يخلص الباحث إلى أن العرب كباقي الشعوب عرفوا الأساطير بمفهومها الأنتروبولوجي، ويرى أن الثقافة العربية عالجت شؤون الحكاية الأسطورية، وتفاعلت مع فنون الأسطورة، وأن العرب كانت لهم قصص وأخبار وخرافات وسرديات من "العجيب والغريب" والذي يعتبر مادة تراثية خصبة.

العرب والأسطورة

عبد السلام الخراز

انقسم الدارسون فريقين: هناك من يرى غياب العنصر الأسطوري عند العرب على اعتبار أن "العربي كان يتصور الأشياء كما يتوهم عقله الساذج، ولكنه لا يخترع الأساطير حولها مهما كانت عنده هذه الأشياء غامضة معقدة، ومن هنا جاءت قصصه بعيدة عن الخيالات التي تبدو في أكثر القصص الميثولوجي والأساطير الشعبية لدى الأمم الأخرى، كأساطير اليونان والهنود والفراعنة.."(1)، وهذا حُكم يُجانب الصواب لأن الأمة العربية كباقي الأمم وكباقي أفراد الإنسانية عاشت مع أساطيرها، "وعالجت شؤون القصة، وتفاعلت مع فنون القصة.. فالعرب كانت لهم قصص وأخبار تدور حول الوقائع الحربية"(2)، وهكذا "فالعربي بطبيعته ثري غني بكل مقومات الشخصية الكاملة والصورة المثالية المستوفاة، وخياله خصب، وتفكيره واضح.. وهو واسع الأفق.. وهو إنسان في عاطفته صادق في وجدانه وأخيلته، خلاق مُبدع، يحشد وجوه الحياة كلها في مبتكراته وتصوراته، وفي استطاعته أن يأسر الدنيا كلها لو حاول استجداء العواطف والغرائز عن طريق الإمتاع والإبداع"(3). و هذا رد على الذين قالوا بأن العربي في جزيرة العرب ضيق الخيال،وعقله لا يسمح له بالإبداع ونسج الحكايات والأساطير ومن ثم فهذا أمر غير صحيح نظرا لتوفر المجتمع العربي على كل الشروط التي تسمح بنشأة الأساطير كباقي المجتمعات الأخرى، وسأبين ذلك لاحقا.

تشهد بذلك المصادر التي تحدثت عن الحالة الدينية عند العرب في الجاهلية، والتي تُثبِت انتشار الدين الوثني في شبه الجزيرة العربية، وأخص بالذكر هنا كتب السير والتاريخ والمغازي والأخبار، وقد جاء في تاريخ الإسلام السياسي" يقال إن الذي نقل الوثنية إلى العرب هو عمرو بن لُحَيِّ الخزاعي .. روى ابن الكلبي أن عمرو بن لُحَيِّ مرض مرضا شديدا فقيل له: إن بالبلقاء حمه، إن أتيتها برأت، فأتاها فاستحمَّ بها، ووجد أهلها يعبدون الأصنام، فقال: ما هذا؟ فقالوا: نستسقي بها المطر، ونستنصر بها على العدو، فسألهم أن يعطوه منها، فقدم بها إلى مكة ونصبها حول الكعبة"(4).

وقد عرفت قريش أصناما كثيرة، على سبيل المثال" كان هُبل أعظمها شأنا، وكان من العقيق الأحمر على صورة إنسان مكسور اليد اليمنى، فصنعت له قريش يدا من ذهب"(5).

إن الحديث عن الأساطير العربية بالمفهوم الأنتروبولوجي للأسطورة انقسم حوله الدارسون كما جاء سالفا مذاهب متعددة، فهناك من ينفي الجانب الأسطوري لدى العقلية العربية عموما، لكن الواقع يقول بأن عرب الجاهلية عرفوا: مناة " وهي إلهة القضاء، ولا سيما قضاء الموت .. وكانت تعظمها الأزد والأوس والخزرج حتى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب بكسره عندما خرج لفتح مكة"(6)، والعُزّى وهي "شجيرات في واد نخلة عن يمين الذاهب من مكة إلى العراق"(7) إلى غير ذلك من الآلهة والأصنام التي عبدها العرب وانتشرت في شبه الجزيرة العربية، وقال آخرون إن "إيمان العرب بالله إيمانا يفسرون به الخلق والحياة... تفسيرا يُلغي الأسطورة والوثنية والكهانة من جذورها"(8).

وهذه حكاية وردت في كتب السيرة والتاريخ و توضح بجلاء الطقوس الوثنية وعادات العرب وهي أحداث قريبة من فجر الإسلام، جاء في كتاب الأصنام، لابن الكلبي "كان من عادة العرب في الجاهلية أنه إذا أراد أحدهم قضاء أمر لجأ إلى القداح فضربها، فإن خرج قدح بنعم مضى إلى غايته، وإن خرج بلا عدل عن المضي فيه .. وقد أُثر عن عبد المطلب جد الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قال: لئن ولد لي عشرة أبناء ثم شبوا وأصبحوا، بحيث يمنعونني لأَنحرنّ أحدهم عن الكعبة، فلما حقق الله سبحانه وتعالى أمنيته أراد أن يفي بنذره، فجمع أبناءه عند هبل، وطلب إلى صاحب القداح أن يضرب عليهم، وأعطى كل واحد منهم قدحا فيه اسمه، ثم ضرب صاحب القدح، فخرج قدح أصغر أولاده عبد الله بنعم، وأراد عبد المطلب أن يضحي بابنه عبد الله على كره منه، إذ كان يؤثره على سائر أبنائه، فحالت قريش بينه وبين ذلك، وأشاروا عليه بأن يسير إلى عرافة: فإن أمرته بذبحه فعل، وإن أشارت بغير ذلك عمل بمشورتها، فلما قص عبد المطلب على العرافة خبر ابنه، قالت له، كم الدية فيكم؟ قال: عشر من الإبل، ثم اضربوا عليه وعليها بالقداح، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم.فإن خرجت على الإبل فانحروها عنه فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم، فعاد عبد المطلب إلى مكة، ولجأ إلى صاحب القداح، فكان كلما ضرب بقدح خرج على عبد الله، فزاد عشرا من الإبل، فخرج القدح على عبد الله أيضا، وأخذ عبد المطلب يزيد الفداء عشرا فعشرا حتى بلغ المائة، فخرج القدح على الإبل، فنحرت ثم تُركت لا يُمنع عنها إنسان، وهكذا افتدى عبد المطلب ولده عبد الله"(9).

هذه الحكاية وردت في سيرة ابن هشام أيضا مع اختلاف في الصياغة، ولا شك أن الحكاية السابقة فيها جوانب أسطورية عديدة، تعكس واقعا عربيا حيا من طقوس وشعائر دينية، وما الأساطير إلا حكايات عن الطقوس والشعائر والعبادات، وقد تحدث الدكتور يونس لوليدي عن الشروط الموضوعية التي تسمح بنشأة الأساطير في مجتمع ما وهي:

"وجود ديانة ما في المجتمع..، انفتاح هذا المجتمع على حضارات أخرى، قيام نظام في هذا المجتمع على أساس أعراف ونظم ومؤسسات"(10).

بخصوص الشرط الأول: فقد عرف العرب الدين الوثني كما بينت سابقا، وديانات أخرى، كما انفتحوا على حضارات مجاورة كالفرس وغيرها، وتأثروا بمختلف الثقافات وهذا ما سمح بالتلاقُح الثقافي ودخول مجموعة من الأساطير والإسرائيليات، وكانت للعرب مؤسسات وأعراف وتقاليد كما تبين من خلال الحكاية السابقة.

أخلُص إلى أن العرب كباقي الشعوب عرفوا الأساطير بمفهومها الأنتروبولوجي الذي هو حكاية، ومن ثم "فالأمة العربية عالجت شؤون القصة، وتفاعلت مع فنون الأسطورة.. وكانت لهم قصص وأخبار تدور حول الوقائع الحربية، وتروي أساطير الأولين، وتتحدث عن الزهرة وقصتها مع هاروت وماروت، .. والآلهة وأبنائهم، .. ونوادر الكهانة .. والقصص التي تحكي عبادة البرق والجن والملائكة .. وغير ذلك من عجائب المخلوقات، وغرائب الموجودات، وكلها طرائف وحكايات كما نرى تزخر بالقصص الأسطوري المُغرق المُغرب الذي يؤلف تراثنا العربي مادة خصبة ثرة من أدب الخرافات والأساطير"(11).

* * * *

الهوامش

(1) التهامي نقرة، سيكولوجية القصة في القرآن، ص 163.

(2) عبد الحفيظ عبد ربه، بحوث في قصص القرآن، ص 29.

(3) المرجع نفسه، ص 33.

(4) حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، ج 1، ص 69.

(5) المرجع نفسه، بالصفحة نفسها.

(6) نفسه، ص 71.

(7) نفسه، ص 71.

(8) أحمد موسى سالم، قصص القرآن في مواجهة أدب الرواية والمسرح، ص 126.

(9) نقلا عن تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، ج 1، ص 69–70.

(10) المرجع نفسه، ص 95.

(11) عبد الحفيظ عبد ربه، بحوث في قصص القرآن، ص 29-30.