لايزال الشوق للكتابة الأدبية عن الثورة يناوش الكثير من الكتاب المصريين، وقد بدأ البعض في نشر روايات وأنواع أخرى من الكتب التي تسجل أحداث أهم ما جرى في تاريخ مصر المعاصر في تلك الأيام الثمانية عشر المجيدة. بصورة نجد معها أن الثورة قد أثّرت في بنية الكتابة وجددت صيغها، بأكثر مما أثرت في بنية الحكم/ السلطة أو غيرت أشكالها. وينتمي هذا الكتاب الصغير الجميل للروائي الموهوب أحمد أبوخنيجر الذي سبق أن قرأت له عملين روائيين مدهشين في أصالتهما وجدة كشوفهما، إلى هذا النوع الجديد من الكتابة الذي بدأ بكتابي أحمد زغلول الشيطي وسعد القرش عن أيام الثورة في ميدان التحرير. ففي الكتاب مزيج فريد من التقرير الصحفي والسرد الروائي، وما يدعوه إخواننا المغاربة بالتخييل الذاتي، يمنحه مذاقه الفريد. كما أن فيه رغبة واضحة في أن يكتب الروائي وقائع هذه الثورة النبيلة كما جرت في أسوان، آخر مدن الوادي المهمة وأبعدها عن القاهرة؛ دون الاكتفاء بالجانب التسجيلي الذي يحصر التجربة في حدوده الضيقة من ناحية، ويحيلها إلى عمل وصفي محدود القيمة ومقيد بزمنه، وغير قادر على تجاوزه كما تفعل الأعمال الفنية من ناحية أخرى.
العتبات المختلفة: مداخل وعلامات على بنية مضمرة:
وهذه الرغبة هي التي دفعت الكاتب بعدما قدم لنا المشاهد الثلاثة إلى إضافة أمثولتين تفتحان النص على مجموعة من التأويلات الخصبة، وتمنحان الجانب التسجيلي أو التوثيقي فيه بعدا فنيا، يتيح لنا معرفة رؤية الكاتب لما جرى من ناحية، ورأيه فيما حدث بعد انتهاء مشاهده الثلاثة من ناحية أخرى. ولحرص الكاتب من البداية على أن يزود عمله بهذا الجانب الفني الذي يتيح له الاستمرار والفاعلية وراء اللحظة الآنية التي صدر عنها، فإنه يفتتحه بهذا الموقف الصوفي الذي يوشك أن يكون مستعارا من النّفّري، ولكنه في واقع الأمر موقف مصنوع، أو عتبة أولى للعمل، يعمد الكاتب إلى أن يبدأ به كي يبرز التناقض بين ما يرويه فيه وما سيدور في المشهد الأول: «هتف بي قف! وكنت على العتبة قال: أتدخل علي بغير طهر، عُد! وأقام جدارا من حجر وصمت» (ص7) كي يدرك القارئ من البداية أننا بإزاء موقف دونه جدران من حجر وصمت. وأننا بإزاء عتبة يرد فيها الشيخ مريده، لأنه يدخل عليه من غير طهارة، وهو أمر يفتح الباب للتساؤل عن دلالات تلك الطهارة. أهي طهارة البدن؟ أم تراها طهارة النفس والروح؟
لكننا ما أن نبدأ في قراءة المشهد الأول المعنون «تحية الصباح»، والذي يبدأه بمقتطف من النشيد الوطني القديم: «والله زمن ع الحشود/ زاحفة بترعد رعود/ حالفة تروح لن تعود/ إلا بنصر الزمان» (ص11) حتى ندرك أن العتبة الصوفية هي عتبة للمشاهد الثلاثة كلها، وليست للمشهد الأول وحده كما سنرى فيما بعد. وأن هذه العتبة الجديدة هي عتبة استشرافيه اختارها للدلالة على ما جرى في أيام الثورة من ناحية، ولمفارقتها الواضحة لما ينطوي عليه المشهد من ناحية أخرى. لأن المشهد الأول للعلم أثناء تحية الصباح في المدرسة التي يعمل فيها الراوي، ويبدأ بها اليوم الدراسي، هو مشد غيابه. فالتلاميذ يحيون بلدهم بصوت باهت وحماس مفقود ولامبالاة واضحة، بعدما بقيت صارية العلم بلا راية منذ زمن. هنا يعود بنا الراوي/ الكاتب إلى الوراء ليحكي لنا عن حقيقة هذا الغياب وعن ملابساته. ليكشف لنا عن سر إشارة شيخه إلى فقدان الطهارة، فقد طال الدنس كل شيء، حتى العلم!
لأن المشهد الأول للعلم في حقيقة الأمر، ليس عن تحية الصباح الفاترة، ولا عن الحماس المفقود فيها، وإنما عن مشهد تدنيس العلم! الرمز والقيمة التي استباحتها سنوات البلادة والتردي والهوان. فبعدما صارت تحية الصباح لصارية خالية شاهدا على القيم التي تراجعت خلال سنوات طويلة؛ وصارت التحية التي تزرع في التلاميذ روح الانتماء إلى أمة لها أمجاد وتواريخ، فعلا لا معنى له يؤدى بصوت باهت وحماس مفقود؛ وبعد أن صارت الراية القديمة مزقا تتطاير أمام أبصار المدرسين والتلاميذ على السواء؛ كان طبيعيا أن يصل التردي والهوان إلى حد أن يلتقط مدرس التاريخ، لاحظ أهمية أن يكون مدرسا للتاريخ لا يقيم أي وزن لتواريخ بلاده، مزقة من العلم تطايرت، ويهم بأن يمسح بها حذاءه المتسخ. هنا ينقض عليه الراوي/ الكاتب صارخا: «انت اتجننت!» (ص14) وهو ينتزع منه مزقة العلم، قبل أن ينالها الدنس. ولكن أغلب المدرسين لا يدركون أهمية احتجاجه، وقد تعلل مدرس التاريخ بأن المزقة لا أهمية لها «فايدتها إيه؟ دي حتة قماش يا ابني!» (ص14) فيضطر للدفاع عن نفسه إزاء سخرية الآخرين، الذين لا يرون في انفعاله وهو يصرخ، إنه العلم/ الرمز/ القيمة، إلا شطحات شاعر لا يدرك ما آل إليه الواقع من تردي وهوان.
هذا المشهد الافتتاحي الصادم للعلم وما جرى له، ولمصر كلها معه وقد غاب علمها، في سنوات التردي والتبعية والهوان، يفتح المجال للتعرف على ما أصاب الشعب المصري نفسه، في غياب الوعي بعلمه ووطنه وذاته، من تدهور؛ وما جرى لمؤسسته التعليمية هي الأخرى من خراب. ليس فقط لأنها تتعايش مع صارية خالية من العلم، بعد أن تطاير مزقا، بصورة جعلت تحيته خالية بالنسبة للنشء من أي معنى من معاني العزة والوطنية؛ ولكن أيضا لتسلل الإسلامجية بخطابهم الشائه إلى بنية التفكير التعليمي فيها، والعقل الجمعي من ورائه، والزعم بأن «تحية العلم دي مش إسلامية، غير شرعية، التحية والعظمة لله سبحانه وتعالى».(ص17) وهو الأمر الذي وضح للراوي سر «تلك الزيادات التي دخلت على تحية العلم، والتي أصبحت تتقدمها: الله أكبر والعزة لله تقال ثلاث مرات تعقبها تحية العلم، وهو ما كنت أراه تزيدا ليس في محله، وإن لم أرفضه».
ويعود السرد بالزمن إلى الوراء، ليكشف لنا الراوي/ الكاتب/ المدرس متى بدأ التردي والدمار. ولأن التناقض والمفارقة من أدوات البناء السردي هنا، فإنه يعود أولا إلى أبهى لحظات الاحتفاء بالعلم، إلى الزمن الذي كان فيه الراوي تلميذا صغيرا في المدرسة وهي تحتفي برفع العلم على الضفة الأخرى المحررة من القناة في حرب 1973. إلى لحظة العودة للدراسة بعد الحرب، وفرد الناظر العلم على يديه يتقدم به نحو التلاميذ ويشرح بحماس لهم دلالات ألوانه، ورمزيته، وكيف تحولت تحية العلم بعده إلى هدير جمعي، وتحول العلم نفسه إلى الدرس الأول في هذا العام الدراسي الجديد. بعدها يطرح النص تساؤله الاستنكاري: «أين ذهب كل هذا الحماس والاتقاد؟ كيف توارى العلم ولم تعد له قيمة في حياتنا؟» (ص24) ويقدم لنا إجابته المضمرة على هذا السؤال على محورين: أولهما أن تبدد هذا الحماس من أعراض ما أصاب حياتنا من خلل وعطب بعدما أهدرت سياسة السادات الغبية لحظة رفع العلم المصري على الجانب الآخر من القناة في حرب 1973، وأهدرت معه الدرس الذي وعاه الراوي منذ سنوات تلمذته الأولى. وثانيهما أن على النص إزاء ذلك أن يرد بالتاريخ الطويل لسيرة العلم المصري منذ العصر الفرعوني ونقوشه على المعابد، التي تحتوى على الرايات في احتفالات الانتصارات. وصولا إلى علم بداية الدولة الحديثة مع محمد علي وحتى علم ثورة 1952 وتبدياته الراهنة. وكأن النص يرد بالتاريخ على مدرس التاريخ الأرعن الذي أراد أن يمسح بالعلم حذاءه الوسخ.
في المشهد الثاني «لوحات وصور» وبعد مفتتح يقيم تناظرا استشرافيا بين أنستاسيو سوموزا حاكم نيكاراجوا الكريه، وما سوف يقدمه في مشهده، ينتقل بنا إلى جغرافيا مدينة أسوان في فترة ما قبل اندلاع ثورة 25 يناير المجيدة. حيث اختفى العلم من فضاء المدينة كلية. لذلك كان طبيعيا أن يكون مفتتح هذا المشهد «أين ذهب العلم؟ كيف توارى مختفيا بعيدا عن حياتنا؟» (ص37) ولم يعد يظهر إلا في مباريات كرة القدم، التي نادرا ما رفرف فيها منتصرا، وخاصة بعد «صاعقة صفر المونديال، على الرغم من ان هذا الصفر كان تقييما حقيقيا لآداء السلطة وقدراتها». (ص43) لكن العلم كان يرفرف في سماء تلك المدينة من قبل، وخاصة في شارعها الرئيسي في زمن عبد الناصر، وحتى في بعض سنوات زمن السادات حتى اندلاع ثورة يناير 1977. لكنه لم يعد يظهر في المدارس أو المباني الحكومية وأقسام الشرطة. «اختفت صورة العلم وحلت بدلا منها صور أخرى، صور تخص رئيس الدولة، أو واحدا من أفراد عائلته. تم الاستبدال، استبدال الشخص المتغير والزائل، بالرمز والقيمة المقيم». (ص39)
هنا يحلل لنا النص ثلاث من الصور التي استبدلت بالعلم، ليكشف لنا مدى الفجاجة والتردي والغباء الذي عم الحياة في أسوان في غياب العلم. سواء في صورة الرئيس الضخمة التي كتبت تحتها تلك العبارة الفجة «دماؤنا سجادة حمراء فتمخطر عليها بقدميك». (ص44) أو في تلك التي رفعها مستثمر جديد تخلصا من مواجهات قضائية ليس له قبل بها، وكتب تحتها عبارة «كلنا بنحبك يا ريس!» (ص56) أو صورة زوجته التي وضعت على ترس العلم الأسواني في جدارية مدخل قصر الثقافة الذي شيد في الستينيات، ولكن نسب لها إعادة افتتاحه في عيد أسوان القومي قبيل الثورة بأسبوع. وفي تحليله للصور يكشف لنا ليس فقط عما تنطوي عليه من فجاجة، وإنما عن مجافاتها الواضحة لمشاعر أهل أسوان، وتناقضها معها. حيث أصبحت صورا للنفاق السياسي الرخيص، وللقهر المعنوي الذي يمارس عنفه الرمزي المنظم ضد أهل المدينة. صور يروج بها منافقو الحزب الوطني لأنفسهم، ويغطون بها على استمرار الفساد وتفشيه في شتى مناحي الحياة في المدينة. وهكذا استبدلت بالعلم/ الرمز والقيمة صورا لشخص أو أشخاص زائلين، لا تعترف بقيمتهم المدينة، بل تسخر منهم بطريقتها الفريدة، في نوع من تأكيد نزع الشرعية عن النظام الفاسد، قبل أن يسقط سقوطه المدوي بثورة 25 يناير.
حضور العلم بعد طول غياب:
لذلك يعنون أبوخنيجر المشهد الثالث بـ«استعادة العلم»، ويفتتحه بمقتطف دال من صلاح عبد الصبور «لترتفع لترتفع يا أيها المجيد/ يا أجمل الأشياء في عينيّ أنت يا خفّاق/ يا أيها العظيم، يا محبوب، يا رفيع، يا مهيب/ يا كل شيء كان في الحياة أو يكون/ يا علمي! يا علم الحرية!» (ص61) وهو مفتتح دال وموظف فنيا، لأن أول الاستعادات هي استعادة الحرية التي هي رديف لاستعادة العلم. لأن هذا المشهد الثالث من الكتاب هو المشهد الذي سيستعيد فيه الشعب بالثورة التي فرضت إرادته في تغيير النظام حريته، ويستعيد معها علمه وذاته معا. فاستعادة العلم هنا تتحول إلى استعارة دالة على استعادة الشعب لحقوقه المهدرة في أن يكون هو مصدر كل السلطات. وأن تكون له كلمته فيما يدور في بلده. وأن يفرض إرادته على دولة الشرطة الظالمة التي استبدت وطغت؛ ودولة الفساد المستشرية التي جرى فيها تجريف كل شيء، وسد الأفق أمام الشباب في مستقبل أفضل.
ويقدم لنا هذا القسم، بعد استقراء فني لأحداث ما قبل الثورة في أسوان، ولآخر زيارة لمبارك وحرمه لها في 18 يناير لافتتاح قصر الثقافة الذي أنشئ في ستينيات القرن الماضي، هذه الزيارة الأخيرة باعتبارها نبوءة أسوانية بالنهاية. فقد كانت أسوان تتنبأ بأن نهاية مبارك ستكون بها، وأحسبها نبوءة كانت تتردد في جل المدن المصرية الكبرى التي كانت كراهية النظام الفاسد قد فشت فيها وتمددت. لكن أسوان، التي عانت من الإهمال والتجاهل طوال زمن مبارك الرديء، كان لديها أسبابها. وكان لها أيضا دورها في الوقفات الاحتجاجية التي ملأت مصر في السنوات الأخيرة من حكم مبارك المخلوع.
لكن هذا المشهد الأخير للعلم يقدم لنا أيضا سجلا لأحداث أيام الثورة في أسوان، وكيف يعكس ميدان المحطة فيها ما يدور في ميدان التحرير في العاصمة. كيف تجمع الناس يوم 25 يناير، فيما آذن بأنه وقفة احتجاجية مغايرة لما سبقها من وقفات كان عدد أفراد الشرطة التي تحاصرها يفوق عدد المحتجين. وكيف انضم للعدد القليل من النشطاء السياسيين المعروفين في المدينة، ولدى رجال الأمن، «وجوه شابة تظهر لأول مرة في الميادين والوقفات الاحتجاجية، فتيان وفتيات ينبضون بالحماس، ومدججون بالهدير والأمل في غد أفضل مما نحن فيه» (ص67) ومع هذا كله كيف «ظهر العلم لأول مرة في الميدان. كانت تحمله أيادي طاهرة وبريئة (تذكر مفتتح الدعوة للطهارة) لأطفال يفردونه على صدورهم ويرفعونه فوق رؤوسهم. بدا بهيا وهو يدور بأيديهم حول الجمع القليل الذي اتخذ من الصينية مكانا لتمركزه ... كان يوجه نداء للجماهير الواقفة على الناحية الأخرى من الرصيف: تعال .. انضم إلينا». (ص68)
ويواصل هذا المشهد تسجيل استجابات ما يدعونه بحزب الكنبة لنداء العلم! وكيف مر يوما 26 و27 يناير قبل أن تتجلى تلك الاستجابة في جمعة الغضب (28 يناير) التي آثر أن يسميها جمعة العلم الأسوانية. حيث بدا فيها «أن ثمة شيئا جديدا ومختلفا يتخلق ويتكون. روح وثّابة ناهضة تنفض عنها غبار وسبات السنوات الطويلة من الصمت الجارح واللامبالاة؛ (تذكر جدار الحجر والصمت في المفتتح) روح خرجت ولن تعود لقمقمها اليومي الخانق والمكبل لحريتها وهدرها عبر التفاهة والخوف لقمة العيش، وفقدان الثقة والإيمان بالقدرة على التغيير.» (ص72) هنا يسجل النص حركة الثورة وهي تتخلق في الميدان، وكيف يتجمع زخمها عبر مشاهد مشاركة من لا يتوقع منهم المشاركة من النساء وكبار السن. وكيف فرض الشعب إرادته على مؤسسة القمع/ الشرطة التي تفرعنت وتجبرت، حينما حافظ المتظاهرون على سلمية مظاهرتهم، وتوجه بعض الناشطين تجاه قادة الشرطة وطلبوا منهم الإفراج عن الذين تم اعتقالهم لما توجهوا لمسجد الطابية وحضورهم للميدان في خلال نصف ساعة، وإلا ستتوجه الجماهير لإخراجهم بنفسها؛ فأذعنت الشرطة للتهديد، وبعد ثلث ساعة كانوا بين المتظاهرين.
في هذه المظاهرة أيضا كرست أسوان نبوءتها بنهاية نظام مبارك. حينما صعد بعض شباب المتظاهرين إلى سطح العمارة التي كانت عليها صورة مبارك وأخذوا في تمزيقها ومحوها، وقد ناشدتهم الجموع بحدسها، وفي صوت جمعي «سيبوا العلم» (ص77) الذي كان يحتل أقل من ثلث مساحة الصورة، ولكنه أصبح الآن بعد إزالة صورة الطاغية، هو الصورة بأكملها. بعدها اندفعت الجموع لتهشيم كل اللوحات التي تحمل صور الرئيس والمنتشرة في أنحاء المدينة، كما تنبه موظفو قصر الثقافة إلى صورة حرمه فنزعوها بأنفسهم ومزقوها مخافة أن يقتحم المتظاهرون القصر. ولم يبق في سماء المدينة في جمعة الغضب إلا العلم! وقرر المتظاهرون بعد يوم طويل من الكر والفر مع الشرطة أن يتركوا الميدان حتى الصباح. وفي صباح اليوم التالي حدثت ما يسميها موقعة الجمل الأسوانية. حينما «هلت طلائع المقهورين من الشرطة. شباب في عنفوان غضبهم جاءوا من الأحياء الفقيرة والعشوائية، من الحكروب والسيل والسيل الريفي وشرق المحطة والحصايا والجزيرة والقرى القريبة من المدينة.» (ص80) فقد تكونت لكل المدن أحياؤها العشوائية التي هل منها الفقراء يطلبون ثاراتهم من الشرطة التي حولت حياتهم إلى هوان وجحيم. وبدأت معارك الكر والفر مع الشرطة وغازاتها المسيلة للدموع، وحرق مقاراتها ومقرات الحزب الوطني. وهي في الوقت نفسه كما يقول لنا معارك تعميد العلم بالدم والدموع. والتي ملأت جغرافيا مصر كلها. إذ نعرف أن الشيء نفسه حدث في كوم امبو وأدفو المجاورتين.
لذلك كان اليوم التالي، وبعد خطبة مبارك العاطفية الدراماتيكية التي يقولون أن جابر عصفور قد كتبها، هو يوم المواجهة بين العلم/ الرمز القيمة في أيدي الثوار، وبين الصورة القبيحة الزائلة التي يرفعها أنصار مبارك ومنافقو الحزب الوطني. وما أن حان موعد الانصراف، حتى تفرق معظمهم ولم يبق سوى الثوار. وواصل العلم اصراره على تحقيق ما تصبو إليه مصر من خلاص من هوان سنوات التبعية والخنوع والرضا بالظلم وحالة الاستكانة التي أصابت مصر خلال العقود الأخيرة. (ص90) واصل العلم مسيرته، حتى تحول في نهاية هذا المشهد، وبعد خطاب التنحي الشهير، إلى جناحين يطير بهما الراوي فرحا. «في الميدان كان الزغاريد والصواريخ والألعاب النارية قد انطلقت. لا يمكن بأية حال وصف البهجة والفرحة التي كانت تغمر الجميع. ورأيت صديقي جمال فاضل وقد فرد ذراعيه والعلم حولهما بنفس طريقتي. اندفعت نحوه. واندفع نحوي. كطائرين احتضن كل منا الآخر. قال: أخيرا1 وقلت: أخيرا. وتهاطل دمعنا تحت سماء العلمين المفرودين فوقنا». (ص93)
جماليات البنية ودلالات الأمثولة
هكذا ينتهي المشهد الثالث وقد استعاد الشعب العلم، واستعاد العلم دوره ودلالاته الرمزية والقيمية على السواء. لكن الكتاب لا ينتهي عند هذا المشهد الجميل للراوي وقد غلبه الفرح والتحقق تحت راية العلم. وهذا ما يدفعنا إلى الاهتمام ببنية هذا النص الفنية الفريدة، والتساؤل عن سر إضافة الأمثولتين الختاميتين. فنحن هنا بإزاء نص يسعى لكتابة أحداث الثورة في أسوان بطريقة قاص وروائي موهوب. بطريقة فنية فريدة تجمع بين السردي والتسجيلي والتاريخي، وتكشف عن موهبة في البحث عن طريقة فنية خاصة يسجل بها الكاتب ما عاشه في أسوان إبان أيام ثورة 25 يناير المجيدة. ويقدم فيها رؤيته لما دار بعدها من تخبط وتقلبات لا يريد الدخول في غابة تفاصيلها الشائكة. فقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر منذ فورة أيام الثورة الثمانية عشر وألقها ونبلها الفريد، وحتى صدور الكتاب، أو كتابته. مياه تلاطمت أمواجها، فقد كانت أغلبها مياه الثورة المضادة القذرة.
وقد آثر الكاتب ألا يخوض في مباءاتها، بنفس المنطق السردي الذي اتبعه في المشاهد الثلاثة التي أعطت الكتاب اسمه؛ والتي اكتملت دورتها برغبته في أن يرفع علمه، الذي عاش به أيام الثورة في أسوان، والذي صادرته منه ابنته ندى، «على السارية الفارغة من علمها بالمدرسة حيث أعمل». (ص93) وحيث بدأنا المشهد الأول «تحية الصباح» بمزق لعلم، ثم بسارية خالية منه. وهو يختار هذا العلم بالتحديد (وسيشتري لابنته علما آخر) لأنه علم أثقلته تفاصيل المشهد الثالث، وتجربة أحداث أيام الثورة المتتابعة بالرؤى والدلالات، وبالتالي بالقدرة على أن يثير في تلاميذ المدرسة روح مصر وحبها. أقول أنه بالرغم من أن كلمات المشهد الثالث الأخيرة، والتي جاءت تعقيبا عليه تستهدف إغلاق دائرة البنية السردية، والعودة بنا إلى المشهد الأول بصاريته الفارغة، فإن الكتاب يمضي في تقديم أمثولتين، ويستخدم في كتابته لهما منطقا مغايرا لذلك الذي استخدمه في كتابة مشاهد العلم الثلاثة.
فبدلا من المنطق السردي الذي يجمع بين التأمل والتذكر والتسجيل. يلجأ الكاتب لمنطق مغاير كلية؛ يغلق به بنية النص الدائرية من ناحية، ويفتحها على آفاق واحتمالات تأويلية خصبة من ناحية أخرى؛ وهي بنية الأمثولة. فرغبة الكاتب/ الراوي في رفع علمه على السارية الخالية يقفل الدائرة التي بدأ بها المشهد الأول للعلم، وانتهت بالمشهد الثالث الذي اكتمل به استرداد العلم بالمعنيين الفعلي والاستعاري. وقد انتقل العلم منه إلى ابنته «ندى»، أي الجيل التالي، ثم ها هو يصر على أن ينقله إلى المدرسة التي يعمل بها، أي إلى الأجيال الناشئة الغضّة. لكن النص لا يقفل دائرته الأوسع، والتي بدأت بالمقتطف الاستهلالي الذي سبق مشهد العلم الأول، حيث يقيم شيخه بينهما جدارا من حجر وصمت، لأنه دخل عليه من غير طهر. وإنما يعود إليها كي يكملها، وقد هدم الشيخ جدار الحجر والصمت. وأزاحه إلى حافة السؤال في بداية الأمثولة الأولى «عن الكهف وحكاية الكنز» وهو يطلب منه أن يضرب مثلا لما جرى.
وكأننا هنا بإزاء عمل يعي ضرورة أن يكون له منطقه الداخلي وأهمية بنيته. وأنه لابد من الفكرة بعد أن راحت السكرة، سكرة فعل الثورة النبيل ونشوته. فقد طهرته أحداث الثورة من أدران السلبية والهوان، وعليه أن يواصل الآن الفعل، ولو بالتفكير فيما جرى. لذلك يقدم لنا النص أمثولتين، تحكمان مع المشاهد الثلاثة سبك بنية العمل الفنية، وترهفان وعي القارئ بجمالياته الخاصة. وهي بنية تعتمد على التصادي بين ما جرى في المشاهد الثلاثة، وما سيدور في الأمثولتين، وعلى وصل ما انقطع من إشارات النص العابرة في نوع من لفت اهتمام القارئ لتفاصيل العمل الصغيرة، وتوظيفها بطريقة تحثه على التفكير بدلا من التلقي السلبي، وعلى التأمل بدلا من الاستسلام لدعة الإنجاز. فضرب المثل الذي يطلبه منه شيخه هو ضرب من التفكير والتحليل المطلوب، الذي لم يفعله الثوار بعد أن حققت ثورتهم هدفها الأول وأزاحت رأس النظام، بل تركوا ثورتهم نهبا لمؤامرات الثورة المضادة.
لذلك تبدأ الأمثولة الأولى «عن الكهف وغواية الكنز» بالشيخ الذي بدأنا به عتبة الكتاب الأولى وهو يدُعّ عنه الراوي الذي دخل عليه بغير طهر. وها هو قد تطهر بالمشاركة في أحداث الثورة واسترداد العلم، لذلك فإن الشيخ يطلب منه هذه المرة أن يضرب مثلا لما جرى، فكانت الأمثولة الأولى عن الكهف والجدران العالية التي أقامتها كل مجموعة حول نفسها، وتلك التي أقامتها جميعها حول الكهف كله. جدران بلا أبواب دلالة على حالة اليأس واللامبالاة والإحباط التي سادت قبل الثورة، وكأنما كتب على الجميع البقاء في هذا السجن الذي يعتمد على فرقة من بداخله وتناحرهم، أكثر مما يعتمد على حراسه الأشداء. وتكشف الأمثولة عن مزيج من استشراء العبودية الطوعية بين سكان الكهف، وتفشي الانقسامات والإحن الصغيرة بينهم بالرغم من وعيهم بأن الكنز، الذي لا سبيل إليه إلا بالخروج من الكهف وكسر جدرانه، يكفي الجميع. فقد وسم منطق المستعمرات العقابية وخطابها المبرمج الذي فصل ميشيل فوكو الحديث عن سطوته حياتهم بالهوان.
وقد استطاع سكان الكهف في نهاية الأمثولة الأولى كسر الجدران، فقد خرج العفريت من القمقم، ولا سبيل إلى إعادته إلى هذا القمقم من جديد. لكن سنوات الخزي والعبودية الطوعية حالت بينهم وبين العثور على الكنز. أو كما يقول الراوي لنا في نهاية تلك الأمثولة: «اندفعنا وعشى الضوء يفقدنا البصيرة. فسقطنا في الأوحال، وداس بعضنا بعضا. ونسينا تماما يا شيخي، نسينا الحكمة بالحكاية، إن الكنز يكفي الجميع ويفيض». (ص 102) إن نسيان حكمة الحكاية، أو فقدان البصيرة أمام عشى ضوء تحقيق الثورة الباهر، لمعجزة إزاحة الكابوس الرازح فوق صدر مصر، هو مفتاح هذا النص كله! بل إنه التقطير الفني لحالة الثورة المصرية الفريدة. لأن عفوية الثورة، وغياب أي مؤسسات حزبية أو أيديولوجية روّجت لها، أو سيطرت على حركتها، هي موطن عظمتها ومكمن ضعفها في آن. ولو اكتفى النص بهذه الأمثولة الختامية، بزخمها الصوفي، لحقق الكثير من حيث جماليات البنية وتماسك منطق الرؤية معا. ولأرهف الجدل بين الأمثولة وما سبقها من مشاهد لتوليد العديد من الرؤى والدلالات.
لكن الكاتب يأخذنا إلى أمثولة أخرى بعنوان «عن السفينة حال جنوحها». توشك أن تكون مجرد أمثولة توضيحية، يستهلها بمقتطف من ماكيافيلي يقول: «إن السياسة هي قيادة سفينة في عرض البحر في خضم عاصفة، ومع وجود اختلافات جوهرية بين أعضاء الطاقم». لذلك يقدم لنا سفينة تتقاذفها الأمواج وسط العواصف والأنواء، وتتهددها أخطار سفن القراصنة المحوّمة من حولها، وأسماك القرش المفترسة التي تهاجمها، ويضرب أهلها الهلع واليأس. ويكشف لنا الراوي عن أن هذه السفينةـ بركابها والعاملين فيها وقادتها، هي صورة مصغرة لمصر في عهد مبارك وزمن التردي والهوان. حيث قبطان السفينة وأفراد اسرته وتابعيه لا يهمهم إلا الاستمتاع بخيراتها ونهبها، وحيث ثمة جماعة تدعي الورع والتقوى، ويستخدمها القبطان بدوره في ترويع ركاب السفينة والعاملين بها، برغم أنها جماعة سرية ومحظورة. وحيث ثمة نفر (أي الأمن) يديرون الأجهزة ويقيمون في الجزء العميق من السفينة ولهم علاقات خفيه بالجماعة المحظورة. وبين هذه القوى المختلفة يقف ركاب السفينة وسكانها ضائعين، وهم يتوقون إلى أن تتقدم بهم السفينة نحو شواطئ النجاة وتحقيق الأحلام.
وقد ثار سكان السفينة على هذا الوضع، وأزاحوا القبطان وبطانته، وانتشوا بزهو النصر، حتى صحوا على «المفاجأة القاسية التي كان من الممكن أن تصيبنا بالإحباط والشلل. رأينا بأم أعيننا أن الساكن الجديد لقمرة القبطان، واحد من تلك الجماعة التي تدّعي بأنها محظورة.» (ص109) ومع ذلك التغيير، الذي لم ينطو في حقيقة الأمر على أي تغيير حقيقي، ظلت السفينة على حال جنوحها وغرقها الوشيك. وأدرك سكانها أهمية وحدتهم وتحرير إرادتهم من الصفقات التي تتم في القمرات المغلقة، كي يخلصوا السفينة من أخطار ما وقعت فيه. فهل ثمة أمل حقا في أن تتقدم بهم السفينة نحو شاطئ الأحلام؟ حتى ولو قضوا على الجماعات المحظورة التي تتاجر بالدين؟ وهل ثمة أمل في التغلب على القوى الخفية التي تحرك خيوط تلك الجماعات وغيرها؟ هذه الأسئلة المدببة التي يتركها الكتاب في عقل قارئه، هي التي تمنح هذا الكتاب الجميل قدرته على الحوار مع قارئه، وترهف وعيه بما يدور في واقعه معا.
- صدر الكتاب عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2014