لو كان للمرء أن ينشطرَ بإرادةٍ منه، عازلاً، بل لاغياً ماضيه الكابوسيّ عن حاضره، لربما باتَ بمقدوره أن يعيش ضرباً من حياة "سعيدة أو جميلة". غير أنّ أمراً كهذا لهو المستحيل عينه. ولأنه كذلك؛ فإنّه ملزمٌ بحمل صليبه والمضي به، وبذاته الناتجة منه، والتقدم بـ"الحمولة كاملةً". هكذا هو حال هيرتا موللر صاحبة حمولة الخوف والرعب التي رحلت بها هاربة من رومانيا إلى ألمانيا.
أمنية إلغاء الماضي لا تعني الانشطار بقدر ما تشير إلى إبطال الوجود؛ إذ، وبحسب تعبير الكاتبة الحائزة جائزة نوبل للآداب عام 2009: "أنا أستطيع ذهنياً أن أكون من غير ماضٍ، فقط حين لا أملك حاضراً".
مَن يقرأ كتاب هيرتا موللر "الملك ينحني ليقتل" سيصيبه قدرٌ من ذاك الرعب الذي أصابها، الناتج من دكتاتورية تشاوتشيسكو، حيث بلغَ نظامُه الشمولي حيوات الأفراد حتّى في التفاصيل الصغيرة، اليومية، محيلاً إيّاها إلى شبكة صيد محكمة. شبكة تصطاد مصائر البَشَر وفقاً لطبيعة حُكْمٍ لا يستطيع العيش وثمة احتمال، مجرد احتمال، أنّ اعتراضاً عليه يراود خاطر أحد المواطنين! عندها؛ يُلغى المواطن/الوطن ويستمر الحكم: فالنظام: فالفرد الواحد الوحيد الأشبه بإلهٍ تعرّى من خاصية الرحمة!
لا رحمة تُرجى، إذن، إلّا لدى الإله الإلهي في سماءٍ بعيدة لا تطولها مخابرات هذا الإله الأرضي، مجبِّر "رعاياه" على الطاعة، من داخل دواخلهم قبل خارجهم. رعايا دولة استطاعت، بسبب سطوة بطشها، أن تتلاعب بأشياء البيوت والغرف والحمامات وأن تحركها بينما أصحابها خارجها، متسلحة بسخرية الوحش، لتبرهن على أنها العين الرائية لكل تفصيلة حياة لكل مواطن! عين الربّ القهّار المدسوسة تحت الثياب!
أيّ رعب أشد وطأة من هذا الرعب!
فالملك/الدكتاتور لا ينحني، مجازاً، إلّا ليقتل. الدكتاتور لا يعرف اللطف أو التواضع، وما الانحناء سوى فضيلة المواطن المطيع/الخاضع والشهادة عليها.. وإلّا.
تستتبع هذه الـ"إلّا"، لدى المواطن المطارَد بالشبهة والاتهام، المجاراةُ فالإصابة بالعدوى لتصبح المطاردة حالةً متبادلة بين اثنين! المطارِد (بكسر الراء) يتسرّب متسللاً إلى حياة المطارَد (بفتحها)، بينما يُضطر الثاني لأن يفتش عن أثَر الأوّل في كل الأماكن المحتملة التي يتحرك فيها ليتحاشاه، أو يضلله، لينجو! وعبر متوالية هذه الحالة: الطريدة تطارد مطاردها لتطردها من حياتها، تتحول الكتلة المجتمعية إلى مجاميع من الطرائد، ويُعاد خلق مساحة الوطن لتكون مصيدة كبرى تتهم البشر.
"الملك ينحني ليقتل" كتاب يتحدث عن كيف تفعل الدكتاتورية على مسخ الكائن في كافة أبعاده ومعانيه. مسخ الإنسان وتشويهه من داخله إلى درجة تطبيعه وإدراج النتيجة في قائمة الفضائل المطلوبة لكي تُحْتَمَل الحياة. فالجمال، بحسب هيرتا موللر، ليس جمالاً ما دام صاحبه يقترف التعذيب والقتل. وكذلك اللغة حتّى اللغة لا تكون "وطناً"، وفق رؤية البعض ونعتها بـ"اللغة وطني"، ما دام الناطق بها استخدمها أداة في النطق بأمر القتل والتدمير. فموللر، الرومانية ذات الأصل الألماني، لا ترى في لغتها الألمانية الأم وطناً طالما كانت هي لغة النازية بفظائعها. ولأنّها تعلمت اللغة الرومانية عند قدومها من قريتها للمدينة بغية التعلم، وتعرفها إلى الرومانيين الأصدقاء المحكومين بالخوف مثلها مثلهم، وكان منهم العديد من ضحايا الدكتاتور؛ اكتشفت جمالياتها وبرهنت عليها. إنها عملية مركبة معقدة تعقيد الكائن وكينونته.
جعلَت هيرتا موللر من كتابها النثري هذا، الأقرب للسيرة وتأملها، لوحاً سطرت عليه قوس قزح كاملاً لحياتها وحياة بلد اسمه رومانيا. لوحاً بقدر ما يرينا حياة موللر، فإنه يصيبنا بالرعب الأكثر من مجازيّ جرّاء مفاعيل الاستبداد.