يكشف الباحث المصري المرموق في هذه الدراسة ما حققه باحث مصري من تجديد في فهم أسئلة البلاغة العربية ومناهجها، وذلك بدراسة متقصية لجهده العلمي ومنجزه في سياق ما قدمه أسلافه وبالمقارنة بمشاريعهم. ويدعو إلى ضرورة التوقف أمام كل من فكروا في أمر تجديد الدرس البلاغي منذ نهاية القرن التاسع عشر.

سؤال البلاغة عند مصلوح

أحمد يوسف علي

مازال التراث الأدبي والفكري عند العرب والمسلمين موضع نقاش: اتفاق واختلاف، بل ورفض واتهام بما لا يجوز أن يجري على ألسنة أهل العلم والفكر، فضلا عن ألسنة كل الناس. وكانت القضية المحورية بين أهل العلم والفكر حول هذا التراث هي مدى نفعه أو جدواه لمتطلبات الحياة التي نحياها. والغريب أن سؤال جدوى التراث لم يكن مطروحا فقط في القرن العشرين أو بدايات القرن الحادي والعشرين، بل كان هذا السؤال حاضرا في كل فترة من فترات الانتقال والتجاوز. فقد كان هذا السؤال حاضرا بقوة في صورة ما عرف بقضية القدماء والمحدثين أو قضية القدم والحداثة التي أثيرت ابتداء من القرن الثاني الهجري وبعد نهوض العباسيين. وكانت الأطراف المتنازعة آنئذ تتخذ موقفا حادا ومنحازا إما إلى الماضي كله خوفا من ضياع الأصول في زحام المعاصرة، وإما إلى الحاضر بكل تداخلاته. وتكررت هذه القضية ذاتها في زمن آخر مختلف عن زمن الدولة العربية وقت ازدهارها وفتوتها. إنه زمن التفتح الصادم والمؤلم ــ بعد سبات عميق ـــ على التقدم المذهل الذي أنجزته الحضارة الغربية في صورة الغزو العسكري والعلمي والحضاري في بدايات القرن التاسع عشر.

- 1 -

وظلت الإجابات عن سؤال النهضة والتجديد مفتوحة ولم تتوقف الاجتهادات حتى اليوم. والسبب في تقديري أن تغييرا حقيقيا لم يحدث في بنية النظام الاجتماعي والاقتصادي وظلت العلاقة بيننا وبين منتجي العلم والمعرفة وأدوات العصر ــ على كل الأصعدة ـ لم تتغير وهي علاقة المنتج بالمستهلك. فحاجتنا إلى الاستهلاك تزداد يوما بعد يوم، وحاجة المنتجين إلى التطوير والإبداع والابتكار تحقيقا لمزيد من الرفاهية تزداد أيضا ساعة بعد ساعة مما جعلنا منتظرين دائما للوافد الجديد سواء أكان هذا الوافد الجديد مناسبا "لمقتضى الحال" أم غير مناسب. ولقسوة هذا الحال ومرارته التفت فريق كبير منا على مدى قرنين من الزمان تقريبا إلى الوراء التماسا لمنتجات هذه الحضارة العربية الزاهرة الخصبة وعدها كافية لمتطلبات الواقع الاجتماعي والفكري والثقافي، ورأى أن بها غناء عن منتجات الآخرين من الغربيين وغيرهم الذين مثلوا طريق الخلاص من التخلف بكل أشكاله عند فريق كبير من المفكرين. ونظرا لتطرف الفريقين تغلبت النزعة الأخلاقية، التي ترى أن الفضيلة هي وسط بين طرفين، على فريق ثالث من بني جلدتنا ليجمع بين محاسن هؤلاء وهؤلاء.

والحقيقة أن هذه المواقف الثلاثة لم تتمكن من إنجاز مهمة الإجابة عن سؤال النهوض والتجديد الذي نجده عند جيل الرواد الأوائل مثل رفاعة الطهطاوي كما نجده عند عبدالله النديم ومحمد عبده وعند غيرهم ممن رادوا هذا الطريق مثل طه حسين والعقاد والرافعي وأحمد أمين وأمين الخولي وشوقي ضيف وأحمد الشايب، وجاء بعد هؤلاء رواد جدد تلقوا سؤال النهوض والتجديد وقدموا إجابات مغايرة يمكن وصفها بأنها إجابات أشمل وأكبر مما سبق. ومن هؤلاء مصطفى ناصف وشكري عياد وعبدالحكيم راضي ومحمد عبدالمطلب وسعد مصلوح. وإذا كان الأوائل من هؤلاء الرواد قد شغلهم سؤال النهضة والتجديد في مناح عديدة، فإن من خلفهم ممن ذكرنا قد شغلهم سؤال التجديد أو التغيير أو التطوير لعلم محوري من علوم العربية هو علم البلاغة.

لقد امتزجت نشأة هذا العلم وتطوره بعلم الأدب الذي دخل في مكوناته النقد الأدبي على نسق ما رأينا عند ابن سلام والجاحظ وقدامة وأبي بكر الصولي وأبي بكر الباقلاني وعبدالقاهر الجرجاني وحازم القرطاجني. ولانستطيع على مدى مسيرة هذا العلم أن نفصل مباحث البلاغة عن مباحث الأدب والنقد ولا أن نفصل مباحثهما عن حضور مباحث علم النحو والصرف الذي استوى على سوقه منذ بداية القرن الثالث الهجري. فعلم البلاغة اعتمد اعتمادا كليا على منجزات علمي اللغة والنحو بشكل خاص، كما اعتمد النقد الأدبي هذه الأدوات أيضا وإن اتجه في أحوال كثيرة إلى الأسئلة الكبرى عن طبيعة الشعر وطبيعة لغته ووظائفها. ويصعب على أي باحث يقرأ مصدرا من مصادر الجاحظ أو غيره من أبناء القرن الرابع والخامس وما بعدهما، أن يجد حديثا متصلا مستقلا عن النقد غير ملتبس ولا ممتزج بالبلاغة ومباحثها الكبرى في المجاز والأساليب.

نقول إن هذين العلمين ارتبطا نشأة وتطورا في سياقهما المعرفي والاجتماعي، ومع ذلك كان السؤال اللافت دائما هو السؤال عن جدوى البلاغة العربية كما وصلت إلينا. ويبدو أن هذا السؤال كان عندنا كما كان عند غيرنا من الأمم المعاصرة منذ بداية العصر الحديث حتى الآن. فقد أدى تطور اللسانيات منذ بداية أبحاث دي سوسير إلى مراجعة صورة البلاغة الموروثة ومدى قدرتها على مواجهة النص الذي لم يعد أدبيا فقط، بل اتسع باتساع مفهوم النص الذي يبدأ من المتداول في كل مجالات الحياة ليصل إلى النص الأدبي بجميع أشكاله التي لم تعد محصورة في الشعر الغنائي ـ أعني القصيدة ــ أو حتى الشعر الدرامي بل انتقلت من دائرة الرواية إلى دائرة السرد التي انفتحت على آفاق بالغة الاتساع. ونشأت بلاغة جديدة مستفيدة من نتائج البحث الأسلوبي ونتائج البحث اللساني معا، بل ومن نتائج البحث الاجتماعي والنفسي والإعلامي والسياسي بحيث صارت البلاغة وكأنها علم يطل على كل العلوم ويتداخل معها تداخلا بينيا كبيرا، وصارت فكرة التأثير والإقناع محور الدرس البلاغي في كل مجالاته.

ــــ 2 ــــ

في ضوء هذا التطور العلمي، كان لابد أن يعاد طرح سؤال البلاغة من جديد. هل نترك البلاغة العربية كما ورثناها على حالها؟ وماذا ينتظرها إلا العزلة المفضية إلى الموت؟! هل تملك هذه البلاغة في داخلها مقومات الاستجابة لمتطلبات التجديد والتحول والتغيير؟ ومن أين يبدأ التغيير؟ من المنهج؟ أو من المادة؟ أو منهما معا؟ بمعنى أن المنهج إذا تغير فلابد أن يتسع لمادة جديدة تتسع لدائرة النصوص ومقتضيات الأحوال وأدوات العلم المعاصرة والتواصل مع المجتمع وتحولاته كما يعيشها الناس.

وقد حاول الشيح أمين الخولي ـــ صاحب الصوت الأعلى ــ أن يواجه مشكلة البلاغة العربية على نحو ما قدمنا. فاعتمد مبدأ مهما، في وقته، وهو"أن أول التجديد قتل القديم فهما" التمسه الشيخ من مقولة السيوطي عن علم البيان "علم لم ينضج ولم يحترق" ودعاه إلى ضرورة المضي نحو إنضاج البحث البلاغي وتطويره، واتسمت محاولته بالخوف على القديم، والتطلع إلى الحديث المعاصر في زمنه، فكأنه اتخذ موقفا وسطا بين المحافظة على القديم والحماسة للجديد. «فبنى كتابه "فن القول" على المقارنة بين البلاغة العربية وبلاغة المحدثين، واعتمد في كتابه كتاب الأسلوب الإيطالي لباريني وهو نوع من التحديث للبلاغة القديمة في ضوء المفاهيم الرومانسية. وعني الخولي بدراسة اللغة الفنية على خلاف معظم المجددين، كما حرص على أن تمتد دراسة الأسلوب لتشمل الأنواع الأدبية والمذاهب الأدبية. وألح على فنية هذه البلاغة المجددة، على الرغم من أنه أرادها موضوعية فوصفها بالبهاء والجمال، وأبى أن يسميها علما لظنه أن اختلاف مناهج البحث بحسب المادة المدروسة يجعل البحث في الفن بعيدا عن اسم العلم»(1).

ومما لاشك فيه أن الشيخ أمين الخولي لم يكن أول المنتبهين إلى جمود الدرس البلاغي في معاهد العلم وفي الجامعة المصرية، ولا أول الداعين إلى تطويره وتجديده. فقد سبقه الشيخ محمد عبده، ولكنه كان أعلى الأصوات وأبلغها تأثيرا ليقينه أن عودة البلاغة العربية للحياة ومعايشة الناس مرهونة بخروجها من كهفها الذي آوت إليه منذ أن انفصلت عن المجال الحيوي، وخلدت إلى الراحة في بطون الكتب والشروح والتلخيصات. وقد كانت وقت نشأتها وتأثيرها في الحياة بكل مناشطها مستجيبة للوافد من الثقافات المناوئة الفارسية والهندية واليونانية بالحوار والجدل الذي أثمر في تطوير قدراتها على الحجاج والتأثير. ومهما يكن شأن ما قدمه أمين الخولي، فإنه كان خطوة على طريق التغيير أو التطوير أو ربط البلاغة العربية بمناهج العلوم المعاصرة مثل علم النفس وعلم الجغرافيا وباقي بحوثه التي جمعت ونشرت في كتابه "مناهج تجديد".

ولكن المشكل الرئيس في دعوات التجديد التي جاءت بعده لم يكن شاغلها هو بعث البلاغة من جديد في ضوء منجزات العلم المعاصر، ولكنها اكتفت بإعادة إنتاج المادة البلاغية كما هي على أسس وتصنيفات مختلفة لم يكن من بينها السؤال الوجودي المطروح في صدر حديثنا؛ وهو هل نترك البلاغة العربية كما ورثناها على حالها؟ وماذا ينتظرها إلا العزلة المفضية إلى الموت؟! هل تملك هذه البلاغة في داخلها مقومات الاستجابة لمتطلبات التجديد والتحول والتغيير؟ ومن أين يبدأ التغيير؟ من المنهج؟ أو من المادة؟ أو منهما معا؟

ـــــ 3 ـــــ

هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة الكاشفة هي التي طرحها سعد مصلوح وراح يجيب عنها في عدة مباحث علمية رصينة، نشرها متفرقة في دوريات ثم جمعها في كتاب "في البلاغة العربية والأسلوبيات اللسانية"، وصدر هذا الكتاب الفريد بمقدمة وصفية شارحة وافية كل الوفاء برؤيته للداء والدواء. أما الداء فهو ما أصاب البلاغة العربية في صورتها عند السكاكي علي يد فريق سماه "المجتهدين" من جمود أفضى أو كاد يفضي إلى الموت، يقول عنه «وحين رأى بعض المجتهدين أن الداء قد أعضل، والشفاء قد عز، وجدنا من بينهم فريقا قد أخلد إلى الأرض واستمسك بالحطام والهشيم، وفريقا قد نال منه اليأس فراح يدعو إلى قتل المريض وتغييبه تحت أطباق الثرى، بين عبرات الرحمة وزفرات الإشفاق»(2).

وأما الدواء فهو وصل حلقات التاريخ العلمي بعضها ببعض بوصفها تمثيلا لعقل بشري بغض النظر عن مكانه أو لونه أو لغته بمعنى «إقامة تصور لعلاقة بين البلاغة العربية وهي علم رسا ورسخ، والأسلوبيات اللسانية التي مازالت تتلمس طريقها إلى ثقافتنا»(3). والداء لم يصب البلاغة العربية وحدها، ولكنه أصاب العقول التي حكمت على التراث الحضاري العربي بكل منجزاته حكما لا يبقي عليه حتى في المتاحف، بل يخرجه تماما من دوائر البحث العلمي الذي لا يلتفت في تقدير هذه العقول إلا لما ينتجه الآخرون أصحاب السيف والصولجان. هذا الداء أسماه سعد مصلوح كما أسميته من قبل "الانقطاع المعرفي" بين الموروث والمستفاد وهو كما يصفه : «إنها لقالة تكاد تنشق لها الأرض، وتخر الجبال هدا»(4).

والسبيل إلى العلاج عند مصلوح لم يكن سبيلا – كما رأينا من قبل عند آخرين – نظريا محضا يسوق فيه المقولات والأدلة والحجج، ويناقش مقولة هذا ويعرض عن ذاك؛ ولكنه سبيل القول فيه مقرون بالعمل بالإجراء والتطبيق سواء أكان على مستوى هذه المباحث التي وردت في كتابه هذا "في البلاغة العربية والأسلوبيات العربية" أم في كتابه "في النص الأدبي : دراسة أسلوبية إحصائية". فالكتاب الأول تضمن خمسة أبحاث هي مشكل العلاقة بين البلاغة العربية والأسلوبيات اللسانية. في البلاغة والتكافؤ النحوي بين العربية والإنجليزية والروسية. من الجغرافيا اللغوية إلى الجغرافيا الأسلوبية. حاشية أسلوبية على لغة الخطاب النقدي. نحو أجرومية للنص الشعري.

لم يكن من عفو الخاطر أن يتصدر هذه الأبحاث بحث عن مشكل العلاقة بين البلاغة والأسلوبية اللسانية وهي بالفعل علاقة ملتبسة يحوطها كثير من الظن والغيوم، لم تجد من يحررها ويحقق أصولها ومبادئها على نحو جلي مشفوع بالتطبيق في أربعة أبحاث – كما فعل مصلوح - ترنو إلى آفاق رحبة وواعدة أمام الدارسين الذين ينتهجون العلم سبيلا لإلغاء المسافات بين قديم ظن بعض أهله أنه على فراش الموت، وجديد يلخص تجربة بشرية ناضجة. وكأن سعدا بهذا الترتيب المكاني لأبحاث هذا الكتاب يعيد الأذهان إلى ما كان عليه البحث البلاغي القديم من استيعاب لمنجزات وافدة من الفرس والهند واليونان وغيرهم. وهي المنجزات التي أخذ منها أسلحة علمية أفادته في الحجاج عن النص القرآني، وعن العروبة ضد الخصوم من المنكرين وغلاة الشعوبيين. وما كتب الجاحظ ببعيدة خاصة (الحيوان).

لذا كان من الضروري تحرير علاقة البلاغة العربية باللسانيات الأسلوبية ليتسنى بسط أدوات هذا المنهج الجديد كما حدث في الكشف عن كفاءة الجهاز القواعدي للغات ثلاثة هي العربية والإنجليزية والروسية في "تشكل الأسلوب، وتحقيق غايات الإفصاح والتأثير" لتوضيح الفوارق والميزات في كل لغة من هذه اللغات عندما تناولت مقولة الرتبة في نص واحد محوري هو القرآن الكريم. ومن اللفتات المائزة في هذه الصحبة من الأبحاث الدرس اللساني للغة النقد الأدبي عند فريق من النقاد هم طه حسين والعقاد والنويهي ويوسف خليف وأدونيس وأبوديب وجميعهم من مشارب متباينة، وغايات متباعدة تجلت في لغاتهم النقدية ولا يكشف هذا التباين على نحو علمي بعيد عن الانطباع والهوى إلا الدرس اللساني الإحصائي أو كما يقول مصلوح «وجعلت من إعمال المقاييس الإحصائية وصلة لتشخيص خصائص هذا الخطاب واختبار حظه من علمية المعالجة والقدرة على البلاغ.»(5)

أما الكتاب الثاني فقد تضمن المباحث "الدراسة الأسلوبية الإحصائية بين المفهوم والإجراء والوظيفة. قياس خاصية تنوع المفردات في الأسلوب عند العقاد والرافعي وطه حسين. تحقيق نسبة النص إلى المؤلف : دراسة أسلوبية إحصائية في الثابت والمنسوب من شعر شوقي. في التشخيص الأسلوبي الإحصائي للاستعارة: دراسة في دواوين البارودي وشوقي والشابي.

يبدو جليا من عناوين الأبحاث التي تضمنها الكتابان ما أشرنا إليه سلفا من أن مصلوح ليس صاحب دعوى نظرية محضة، يحلق بها في أجواء الفضاء اللانهائي؛ ولكنه ترجم حرصه على المبادئ النظرية، فجعلها أسسا لدراسات علمية ضربت بأسهمها في مناطق خصبة مثل لغة النقد الأدبي عند مجموعة من ذوي الأقلام المتباينة المصادر والتأثير. فطه حسين والعقاد وخليف يختلفون عن النويهي من حيث المنهج والتوجه والتأثير، وهؤلاء يختلفون اختلافا واسعا عن أدونيس و"أبو ديب" ولا يمكن تحرير هذا الاختلاف إلا بالدرس الأسلوبي الإحصائي. ومن هذا أيضا قياس خاصية تنوع المفردات في أسلوب الرافعي والعقاد وطه حسين. ثم الانتقال بهذا المنهج إلى مجال يصعب قياسه من قبل وهو الاستعارة التي نالها ضيم كبير ممن عدها فرعا من التشبيه من جهة، ومن أصل المعنى من جهة ثانية. هذه الاستعارة التي اختار لدراستها مادة كاشفة ومتنوعة. فاختار نماذج من شعر البارودي رائد الإحياء الشعري، ومن شعر شوقي الممثل الأكبر للشعر الغنائي بتقاليده الموروثة، ومن شعر الشابي الشاعر الطائر بأجنحة الخيال في عالم الرومانسية. وعلة هذا الاختيار عند مصلوح هي «أن الفحص الأسلوبي للاستعارة في نتاج الشعراء الثلاثة قادر على أن يوضح لنا جانبا مهما في حركة الشعر الحديث من زاوية لم تلق بعد – في ظننا – ماهي جديرة به اهتمام وهي زاوية الصناعة الشعرية. ذلك أن الغلبة في مجال الدرس الأدبي كانت ومازالت للمقاربات التاريخية والمذهبية والسياسية»(6).

لقد أخذ مصلوح الدرس البلاغي العربي بوصفه مادة علمية قابلة للنقاش كما أخذ الدرس الأسلوبي اللساني وجعلهما في قران واحد مبنيا على أساس رؤية برجماتية تتفق وروح العلم في كل زمن يترجمها قوله «أرى أن علينا، حين نرهف آذاننا لنسمع أصوات العصر، أن نجعل عيوننا وعقولنا على مشكلاتنا، إذ لا قيمة عندنا لفكرة تستفاد من ثقافة أخرى إلا بقدر ما تلبي حاجة أو تحل مشكلا، أو تضيء سبيلا»(6).

ــــ 4 ــــ

وفي ضوء هذا القران المنهجي بين البلاغة العربية والدرس الأسلوبي اللساني تبلورت خريطة الأسئلة التي سار على هديها مصلوح لإيجاد فرجة – كما يقول – «تنطلق من خلالها البلاغة المدرسية من ضيق الظرف التاريخي المحدود إلى سعة العصر، وتنثال ينابيعها متخذة طريقها سربا في شرايين ثقافتنا المعاصرة لتستعيد عنفوانها، وتكون علما كاشفا عن فاعلية النص العربي»(7). ولأنه على وعي بمحاولات السابقين عليه، فقد كانت أسئلته ذات صبغة علمية في وصف مادة التطوير من جهة، ووصف محاولات السابقين عليه من جهة أخرى، وطرح مشكل العلاقة التي يبتغيها مخرجا لأزمة البلاغة العربية؛ أعنى علاقتها بالدرس الأسلوبي اللساني من جهة ثالثة، ولماذا هذا النهج العلمي دون غيره مما هو مطروح على مسرح البحث.

أما عن تساؤلاته عن المحور الأول فهي: أي اتجاهات الدرس البلاغي هو المعني هنا؟ وما علة اصطفائه دون غيره ليكون طرفا في ميزان العلاقة التي يراد تحريرها؟ إلى أي مدى كان هذا الاتجاه مرضيا من البلاغيين المحدثين؟ (يقصد هنا الصيغة السكاكية التي اختارها لتكون محور التطوير أو إعادة الاكتمال المعرفي بديلا للانقطاع المعرفي) وما ملاحظهم عليه؟ وما التقويم الذي نحسبه عادلا لهذه الملاحظ؟

 وأما عن تساؤلاته عن المحور الثاني فهي: ما حظ الصيغ التي طرحها بعض المحدثين لتجديد البلاغة من التوفيق؟ وما مكانها في مجال تحرير العلاقة بين البلاغة العربية والأسلوبيات اللسانية؟ وأهم تساؤلاته، وإن كانت كل التساؤلات المطروحة مهمة، فهو المتعلق بكيفية إنشاء علاقة بين مادة قديمة خضعت للمنطق الأرسطي من جانب، والنحو والصرف من جانب آخر، وبين علم معاصر قائم على درس لغوي وصفي ودرس نقدي تحليلي. يقول مصلوح متسائلا: هل ثمة مباينة منهجية قائمة بين طرفي العلاقة؟ وما مسوغات هذا الرأي إن كان صحيحا؟ وما عسانا نقول إذا اردنا أن نقوّم البلاغة العربية تقويما لسانيا؟ وما ملامح هذا التصور المقترح للعلاقة بين العلمين؟

خريطة الأسئلة خريطة صعبة لشمولها وجرأتها على ما لم يجرؤ عليه أحد من قبل، ولحاجة من يسعى للإجابة عليها إلى امتلاك ناصية المعرفة الواعية الناقدة البصيرة بخبايا هذين الحقلين المعرفيين المتباعدين في الزمان والمكان أعني الدرس البلاغي القديم كما استوى على سوقه عند السكاكي وروافده العديدة ومنعطفاته التاريخية الوعرة وتحوصله على نصين فريدين القرآن والشعر العربي في أبهى صوره ونماذجه، والدرس اللساني الأسلوبي وهما في الحقيقة حقلان واسعان روافدهما عديدة ومصادرهما متعددة بتعدد بيئات الدرس العلمي في بلاد أوربا وأمريكا.

ولكني شعرت أن مصلوح دار في خلده مثلما دار في خلدي الآن وكان عليه أن يفكر بصوت مسموع لا ليسمع الناس فقط ولكن ليسمع هو صوت نفسه أيضا فيناقشها يرفضها أو يقبلها أو يعدل من مواقفها. لقد كتب هذه الأبحاث التي تمثل مشروعه العلمي لتطوير الدرس النقدي بعامة والدرس البلاغي خاصة لقناعته أنه السبيل إلى تطوير علوم العربية مثل تاريخ الأدب والنحو وتحقيق النصوص والانفتاح بمنهج جديد لا يقف عند حدود النص الأدبي شعرا أو نثرا بل يكون قادرا على التعامل مع مختلف النصوص مهما تباينت درجاتها وعوالمها ومصادرها، واستغرقت أبحاث هذا المشروع سنوات طوالا تجاوزت العقد من الزمان وخاض بها غمار بيئات العجزة والرافضين والقاعدين والمنتفعين والمعطلين واللابسين لبوس العلماء مفندا دعواهم ومناقشا من عنده الحجة متوسلا بلغة ظاهرها الود والتقدير وباطنها من قبلهم العذاب كما في مقالته التي ذكرتني بلغة الجاحظ في التربيع والتدوير في تفنيد ادعاءات أحمد بن عبدالوهاب وهي بعنوان "علم الأسلوب والمصادرة على المطلوب".

ـــــ 5 ــــ

توقف مصلوح- حسب خطته المبنية على أسئلته – عند ما أطلق عليه "اتجاهات الدرس البلاغي وتصنيفها" وكان شوقي ضيف بكتابه "البلاغة تطور وتجديد" على رأس هذه الاتجاهات وأبرزها. وهذا الكتاب هو مجموع ما قدمه شوقي ضيف يرحمه الله من محاضراته في البلاغة العربية لطلاب العلم في الجامعات العربية ومنها جامعة بيروت العربية. وصدر للقراء في ستينيات القرن الماضي وهو متأخر عن كتابات أمين الخولي وأحمد الشايب اللذين نظر إليهما مصلوح بوصفهما مجددين وهذا صحيح لاشك فيه، ولكن أمين الخولي جاء تاليا عند مصلوح لشوقي ضيف تحت عنوان جانبي يمثل جزءًا مهما من خطة الدرس وهو"اتجاهات الدرس البلاغي" ولم يرد إنجاز الشايب تحت هذا العنوان مع هذين العلمين. فكيف يرد الخولي وهو مجدد تحت عنوانين ثانيهما هو "مآخذ البلاغيين على مذهب السكاكي" بل إنه ورد تحت هذين العنوانين مع وروده في سيرة المجددين؟

لاشك أن كتابات الخولي في التجديد والتطوير كتابات "عبقرية " بالمعنى الذي استخدمه لطفي عبدالبديع في كتابه "عبقرية العربية" وتحمل رؤية ريادية لعلوم العربية وعلى رأسها البلاغة العربية التي دعا إلى توجه بحث قضاياها في ضوء علوم إنسانية أخرى كعلم النفس والجغرافيا والفلسفة. وفي تقديري أن موقع الخولي لدى مصلوح ليس محدودا بحدوده التي وردت في موضعين من دراسته عن مشكل العلاقة بين البلاغة واللسانيات الأسلوبية. ولكنه كما لمست كان محورا رئيسا لدى مصلوح في بحثه عن علاقة البلاغة بالدرس الأسلوبي اللساني المعاصر وجاء الشايب تاليا له، ولم يحظ المراغي بمثل ما حظي به سابقاه.

ولم يكن شوقي ضيف والخولي وحدهما هما اللذان تناولا اتجاهات الدرس البلاغي .فقد كان معاصرا لهما بدوي طبانة وتمام حسان في كتابه "الأصول" ومقالته الواعية في مجلة فصول بعنوان "المصطلح البلاغي القديم في ضوء البلاغة الحديثة" ناقش فيها المبادئ الكامنة في التراث اللغوي والبلاغي عند العرب وإمكان تطويرها في ضوء الدرس الأسلوبي، هذا بالإضافة إلى اهتمامه الواضح بعلم النص أو نحو النص فيما كتب وفيما ترجم، ولا يبتعد عن هؤلاء شكري عياد ومصطفى ناصف ولطفي عبدالبديع وعز الدين اسماعيل وزغلول سلام وعبدالحكيم راضي بكتابه المبكر"نظرية اللغة في النقد العربي" ومحمد عبدالمطلب.

ودار هذا المحور على نقد الدرس البلاغي عند شوقي ضيف وعند أمين الخولي. أما شوقي ضيف فقد صنف البلاغة العربية على أساسين مختلفين الأول كما سماه مصلوح "الأساس التاريخي" تناول فيه نشأة البلاغة وجاء الجاحظ خاتمة عصر النشأة الذي تلاه دراسات منهجية لبعض المتفلسفة وبعض المتكلمين وبعض المتأدبين. والثاني "الأساس التقويمي" تناول فيه ازدهار البلاغة عند علمين هما عبدالقاهر والزمخشري كما تناول عصر التقعيد والجمود في كتابات الفخر الرازي والسكاكي وانتهى الدرس البلاغي عند شوقي ضيف بدراسات جانبية منها ما سار على طريق السكاكي أو لخصه مثل المثل السائر أو انحرف عنه.

وأعتقد أن شوقي ضيف لم يكن من أربه، وهو يقدم محاضرات لطلاب العلم، صارت بعد ذلك كتابا، أن ينظر في أمر البلاغة العربية من حيث تجديدها ووصلها بآفاق العصر وأصواته. وكان يعلم كل العلم بما قدمه الخولي رفيق أساتذة ضيف. وكان قصده قصدا تعريفيا وتعليميا وهذه الغاية كانت الغاية التي لم تغب عن كثير من أعلام هذه الفترة مثل طه حسين وأحمد أمين في الجامعة المصرية، ومثل العقاد خارج الجامعة. وقد فرضت هذه الغاية نفسها عليهم جميعا في مجتمع يحاول النهوض بالخلاص من المستعمر والإمساك بمفاتيح العلم. وهذا ما جعل أغلب أعلام هذه الفترة يقرؤون كتبا كثيرة ويكتبون عنها ويقدمونها إلى جمهور القراء، ومن هذا التوجه تقديم صفحات التراث الأدبي والبلاغي والنقدي تقديما يغلب عليه النظرة العامة. فهؤلاء كانوا وسطاء بين القراء على اختلاف مشاربهم ومصادر التراث التي لم تكن قد حققت تحقيقا واسعا كما هو حادث الآن، ولم يكن من اليسير قراءتها والتفاعل معها. فاختلاف أسس قراءة البلاغة عند شوقي ضيف مرده إلى طبيعة المحاضرات وطبيعة المتلقين من الطلاب والاستجابة للتوجه العام وهو الغاية التعليمية والتعريفية. والغريب في الأمر أن أستاذنا شوقي ضيف ظل وفيا لمنهجه وغاياته في كل ما كتب من مؤلفات ذات صبغة كلية. ويمكن أن نختلف معه في مسألة تصنيف الكتابات البلاغية عند العرب التي مازالت موضع خلاف عند كل من كتبوا تاريخ البلاغة العربية مقرونا بالنقد. وكان شوقي ضيف – مع ذلك – يعيش واقعا ثقافيا موارا بالحركة والأسئلة والثورة عند طه حسين (في الشعر الجاهلي) ومصطفى عبدالرازق (أصول الحكم في الإسلام) وأحمد أمين (بأبحاثه في الحياة العقلية والثقافية والاجتماعية عند العرب – فجر الإسلام وظهره وضحاه) وعند سعد زغلول رمز الثورة الوطنية آنذاك، والعقاد (بثورته على ممثلي الشعر القديم – الديوان في الأدب والنقد).(8)

أما أمين الخولي - عند مصلوح – فإن ما قدمه يمثل أجمع تقسيم وأخصره لاتجاهات البلاغة في مدرستين هما المدرسة الفلسفية الكلامية أو المدرسة العلمية والمدرسة الفنية، ويرى الخولي كما نقل عنه مصلوح أن هاتين المدرستين تسايرتا على اختلاف في السعة والرواج إلى أن غلبت المدرسة الكلامية أخيرا. أما مصلوح فيرى أن هذه التصنيفات التي قدمها هذان العلمان يمكن أن تندرج تحت ثلاثة اتجاهات يراها أنفع وأصوب لما يتغياه أولها : اتجاه أصولي يعالج القوانين العامة لظاهرة الأدب وبيان أصولها الفلسفية والنفسية، ويتحقق هذا الاتجاه في أعمال قدامة بن جعفر "نقد الشعر" وابن وهب "البرهان "والقاضي عبدالجبار "المغني" وعبدالقاهر الجرجاني "الأسرار والدلائل" وحازم القرطاجني "المنهاج" الذي أفاد من الخطابة والشعر لأرسطو. والثاني: اتجاه وظيفي (تطبيقي) ويبدو في أعمال الآمدي "الموازنة" وعبدالعزيز الجرجاني "الوساطة". والاتجاه الثالث اتجاه تقعيدي غايته تمييز الحدود الواضحة لعلوم البلاغة تبعا للنسق المعرفي السائد في زمانه ويمثله السكاكي.

ــــ 6 ــــ

وحقيقة الأمر كما أراها أن تصنيف الخولي أو تصنيف شوقي ضيف أو تصنيف سعد لم ينج من التباس المصادر. فنحن لا نستطيع أن نضع حدا فاصلا بين ما هو بلاغي وما هو نقدي في هذه المصادر التي أخضعوها للتصنيف الذي يبدو قاطعا وحاسما. فمن يدرسون تاريخ النقد العربي القديم وقضاياه يعدون مصادر ابن طباطبا وقدامة والآمدي وعبدالعزيز الجرجاني مصادر نقدية ويستخلصون منها القضايا النقدية الكبرى حول طبيعة الشعر ووظيفته ولغته والاختلاف على طرق الكتابة الشعرية واختلاف شعر المتنبي عن غيره. وإن تتبعت مسيرة البحث في قضية الإعجاز منذ كتاب "مجاز القرآن" وصلت إلى أن الباقلاني وزميليه الرماني والخطابي ثم القاضي عبدالجبار المعتزلي وبعدهم عبدالقاهر الجرجاني والزمخشري وصولا إلى السكاكي في مفتاحه، وصلت إلى أن هؤلاء جميعا يمثلون الدرس البلاغي في أوضح تجلياته وما انتهى إليه في صورة نظرية النظم. ومن ثم فإن أمر التصنيف في تقديري يصعب أن نعتمده في اتجاهات ويمكن أن ننظر إليه من منطلقات البحث. فقضايا الشعر المحدث وعلاقته بالتقاليد والاختلاف حول لغته كما تجلت عند أبي تمام والمتنبي تمثل منطلقا يحدد مسار البحث في النقد الأدبي. وقضايا الإعجاز القرآني وصلتها بأدبية النص القرآني وقضية المجاز والأساليب تمثل منطلقا يحدد مسار البحث في البلاغة وقضاياها. وفي هذه الحالة سنتجنب عد هذا المصدر أو ذاك واحدا من اتجاهات البحث البلاغي أو النقدي لأنه يضم بين دفتيه نصوصا عديدة تلبي احتياجات البحث البلاغي من جهة، والبحث النقدي من جهة ثانية. ولم يغب عن مصلوح صعوبة تصنيف اتجاهات الدرس البلاغي تصنيفا قائما على مصادر بعينها تمثل هذا الاتجاه ولا تمثل غيره.

وعلى أي الأحوال أعلم أن مصلوح بهذا التصنيف الذي استخلصه من كتابات شوقي ضيف وأمين الخولي بعد نقدهما أو قل بعد قراءتهما قراءة نقدية كاشفة، يهدف إلى أن يصل كما أوضح في تساؤلاته المنهجية إلى الصيغة البلاغية التي يرى أنها تمثل البلاغة العربية من جهة وتمثل المادة والمنهج الذي يراه صالحا للتطوير أو للتحاور العلمي البناء مع ما تقدمه "الأسلوبيات اللسانية". ولم يجد مصلوح أفضل من الصيغة البلاغية التي قدمها السكاكي. يقول : «إن مفتاح العلوم – وإن عد بداية التأليف في الاتجاه التقعيدي ـــ هو عندنا من كتب الاتجاه الأصولي التي تؤصل لدراسة الظاهرة الأدبية، وهو يشارك في هذه الخاصية كتاب حازم القرطاجني. إن صيغة السكاكي لاتزال أصلح الصيغ للاستثمار، وإقامة حوار بين العلم الموروث والعلم المستفاد، في مجال الأسلوبيات اللسانية. كما أن صيغتي عبدالقاهر والقرطاجني لا تزالان أساسا صالحا لإقامة الحوار في مجال الدرس النقدي».(9) ولذلك لم يحسم مصلوح هذا الاختيار ولم يكشف عن هذا الاقتناع التام بالسكاكي إلا بعد أن واجه عائبي السكاكي، أو قل من لم يقرؤوه قراءته التي ارتكزت ــ كعادة مصلوح العالم الرصين ــ على عدة أسئلة فارقة بينه وبين غيره من قارئي السكاكي. هذه الأسئلة هي عماد الحوار العلمي الذي يتبناه مصلوح مع "الأسلوبيات اللسانية" أو مع أسئلة المنهج العلمي المعاصر. فيبدأ بالتساؤل عن مدى مسؤولية السكاكي وكتابه عن تقسيم البلاغة القسمة الثلاثية المشهورة، وعن مدى مسؤوليته عما نسب إليه من إصابة البلاغة بالجمود. ثم ما حظ ناقديه من البلاغيين المحدثين أو المجددين من التوفيق فيما أبدوه من ملاحظ، وما اقترحوه من صيغ بديلة؟ ويختم أسئلته بسؤالين خطيرين هما: هل يمكن أن يصاغ منهج السكاكي صياغة جديدة ينتفع بها الدرس الأسلوبي المعاصر؟ وما نوع العلاقة المعرفية بين العلم الموروث والعلم المستفاد في هذا المقام؟

لقد مثلت هذه الاسئلة كما مثلت سابقتها الأساس المنهجي الذي جعله يختار من البلاغيين عينة ممثلة لقراءة السكاكي وكتابه وهم الذين أشار إليهم بقوله: «ما حظ ناقديه من البلاغيين المحدثين أو المجددين من التوفيق فيما أبدوه من ملاحظ وما اقترحوه من صيغ بديلة»(10). وهو بإشارته هذه يخاطب فريقين من ناقدي السكاكي: البلاغيين المحدثين والبلاغيين المجددين. فالفريق الأول قدم ملاحظ، والفريق الثاني قدم مقترحات بديلة. ومن الفريق الأول بدوي طبانة في كتابه "البيان العربي"(11) يقول «والواقع أنه لم يفسد البلاغة العربية أو البيان العربي مثل تمحيص السكاكي وتهذيبه وترتيبه الذي مجده ابن خلدون» ومحمد عبدالمنعم خفاجة محقق الإيضاح للخطيب القزويني وقوله عن السكاكي: «إنه قد أمعن في الغوص بقواعد البلاغة إلى أعمق بحار العلوم العقلية من منطق وفلسفة، وجرى في ذلك إلى غاية بعيدة المدى مترامية الأطراف كانت أولى الخطوات الواسعة بعد قدامة في النزول بالبلاغة إلى هذا الدرك الذي ترى عليه البلاغة الآن"(12) ثم يختم هذا الفريق برأي لشوقي ضيف يرى أن السكاكي خلط مسائل النحو بمسائل البلاغة ... وأنه نظم في بعض أبواب كتابه دررا وحصى كثيرا. أما الدرر فجمعها من كتابات عبدالقاهر والزمخشري، وأما الحصى فجمعه من كتب النحو واللغة»(13).

ويختار من الفريق الثاني – المجددين – اثنين هما أمين الخولي وأحمد الشايب. ويتأنى مصلوح طويلا في تناول هذين المجددين ويرى أن التجديد عند أمين الخولي لم يكن انعتاقا من أسر القديم بل أرسى مبدأه المنهجي الشهير لتجديده وهو "إن أول التجديد قتل القديم فهما" الذي اقتبسه كما يقول مصلوح من مقولة للسيوطي عن علم البيان "علم لم ينضج ولم يحترق" وجعلها حافزا للتجديد. ويدعو الخولي إلى هجر المدرسة العلمية (مدرسة المتكلمين التي انتهت إلى السكاكي وكتابه المفتاح) وإلى «ضرورة العدول عن هذه الثلاثية المصطلحية إلى مصطلح واحد جامع هو البلاغة" ثم " نقسم الدرس إلى بلاغتين: بلاغة الألفاظ. وبلاغة المعاني»(14). ولأهمية ما صنع احتفى مصلوح احتفاء كبيرا بدعوة أمين الخولي للتجديد. وجاء احتفاؤه في صورتين: الأولى تعقيبه بالنقد والتعديل على رأي الخولي في التجديد. والثانية تقديره للفتات الرائعة عنده التي كان يمكن البناء عليها وتطويرها.

وفي الأولى يرى سعد أن «قسمة البلاغة إلى بلاغة ألفاظ وبلاغة معان هي أمر من الصعوبة بمكان في دراسة النص الأدبي. ولا أدل على ذلك من أن الخولي نفسه يضع تحت دراسة بلاغة الألفاظ دراستها (من حيث هي دوال على المعاني ومفهمة لها) وهي عبارة تنفي إمكان الثنائية التي يقترحها. وعندي أيضا أن القسمة الثلاثية على ما فيها من عيوب أوضح للفكر وأطوع لمباشرة النصوص من هذه القسمة الثانية»(15). أما الصورة الثانية فتقدير مصلوح للفتة الخولي الرائعة وهي مجاوزة البحث البلاغي مستوى ما وراء الجملة في الفقرة والنص. ويتضح هذا التقدير أكثر في استرسال مصلوح بالقول عنها «هذه اللفتة الرائعة كانت عام 1931م ولم تجد لها صدى على الصعيد التطبيقي. كانت هذه اللفتة حرية أن تحدث ثورة في البلاغة العربية بنقلها من نحو الجملة إلى نحو النص، وكان لها أن تسبق أوروبا، إذ يرجع أول تاريخ معروف تحدث عن دراسة البنية النحوية في النص إلى عام 1952م وكاتبه زيلج هاريس»(16).

أما نقد ما قدم الشايب، فكعادة مصلوح يرى المتصل والمستمر من المبادئ والجواهر ويشيد به. ومنه «أن ثمة فضائل كثيرة يمتاز بها كتاب (الأسلوب) الذي طرح فيه الشايب صيغة قطعت بنا خطوات في سبيل وضع تصور صحيح لقضية البلاغة ومكانها في الدرس الأدبي المعاصر؛ هذه الصيغة هي الالتفات إلى علاقة البلاغة بالدرس الأسلوبي في وقت مبكر من القرن العشرين، عندما صدر الكتاب 1939م وإن لم يلتفت الشايب إلى علاقة الدرس الأسلوبي بالدرس اللساني.»(17)

ــــ 7 ـــ

ونصل مع مصلوح – بعد النقد والتعقيب – إلى سؤاله عن إمكان صياغة منهج السكاكي صياغة جديدة تصلح لأن تكون أساسا لعلاقة معرفية جديدة مع "العلم المستفاد". لقد أفضت الأسئلة المنهجية عند مصلوح كما أشرنا إلى اكتشاف جديد لكتاب السكاكي جعله صيغة نافعة لإقامة علاقة جديدة بين بلاغتنا الموروثة والعلم المستفاد. وبداية هذا الاكتشاف أن مصلوح يضع "المفتاح" بجوار "منهاج البلغاء" مخالفا السياق العام السابق منذ صدور"المفتاح" حتى ساعة كتابته عنه. هذا السياق العام الذي ألصق كل ما أصاب البلاغة من جمود وانزواء وتخلف عن سباق العلم والمعرفة بالسكاكي على نحو ما قدم مصلوح من انتقادات البلاغيين والمجددين على حد سواء، وعلى حد قول طه حسين في حديثه عن البيان العربي: «لم يتقدم البيان العربي بعد عبدالقاهر تقدما ما، بل لقد أخذ على العكس من ذلك في التأخر والانحطاط. ومنذ القرن السابع جعل يفقد كل صبغة أدبية له، ويصبح فريسة للشراح والذين شغلوا بالجدل فيما ليس بشيء، وكادوا يجهلون الأدب العربي جهلا تاما».(18)

ومغزى وضع "المفتاح " بجوار" المنهاج" أن مصلوح نقل السكاكي وكتابه لأول مرة من الاتجاه التقعيدي إلى الاتجاه الأصولي الذي يعالج القضايا الكلية لـ"علم الأدب" وهو العلم الذي يرى مصلوح أن السكاكي يؤسس له في كتابه. ويعلن هذا التحول الذي يعد سباحة ضد التيار وحيدا إلى حد المغامرة بقوله : «على الرغم من أن الجميع بلا استثناء يضعون كتاب السكاكي على رأس الاتجاه التقعيدي ويحملونه وزر ما أصاب البلاغة .... فإن لنا في المسألة رأيا آخر، يوشك أن يكون مناقضا لما ذهبوا إليه من جميع الوجوه. إن مفتاح العلوم وإن عد بداية التأليف في الاتجاه التقعيدي المؤسس للقسمة الثلاثية في علوم البلاغة، هو عندنا من كتب الاتجاه الأصولي التي تؤصل لدراسة الظاهرة الأدبية، وهو يشارك في هذه الخاصية كتاب حازم وإن كان باعتبار مخالف لما سار عليه حازم ... وإن اجتمعا في رأينا في الوجهة والغاية».(19) وينتهي مصلوح بعد صياغته المنفردة لكتاب المفتاح إلى رأي يمثل قناعت،ه كما يمثل حكما علميا صادما، وهو أن صيغ التجديد التي سبقته أصابها العقم من جهتين : «أولاهما مفارقتها لمذهب المفتاح بالكلية وفهم المفتاح من خلال شروحه وتلخيصاته، والأخرى غياب البعد اللساني وحصرها في دائرة النقد المحض».

وفي ضوء هذه القراءة المتفردة المتميزة للسكاكي، يرى مصلوح أن كتاب المفتاح بناه صاحبه على ثلاثة أقسام هي: الصرف والنحو والمعاني، وأن البلاغيين أضربوا صفحا عن قسمي الصرف والنحو وعن الفصول التي عقدها لعلم الاستدلال والشعر، وتساوى في ذلك القدماء والمحدثون الذين أخذوا من المفتاح القسم الثالث وحده، ولم يلتفتوا إلى أن هذه الأقسام تمثل بنية منهجية واحدة، تصلح أساسا لعلم الأدب الذي يدرس الكلام البليغ وغيره من الكلام. لذا لم يلتفت السكاكي إلى وضع علم للبلاغة مكتفيا بتعريف البلاغة التي جعلها مراتب متفاوتة. ولم يتحدث عن علم البلاغة ولكن هذا الحديث ورد من اهتمام البلاغيين بالقسم الثالث من أقسام الكتاب، واعتمدوا عليه في تقسيم الدرس البلاغي إلى معان وبيان وبديع، وكان من شأن تواتر هذا التقسيم جمود الدرس البلاغي وانحصاره في المثل والشاهد، واقتصاره على النص الأدبي، لا على الكلام بجميع مستوياته.

واللافت للنظر أن مصلوح كان حريصا كل الحرص بعد أن وصف الصيغة السكاكية وشخصها وحدد معالمها لتكون هي الجسر الذي يستطيع من خلاله عقد الصلة بين الأسلوبيات اللسانية وبين البلاغة العربية، كان حريصا على أن يفرق بين صيغة السكاكي وبين الموروث من البلاغة العربية وعلى أن يقف عند الحدود المائزة للبلاغة العربية الموروثة، وكيف أنها لا تلائم الدرس الأسلوبي اللساني المعاصر من حيث المنهج والموضوع والمادة المدروسة ليصل إلى أن الفهم الخاطيء لصيغة السكاكي أو إنجازه وإصدار الأحكام المتواترة عليه قد أهدر فرصة تطويره ليلائم الدرس الأسلوبي. لذلك راح يبين في دقة ودأب ووعي مذهل ما انطوى عليه إنجاز السكاكي الذي وضع منظومة تحليلية تعتمد على الصوت والصرف والتراكيب والدلالة وهي منظومة كانت محكومة بالمنطق الذي استعان به السكاكي ليؤسس علما يتناول النص في ضوء أسس علمية واضحة مستمدة من بنيته اللغوية وفكرة النسق والمقام. وانتهى مصلوح إلى قوله: «يمكن الانطلاق من صيغة السكاكي لتمييز ثلاثة مستويات تقع متوازية ومترابطة في المعالجة الأسلوبية اللسانية على النحو الآتي: المستوى الأول لسانيات النص. المستوى الثاني لسانيات النص الأدبي. المستوى الثالث لسانيات نص أدبي متعين. وإذا تجاوزنا عن فكرة لسانيات النص وتأملنا المجالات التي أسهمت فيها نظرية السكاكي، فسنلحظ أنها مست محددات مهمة في دراسة أسلوبيات اللغة وأسلوبيات النص الأدبي.»(20)

ـــــ 8 ـــ

ولم يكن صنيع مصلوح صنيعا سهلا تقبله ولا ميسورا فهمه. وهذا ما دعاه إلى مواجهات فكرية قوية لعل أهمها ما أشرنا إليه في متن هذه المقالة بعنوان "علم الأسلوب والمصادرة على المطلوب" يناقش فيها قضية البحث الأسلوبي وارتباطه بمبدأ الإحصاء، وكيف يمكن تطبيق النقد الأسلوبي على الأثر المنقود، وعلى الطرف الآخر صلاح فضل وما يراه من تحفظات على المنهج الأسلوبي اللغوي الإحصائي، انبرى مصلوح في لغة رصينة واثقة رامزة ومشيرة وناطقة، يفند هذه التحفظات واحدا وراء الآخر. ويدلل هذا الدفاع العلمي على غرابة ما أتى به مصلوح وهو بالفعل يبدو غريبا لمن تقف عيناه عند حدود الرؤية السطحية ولا يدرك أنه بصنيعه الجريء هذا قد حقق أهداف النهضة العلمية والفكرية وهي ثلاثة: «أولها الاستجابة الصحيحة لمطالب النهضة العربية الحديثة ولحقائق الواقع العربي المتطور. وثانيها: إحياء الموروث العربي القديم وتجديده. وثالثها: الاتصال بالموروث الفكري الإنساني قديمه وحديثه. والغاية من السعي إلى تحقيق هذه الأهداف الثلاثة هي أن يصل العرب المحدثون – في ميادين العلم والإبداع والفكر – إلى تجربة عربية حديثة تكون مساهمتهم في الحضارة الإنسانية الحديثة واستمرارا لمساهمة أسلافهم العرب الأقدمين في الحضارة الإنسانية الوسيطة»(21).

مثلت هذه الأهداف الثلاثة مشروعا حضاريا عينه على ما يحدث من تطور اجتماعي وفكري في الواقع العربي، وعلى ما يحدث من تطور مماثل في الواقع الغربي بحيث صار هذا الارتكاز هو المعيار الأول في التعامل مع الموروث العربي القديم وتجديده، ومع الموروث الفكري الإنساني قديمه وحديثه على السواء. غير أن هذا السعي لتحقيق أهداف النهضة العلمية يفرض علينا النظر إلى المشاريع المماثلة لمشروع مصلوح عند شكري عياد في مصادره: مدخل إلى علم الأسلوب، واللغة والإبداع، واتجاهات البحث الأسلوبي وبحثه الضافي عن بلاغة السكاكي وكيف نجعل منها نسيجا من أنسجة البحث الأسلوبي المعاصر، وغير ذلك مما كتب، وعند مصطفى ناصف في كتبه العديدة ومنها محاضرته في نادي جدة الأدبي تحت عنوان "بين بلاغتين" وعند عبدالحكيم راضي ومحمد عبدالمطلب. إن إعادة النظر في مشاريع هؤلاء سوف تبين لنا أي المسافات قطعنا، وعلى أي النقاط توقفنا، وما السبيل لاستمرار المسير. كما أن التفكير العلمي يفرض علينا جمع نصوص كل الذين حاولوا وفكروا في أمر تجديد الدرس البلاغي منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين حتى يومنا هذا لمعرفة سياقات هذه النصوص وآليات التجديد والمصطلحات التي طرحوها والمصادر التي استعانوا بها والنتائج التي انتهوا إليها. وفي نهاية حديثي هذا لا أملك إلا أن أغبط هذا الأستاذ الجليل والشيخ المتبع والشاعر الفرد سعد مصلوح على أمرين: دقة لغته وجمالها.

 

الإشارات المرجعية:

1-                       شكري عياد / اللغة والإبداع : مباديء علم الأسلوب العربي ط 1 1988 ص 15 وما بعدها.

2-                       سعد مصلوح / في البلاغة العربية والأسلوبيات اللسانية: آفاق جديدة/ جامعة الكويت الكويت/ ط1 2003/ ص8.

3-                        المرجع السابق / ص22.

4-                        نفسه /ص8.

5-                       نفسه / ص16.

6-                       سعد مصلوح / في النص الأدبي :دراسة أسلوبية إحصائية / عين للدراسات والبحوث الإنسانية / القاهرة ط1/1993 / ص181.

7-                       سعد مصلوح/ في البلاغة العربية / ص9.

8-                       أحمد يوسف علي / وميض الفكر: دراسات في التراث وطه حسين وشوقي ضيف / مكتبة الآداب / القاهرة / 200 / ص220.

9-                       سعد مصلوح / في البلاغة العربية / ص 51.

10 نفسه / ص 28.

11 بدوي طبانة / البيان العربي / الأنجلو المصرية / القاهرة /ص200.

12 محمد عبدالمنعم خفاجة / الإيضاح للخطيب القزويني.

13 شوقي ضيف / البلاغة تطور وتاريخ / دار المعارف / القاهرة /ص296.

14 سعد مصلوح / في البلاغة العربية / ص40.

15 نفسه ص40.

16 نفسه ص45.

17 نفسه ص 47.

18 طه حسين / تمهيد في البيان العربي/ مقدمة نقد النثر ص31.

19 سعد مصلوح/ في البلاغة العربية / ص50 .

20 نفسه / ص76.

21عبدالمنعم تليمة / عبدالحكيم راضي / النقد العربي / مداخل تاريخية / الجهاز المركزي للكتب الخارجية / القاهرة / 1977/ 453.