ولا يزال النقاش دائرا، بين مؤيد ومعارض، أيوجد أدب نسائي وآخر رجالي، ومن يرفض التقسيم، وفي ذات الوقت نجده يتحدث عن أدب أمريكا اللاتينية، والأدب الروسي، وما شابه ذلك من تقسيمات. والعبرة في كل ذلك أن الأدب يحمل من صفات المكان الكثير، أو أن أدب هذه المنطقة له سمات عامة تجمعه. وإذا كان ذلك علي اعتبار أن طبيعة المكان تضفي أجواءها علي الإبداع الناتج فيها. أليس البشر أيضا يختلفون ويتنوعون فيما بينهم؟ وأليست المرأة – مهما ادعينا ونادينا بالتحرر والمساواة – أليست لها طبيعتها المختلفة عن الرجل؟ ثم أليس الاختلاف والتنوع من طبيعة الحياة والناس علي الأرض؟ فلماذا إذن ننكر وجود أدب يحمل الهم الأنثوي في جنباته، ويعبر عن ما تعانيه المرأة من معاناة نفسية وجسدية؟
وإذا كانت كل أعمال "سعاد سليمان" –تقريبا- تدور في هذا الفلك، فإن "شهوة الملايكة" ليست ببعيدة عن ذلك، وإن تواري الهم في العمق وراء السطح الذي قد يبدو كجلد القنفذ المغطي بالشوك، ليعبر عن روح الأنثى، التي قد تنبش في الظاهر أشواكا تخيف من يقترب، بينما هي في الداخل تتوق إلي الحب والحنان.
وتثير مجموعة "شهوة الملايكة" مجموعة من الإشكاليات ، منها:
1 - قضية الثقافة. حيث الثقافة هي موروث الشعوب من العادات والتصرفات المؤثرة علي حياتها والممتدة عبر السنين، فتحدد طرائق سلوكهم.
2 – قضية التغيير. والتي تتطلب لا تغيير الأفراد أو المواقع، وإنما تغيير الثقافة، الذي يستتبعه تغيير السلوك.
3 – قضية الأدب أو الإبداع وعلاقته بالمجتمع حيث لا يوجد ما كان يسمي بالفن للفن. وإنما الإبداع رسالة. وإن لم يسع ليكون له دور في المجتمع، فلا حاجة للمجتمع به. المهم، أن يبتعد عن الخطابية والمواعظ.
4 – القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا حيث أن القصة القصيرة فن لا يرتبط بمساحة كتابية محددة، وإنما أن يكون قصة قصيرة، أو لا يكون.
وسيتضح وجود تلك المشكلات بصورة أو أخري سنتبينها من خلال تناولنا للمجموعة بصفة عامة.
البيئة الاجتماعية
فإذا ما تأملنا قصة "شهوة الملايكة"[i] وهي القصة التي منحت المجموعة اسمها، وأثارت الجدل غير المنطقي الذي يتحدث عن أن ليس للملائكة شهوة، في نظرة غير أدبية غافلين جماليات الإبداع الأدبي. وبين من يعيب استخدام "الملايكة" وليس "الملائكة" متغافلين - أيضا - عن طبيعة ووقع الجرس العامي، وشيوع استخدامه، والذي يحمل من إشعاعات وظلال قد تفوق ما لتلك اللفظة الفصيحة. فضلا عن حتمية استخدام "الملايكة" في سياق القصة المذكورة لورود الكلمة علي لسان الأم الصعيدية البسيطة التي لم تنل أي قسط من التعليم، وسمعت الكلمة هكذا، وما كانت لتستخدم الكلمة الفصيحة، و التي حينها سيكون الهجوم علي الكاتبة بأنها تستخدم لغة متعالية علي الشخصية.
تستمر سعاد سليمان في هذه القصة – كما في كل قصص المجموعة تقريبا- تناول الإنسان الفطري الذي سيطرت عليه السماعيات، والموروث من التقاليد والأفكار، المعتمدة أساسا علي الغيبيات التي ترسخت علي الأرض، وأصبحت نهج حياة.
تفرض الأسرة علي الفتاة من الملبس ما يغطي كل جسدها، حتي تستخدم الكاتبة لفظة تحمل من الإيحاءات، ما يفرض علي الذهن عالما بأكمله إذ تقول:
{لم يعد للملابس الكفنية التي تقبرني بها أمي أي قدرة علي إبراز أي شئ إلا كتلة سوداء متحركة} ص31
فهي هنا تربط بين الحياة بالصورة التي تريدها أمها، ويريدها عليها المجتمع من حولها، بالموت، والملابس بالكفن.
تعيد الأم علي ابنتها، أن (كعب رجلها) باين في الصلاة، وفي رمضان ؟ بحجة أن ذلك يثير شهوة الملائكة الحارسين علي كتفيها.
لم يقتصر، ما قد يبدو من جسد الفتاة، علي إثارة البشر، وإنما يتجاوز ذلك لإثارة الملائكة، وتحاول الإبنة عبثا أن تشرح لأمها أن الملائكة كائنات نورانية، لا تأكل ولا تتزاوج، وليس لها شهوة من الأساس، إلا أن العقيدة ترسخت في جوانية الأم، واستحال إخراجها، ليتبين حجم المعاناة التي تعيشها فتاة اليوم الناشئة في بيئة متواضعة، تري أن {المرأة منا خُلقت لتَقَّر في بيتها، ومنه إلي القبر}.
تستمر المعاناة والمطاردة للفتاة ، في الخارج، من نزوات البشر، وفي الداخل من شهوات الملائكة{ وعندما وقرَتُ في بيتي هربا من نزوات الرجال، طاردتني شهوات الملائكة ... حتي القبر}.
وللعلاقة التي تربط الأم بالإبنة، وأثرها عليها، مع استمرار حالة سيطرة المعتقدات الغيبيبة عليها، ترد الأم في كثير من قصصها.
ففي قصة "صلاة القلوب" نواجه الأم التي لم تحفظ من القرآن إلا الفاتحة وقصار الصور، ومنها سورة "العصر" التي تقرأها بمفهومها، ووفقا لقناعتها، لا بنطقها، حيث ترفض أن يذكر الله عن الإنسان "الخُسر" بمنطق أن كل ما عند الله هو الخير، فكيف يقول أن الإنسان لفي خًسر"، فتنطقها "إن الإنسان لفي (خُص) علي اعتبار أن الخُص هو المكان الآوي للإنسان، وأن{ البني آدم بيتولد بين أربع جدران تستر عوراته ، والبيوت كانت قبل البنا أخصاص ... حتي لو كان اللي بقوله غلط فالصلاة بالقلب، وربك رب قلوب} فالأم هنا أيضا متشبثة بما وقر في قلبها وقناعتها. وأي محاولة لتصويب ما هي عليه، سيبوء، حتما، بالفشل.
وفي قصة "الدعاء المستجاب" نجد الأم حاضرة أيضا، كحاملة للموروث، الذي امتد عبر سنوات، دون أن تعلم عنه شيئا، فهي مجرد ناقلة، وهو ما يعطي أيضا تلك الصورة التي تؤكد عليها سعاد سليمان، من جهل توارثته الجدات عن الجدات.
ويتمثل الموروث هنا في اتجاهين، يبين عنهما إخراج أحد ثديي الأم . فالبنت يتم الدعاء عليها. وحينها تخرج ثديها الأيسر وتوجهه للسماء وتنهال بالدعاء علي من يغضبها من البنات.
أما إذا وقع الولد مثلا، فإنها تسارع بإخراج ثديها الأيمن، وتعتصره في موضع سقوط الأبن، لتسقي قرين الأبن تحت الأرض، حتي لا يؤذيه.
وتتوجه الإبنة إلي أمها بالسؤال عن حكمة ما تفعل. فتجيبها{والنبي ما نعرف، دي عادات خدناها من أمهاتنا وجداتنا ولا كنا نقدر نسأل السؤال البايخ ده أبد}.
وتستمر مقاومة الجيل الجديد- الذي تمثله الساردة – في مقاومة (الخزعبلات) أو الغيبيات، وأيضا تظل الأم موجودة، وبدورها المنوط بها في قصص المجموعة، وفق قناعتها، وقناعة المجتمع من حولها، وهي (الماعون) في قصة "سمكة الرزق" حيث تقدم الجارة للأسرة، ما يشبه السمكة، وإن كان شكلها مقزز، علي أنها جالبة للرزق في البيت، ويتم تنفيذ تعليمات الجارة في التعامل مع السمكة، غير أن السمكة هي التي أخذت في التكاثر بشكل مزعج، بينما الأسرة تزداد فقرا وجوعا. ولما وضعت الأسرة السمكة تحت سرير الأب والأم، كانت النتيجة أن الأم التي تبلغ من العمر ثمانية وأربعين عاما، كانت هي (الحامل). وتثور الساردة علي السمكة وتلقي بها في بالوعة المجاري، وتخرج للبحث عن مصدر آخر للرزق، وكأنها تعلن الثورة علي هذه (الخزعبلات) التي أتت بالفقر لا بالرزق، وكأنها تعلن أيضا الثورة علي الجهل والفقر معا.
عواقب البيئة
وتظهر الأم أيضا في قصة "ست الحبايب"، لتلعب علي أوتار الحالة الاجتماعية للمرأة المطحونة، والتي تحولت لماعون، ما أن تفرغ ما تحمله، حتى تعيد التعبئة من جديد، ولتتجسد مأساة أجيال تعاني الحرمان.
فعلي أنغام أغنية فايزة أحمد، التي تثير لديها الشجن، والحنين لتلك الأم التي تتحدث عنها الأغنية{ يا حنينة وكلك طيبة) بينما الساردة لم تتعرف علي تلك الطيبة في أمها، بل إنها تشعر باليتم، رغم أن أمها تجلس أمامها، لا لغلظة في طبعها، وإنما لأنه لم يكن لديها الوقت للعطف أو الطيبة، فقد كانت تربي عشرة أخوة غيرها, فكانت الأم {إما حامل أو تلد أو ترضع أو حامل من جديد}. وتجسد سعاد سليمان تلك المأساة التي لا تعود علي الأم المنهكة وحدها، وإنما علي الابنة/الساردة، التي تعاونها في تربية الأخوة من الخامسة من عمرها، فقدت إحساسها بالطفولة، وفقدت الإحساس بالحنان، وتعلن عن عطشها للأمومة في ردها علي تلك الأم الغائبة رغم حضورها، عندما تسألها{لماذا تبكين في كل عيد أم وأنا ما زلت حية أرزق؟
مسحت دموعي ولم أستطع أن أقول لها: إنني أريد الأم التي في الأغنية}.
وإذا كانت الكاتبة قد جسدت مأساة الابنة فيما قد يبدو التماس العذر للأم في جفافها العاطفي، فإنها تؤكد علي تبرئة الأم المنهوكة القوي، والتي لم تفقد حنان الأم في أقصوصة "تفاحة المحب" حيث الأم العاملة في البيوت لتطعم ستة أفواه. حيث يأتي ابن مخدومتها من {بلاد التفاح والشيكولاته} فتعرض سيدة البيت عليها بتفاحة أمريكاني، وتأبي الأم أن تأكل التفاحة دون أولادها، فتنظفها وتشمها، وتقسمها علي ستة أقسام (بعدد أولادها).
التقنية
علي الرغم من صغر حجم القصة عند سعاد سليمان، إلا أنها لم تنزلق لما يسمي بالقصة القصيرة جدا. وعلي الرغم من بساطة الحكي وواقعيته التي قد تبدو سطحية، إلا أنها لم تقع في فخ السطحية. بحيث نخرج من قراءتها، بأن الكاتبة تعي دور الفن، وأنه رسالة، فما من قصة إلا ونري في خلفيتها رؤية، غالبا ما تكون اجتماعية، مغلفة بروح الإبداع الذي يعني المتعة القرائية.
فإذا ما أخذنا قصة "تفاحة المحب" والتي تقع فيما لا يصل إلي الصفحة الواحدة (من القطع المتوسط)، وما قد يتصور معه أنها تنتمي للقصة القصيرة جدا، إلا أنها في حقيقتها قصة قصيرة فقط، حيث علي قلة عدد السطور، فهي تحوي الحركة، وإن كانت الحركة هنا حركة داخلية، مثلما في أغلب قصص المجموعة، أي أنها تتضمن التغيير أو التطور داخل الشخصية القصصية، كما تحمل كل جملة الكثير من الاستدعاءات، التي تثري القصة وتجعلها أوسع من قماشتها كثيرا.
تبدأ القصة ب{بارتباك لم يخف علي جارتها العجوز، أخفت في طيات طرحتها التفاحة الأمريكاني نادرة الوجود في القرية الفقيرة} فندخل في عالم القرية، وجلسة (الحريم)، والتفاخر الذي قد تبديه إحداهن بما عندها، أو بأحد أبنائها كما سنري في الجملة التالية. كما ترتسم أمام أعيننا تلك الصورة التي تكون عليها السيدة الفقيرة وهي تخفي ارتباكا، حين محاولة إخفاء التفاحة، وكأنها تسرقها. ثم تؤكد تلك المعاني في الجملة التالية{ بابتسامة طيبة قالت لها العجوز الفخورة بعودة حفيدها ببضاعة بلاد التفاح والشيكولاته...} لتؤكد مبدأ التفاخر من جانب، ولترسم {بلاد التفاح والشيكولاته} مدي بساطة حال أهل القرية الذين تعتبر "الشيكولاته" من الأشياء البعيدة المنال، وهو ما يساهم في توضيح الصورة وتجسيمها.
ولم تشأ الكاتبة أن تنطق شخصيتها بما لا تعلمه، فتتدخل الساردة، دون أن نشعر بتدخلها، لكنها أرادت أن تكشف عن مكنون نفس السيدة الفقيرة فتأتي الجملة التالية {كيف يطاوعها قلبها أن تأكل ولا تطعم أولادها مما أطعمها الله}.
ثم تأتي الجملة التالية، في رد السيدة الفقيرة، بما يساهم أيضا في إبراز الصورة المجتمعية، بانية علي المثل الشعبي الذي يجعل من الأرنب جملا في عين المحب، والذي يقول 0بصلة المحب خروف) فترد السيدة الفقيرة{ تفاحة المحب خروف}. وهنا يحدث التغير في الحركة الداخلية. فبعد أن شعرت السيدة الفقيرة بأن حركتها قد تم كشفها، فاحتفظت بالتفاحة في العلن. وتؤكدها الساردة في قول العجوز { بخبرة السنين"طبطبت العجوز علي أمومتها}. تلك الأمومة التي وضحتها الساردة في الجملة الختامية الكاشفة دون إسراف في الكلمات{ ولكنها اكتفت بتشمم التفاحة وراحت بسعادة تقسمها علي ستة أبناء}. فكم تفسح كلمة {في سعادة} في مجال الأشعاعات والتداعيات التي تبرز مدي تواضع الحالة، ومدي الرضي بالقليل. ولتدلل الكاتبة علي أن الأمر لا يتطلب إضفاء تسميات جديدة، أو إدعاء ابتكارات جديدة في عالم القصة القصيرة ... وفقط.
غير أنه إلي جانب ذلك فتحتوي المجموعة علي عدد من اللوحات، القاتمة، الغاضبة في غير ما ثورة، والتي ربما تعتب علي الحياة بقسوتها، وحرمانها، مثل تلك الأم "أمينة" في قصة "أم صدام" التي أسمت ابنيها ب"صدام" و"هتلر". والتي عندما سئلت عن سر ذلك أجابت لأن كلاهما دمر العالم. ولماذا تريدين تدمير العالم يا أم صدام؟ فتجيب: لأنها قست عليّ وعلي ابنيّ، وأمي. ولتزيد بؤس الحالة التي عليها، أو تزيد التعبير عن الشعور بالمرارة تكمل:{حتي الأسامي اللي اتحميت فيها كسرت خاطري}
وايضا في قصة "استغفار" التي تفتح نافذة علي حرمان الشباب، وقسوة الأباء، فضلا عن الجهل الذي يفقد القدرة علي معالجة الأبناء بالطريقة السليمة، وما يؤدي إليه ذلك أن{ الأب وكل الأهل والأقارب ومهدئات أطباء مستشفي المجانين} أن تعالج الفتي مما مسه من هوس، أو جنون.
وأيضا قصة"بيت العز" التي تعرض الإحساس ب(الفشخرة الكدابة) حيث قناعة الأم بأن جدها كان من الأعيان، ورغم احتياجها الحالي، إلا أنها ترفض "الصدقة"، كبرياء و(عنتظة).
فقد اقتصرت مثل هذه القصص علي تقديم لوحة استاتيكية، خلت من الفعل، أو الحركة، والتي قد تدخل في شكل القصة القصيرة جدا.
لقد أثبتت سعاد سليمان في هذه المجموعة قدرتها علي تحويل الموروثات القائمة علي مدارالسنوات، تنهش في عقول المصريات –تحديدا- وتشعل وقود التخلف في مستقبل الوطن، لتلقي عليه الضوء الحارق. أن تخرجه من دائرة ظلمات بؤرة الإنسان المصري، إلي دائرة الإبداع الفاعل في المجتمع، ساعية إلي وقف زحفه، وتصاعد لهيبه، بمجموعة متجانسة في هارموني متناغم. معتمدة علي ظاهر ما يدور علي سطح الشارع المصري، بعبله، لتغوص به لكيان الإنسان المرتجي.
Em:shyehia48@gmail.com
[i] - سعاد سليمان – شهوة الملايكة –قصص –روافد للنشر والتوزيع – طبعة أولي 2014.