هذه الرواية التي يجب أن تقرأها أكثر من مرة لكي تدخل إلى عالمها الساحر، رواية منتصر القفاش (تصريح بالغياب) الصادرة من دار شرقيات هي رواية تتحدث عن الأنا وعن الأخر بنفس درجة الأهمية وبنفس درجة الشاعرية. الرواية تدور أحداثها في عالم الجيش. ليس العالم المغلق بأسواره والذي يقف على أبوابه عسكر يحملون بنادق آليه، لم يجهز فيه الجنود لحماية الوطن أحيانا عن حق وبغير حق، ولكن العالم الذي يسرده القفاش ليس عالم الثكنات العسكرية، وليس العالم الذكوري بمفهومة التقليدي، إنه عالم التفاعل بين الذكوري والأنثوي. البطل/ الراوي مجند في الجيش "مؤهلات عليا" يقضي سنة في الخدمة العسكرية. تقوده الصدفة أن يقوم بتدريس اللغة العربية لفتيات مدرسة التمريض، ويظل آية لهذه المدرسة طوال فترة الرواية والجيش فالجيش الرواية أصبحا كلا لا يتجزأ .
ويعتمد الروائي في سرده على ضمير المخاطب الثاني، وكأن الحاكي يسرد القصة لك وحدك فقط. وكأن البطل غريب عن السرد. وهذا من احد أصعب الأساليب السردية، لأن الراوي كأنه يتحدث مع البطل الذي هو مركز العملية الحقانية .البطل هنا يتفاعل مع الآخرين ولكن الروائي هو الذي يشاهد ويعلق ويخاطب القارئ .
ويصور الكاتب، بحساسية مدروسة بين فتيات مدرسة التمريض، وبين الأفراد المجندين، ويحاول إلقاء الضوء عليهم بأسلوبه السردي المتميز، العلاقة بين المدرس المجند وبين فتاة التمريض التي تعشق هذا المجند, وتكتب له خطابا غراميا، وتكون نتيجة هذا العمل الانفعالي أن الفصل والمدرس يحدث به ضجة وصراع، نظراً لعدم اكتشاف من صاحبة هذا الخطاب. ولكن محاولة للخروج من سجن الانضباط، ومحاولة التعرف كلاً منهما عن الأخر. فخصوصية المكان والحرمان الانفعالي في هذا العالم الصارم هو الذي أشعل رغبة التلميذات في اكتشاف الأخر، ألا وهم الجنود. فالعلاقة الجسدية هنا ترتبط بحتمية المكان، فالجنود هنا الرجال أيضا يتواصلون، وكذلك الفتيات فالحركة والتداخل والتواصل تشكل جميعها الجو النفسي الذي يرسمه منتصر في روايته (تصريح بالغياب ).
يقول: معتاد أن يسب احد النائمين من يجاوره ويرفضه بقدمه، ويرتفع ضغط من لم يزل مستيقظا وعديدة إلى أي منهما وشد البطانية، البنطلون، ويقفز فيصطادونه بينهما ويبدأن في الضغط عليه من الجانبين حتى يتخلص منهما ويشتد تداخلهم وتضاغطهم ويبدون كأنهم لن ينتهوا لن يقدروا علي فك ما انفق من أجسادهم.
وكأن حركة أجساد الجنود هي حركة الكون الكبير بكل ما فيه من تنافر وتجاذب. ليس الحركة فقط هي التي تسيطر علي هذا العالم، ولكن أيضا الرائحة البطل في هذه الرواية هي اللغة وإشاراتها ودلالاتها والتي من خلالها قام منتصر ببناء هذا العالم القائم علي الرائحة والحركة والصوت والصورة. فالحواس كلها عاملة وفاعلة. فلكل شخص رائحته الخاصة، وأيضا لكل مكان خصوصية عطرية .
يقول منتصر «رائحة هي مزيج من دخان السجائر والتراب المكوم في كل الأنحاء، ورائحة البيادات، وأجساد من لم يستحموا منذ فترة، والكتب القديمة المصغرة الأوراق، وبقايا طعام، وبطاطين تخترن كل ذلك وتبعثه من جديد. يهمس احدهم بان هناك رائحة غريبة». (ص31). وبالرغم من أن البطلة الأنثى لا تتاح لها فرصة التعبير بضمير المخاطب إلا أن السارد أستطاع أن يصور شخصيتها القوية المتحدية من خلال أساليبه السردية فالبطلة هنا ممرضة وهذه مهنة لا يقبلها إلا ذوات القلوب الكبيرة والشخصيات التي تتعامل مع الإنسان في أضعف لحظاته، ألا وهي الألم والمرض وكذلك فقد نجحت الفتاة في فهم شخصية المدرس الرومانسي الحالم الذي يتطلع إلى الخروج من الجيش والغياب منه لكي يحقق حلمه حتى أن يكون وأن يوجد وألا يتغيب عن عالمه الداخلي أو عالمه الخارجي إلا وهو الوطن الكبير.
الجندي هنا (الراوي) لدية قدرة علي الرصد ليس فقط الرصد الوصفي ولكن من خلال لغته يرسم هذا العالم الحقيقي جيداً ففي وصفه لحجرات نوم التلميذات الممرضات فرحلته اللاإرادية لرؤية فتاته فهو من خلال حديثه عن الآخر، يري ويكتشف ذاته ويتعلم أيضا أشياء عن الآخرين والأخريات. يستخدم لغة هي اقرب إلى اللغة السينمائية حيث التكثيف ورحابه الخيال فهو علي سبيل المثال يذكر. «عالم الخدمة العسكرية هنا ليس العالم القاسي الذي يعد الرجال إلى الحرب والدمار ولكن في مرحلة السلم يحدث الاندماج والتواصل فالجنود هنا في مكان ذا خصوصية. القسوة هنا نسبية، والحرمان المادي يتصارع مع الإشباع الانفعالي، فالكاتب يلمح ان هناك علاقة سرية تتم بين العسكر وبين الفتيات الممرضات. هذا التواصل ليس بسبب خلل في قيم الأفراد.»
الصول عزيزة في هذه الرواية الكل له حضور، الكل هنا أبطال. المكان الذي جمع هذه الشخصيات هو الذي جعل منهم هذه الكائنات المتحركة. الصول عزيزة بحيويتها ونشاطها وعلاقتها الآنية مع الممرضات، سعاد الفتاة الجميلة مركز احترام الجميع، المقدم عظيمة بقوة شخصيتها وصلابتها مع تمتعها بقوة الحدس، هريدي حارس هذا المجند الريفي الذي يمثل الشخصية المصرية بكل ما فيها من جمال فطري فهو خجول في بداية خدمته في الجيش ثم يتأقلم ويدوس علي الملل بالغناء والاختلاط بالآخرين والتعاون معهم وأحيانا تقليدهم فهذه هي الشخصية المصرية والتي استطاع أن يعبر عنها منتصر بقدر قليل من السرد، ولكنه كافٍ لإعطاء روح وجوهر هذه الشخصية .
ويظل البطل وكأنه عين كاميرا خفية تتلصص علي الآخرين وتكشفهم؛ ولكن بحب وبرغبة في المعرفة ولكنه يقترب أكثر وأكثر بكاميراته من بطله الذي هو دائم التربص بفتاته راصدا لها ومراقبا لها ويريد أن يفوز بلحظة من التحقق معها عن طريق التواصل الشعوري والجسدي. ولكنه لا يملك ذلك إلا بالتلصص عليها من دورات المياه، حيث الرغبة التي تتأجج تدفع الإنسان إلى فعل اللامعقول .
يقول منتصر: «كل شيء حولك ...، يكشفك حتى حنفية المياه لا تأمن لها».
باب الدورة مغلق لكنك تشهده وهي تفتحه وتنظر أسفلك نظرة عابرة أو محدقة وتشعر بازرار بنطلونك مفتوحة وبلباسك يتجعد بما يمتد."
هذا الأدب وعدم الإباحية في تصوير أرقي الغرائز الإنسانية إلا وهي ما يميز رواية منتصر القماش.
أمل هي شخصية أخري من الرواية كما يراها منتصر هي نتاج المجتمع الذي نعيشه بكل متغيرات الشخصيات، في هذا العالم تأتي إليه فيكشفها ويفرضها للقارئ او للمخاطب فقد فضلت لتغيبها أياما طويلة. أكثر من مرة أتى فيها أصلها لزيارتها والسؤال عنها، وعرفت انها تزوجت لمدة أسبوعين وسافرت الإمارات شهراً وعملت في سوبر ماركت ومحل بيع زهور وكافتريا وبوتيك ونادي فيديو والآن في صيدلية ببولاق الدكرور، ولكنها مثل يوليسيس دائماً متحركة وتشعر بالملل من البقاء من مكان واحد، فهي تريد أن تعمل في المعادي .
بالرغم من بساطة هذه الشخصيات إلا إن وجودها حقيقي بل أحيانا يصل إلي الوجود الملحمي اذ جاز التعبير. حيث أن هذه الشخصيات برغم صعوبة الحياة وتعقدها إلا إنها تريد أن تبقي وتستمر وان يكون لها وجود برغم حتمية المعانة اليومية في هذه الرواية يرمز الراوي للآخرين حياتهم وأفعالهم وكأنه يذكرهم بها وكأنهم نسوا ما مضي وكأنه يحاول هو الأخر جاهداً أن يؤخر بشكل وثائقي عن هذه الفترة الجيش وكأنها محاولة لإثبات الحق الشرعي في الوجود وعدم الرغبة في إفلات هذه التجربة من خير الخبرة الحياتية.
«عسكرى مستجد كأنك ظلي الذي لا أراه يتبع اثري في هذه البقعة العميقة الممتلئة بأبواب تتخابط في قوة دون صوت.» بهذه العبارات يؤكد الراوي أن الملكية تتكرر وستكرر بوجود أخر في الرواية سواء سيرصد داخلها أو هناك أخر سيقوم بهذه المهمة الكل موجود ومتحقق حتى الذي لا تعرفه.
يقول منتصر: استطيع مع هذا الاسم أن أفقدك قليلا أو طويلاً في زحام الشارع ثم نلتقي مرة أخري ونحكي كيف افتقدنا أخرنا الأخر ونسير متجاورين حتى تثقل عليك مختلك فتتوقف وربما تجلس علي الرصيف (ص44).
الراوي هنا يعشق الأخر محب لهم عليهم علاقته بهم ليس علاقة بصرية ولكنها علاقة نفاذة فهو قادر علي رصد حتى توترات عضلاتهم واضطراب نبضهم فهو قريب منهم جداً وكأنه حبل الوريد وهذه هي قوة السرد عند منتصر القماش. الرواية ليست عن عالم الشوق والشبق والشهوة كم تخدع بعض أجزاء الرواية، ولكن الجنس المتوهم هو الحقيقة التي تسيطر على شخوصها فالجنس بطل له حضوره الواضح لكن حاجته نفسيه خالصة ألا وهو التأكد من أن الأشخاص موجودون بالفعل وأنهم برغم سلطه المكان إلا أن المشاعر الانفعالية لا تستطيع أي سلطة السيطرة عليها أو كبتها لذلك يكثر السرد عن حكايات النساء والرغبة المتأججة في صدور العسكر وحكايات التحقق والشبق والجنس في هذه الرواية حقيقي ووجودي.
لم يستغرق الأمر دقائق دخلت لتحضر نسخه أخرى أنغلق الباب وأحتضنتك من الخلف واستدرت وضممتها إليك وقعتما على المحل، واصطدمت راسك بقفل أحداها، كتمت أهاتك بين شفتاها الغليظتين وحاولت أن ترفع جبينها، مسكت يديك وتحركت فوقك في سرعة وقوة حتى تشنج جسدها ضاغطاً عليك وقامت مسرعة تعدل ملابسها وتناولت كتاب قراءة واخفت به البقعة التي تخلفت على الجيبه وخرجت إلى الفصل (ص54-55)
في هذا العالم المغلق يرسم الراوي بنوراما السلوك الإنساني الذي يتأرجح ما بين الخير والشر، الشهوة والحب، والخوف والشجاعة التفاؤل والتشاؤم وغيرة من السلوك الإنساني وتنتهي الرواية انتهاء امتحانات أخر السنة، تنتهي بحصول المجند على تصريح الغياب، ولكن الذكريات والشخوص في هذه الرواية لا تزال حاضرة وان غاب هؤلاء الأشخاص فان آخرون يحلون محلهم وتتكرر الحكاية مع فارق بسيط إن الشخوص مختلفة ولكن الطبيعية البشرية واحدة.