهم، لا عن جدارة، وإنما نتيجة قيامهم بخدمة المؤسسة الأمنية خاصة، في مجتمع كان للأمن فيه، ومازال للأسف بعد الثورة، دور كبير في ترتيب الحصص والمكانات.

ولأن محمد ناجي ترفع عن الولوغ في تلك المباءات، برغم عمله المستمر في الصحافة، فقد عانى من الغبن والظلم والإهمال. وانضم برحيله الحزين إلى سلسة طويله من أسلافه الكبار من عينة عبدالحكيم قاسم، وفاروق عبدالقادر ومحمد البساطي وغيرهم.