الشطر الأول من العنوان هو عبارة نشاز ستجرح طبلات أذان كثيرة ، أما الشطر الثاني فهو مقطع موزون مريح، فالكلمتان في الشطر الأول يبدو وكأن بينهما عداء تاريخي، بينما الكلمتان في الشطر الثاني من العنوان متناغمتين بهما قدر كبير من التصالح اللفظي، كما أرجو ألا يظن القراء أن الطرح هو مبحث في العلاقة بين الإسلام والموسيقى، فلا علاقة بين الإسلام والموسيقى فهناك قطيعة تاريخيّة، وللانصاف لم يكن الإسلام كدين هو السبب في هذه القطيعة، لكن السبب كان في بعض أتباعه الذين قرروا قطع كل صله له -أي الإسلام- بالإنسانية حتى يتمكنوا من تشكيل عقيدة على هواهم، عقيدة جديدة تتفق مع طبيعتهم المتحجرة، طبيعة الصحارى الجدباء حيث لا مجال لأي تواصل إنساني، فالصراع في البوادي قائم على مبدأ الاستحواذ على البئر والأنثى، البئر لنعيش والأنثى لنتناسل بغزارة. ولحمايته، حيث الماء لا يكفبنا معا، فإما أنا وإما أنت، وهو مبدأ لا يقبل نمو أي من الأحاسيس أو المشاعر الإنسانية التي جبلت عليها النفس البشرية، وهو عكس ثقافة سكان المناطق المطيرة أو دلتا الانهار وضفافها التي تعلي مبدأ أنا وأنت حيث الماء يكفينا معا، ومشاركتنا ضرورة حياتية لازمة للزرع والحصاد، وبالطبع هذا المبدا الصحراوي لا يقبل ولا يسمح بنمو أي نوع من العوامل المساعدة التي تغذي روح الإنسان وترقق احاسيسه ومشاعره، حيث يشكل ذلك خطرا على القبيلة ويهدد وجودها أو هكذا يعتقدون، وعلى رأس هذه العوامل هي الفنون والاداب، وعلى رأس هذه الفنون والاداب هي الموسيقى، وهي الفن الازلي الذي خلق مع الإنسان كفطره، الإنسان الذي يولد بأوتار في قصبة يستطيع بها تغير طبقات صوته وتنغيم مخارج ألفاظه.
وبينما ذكر المزمار والقيثار والأرغن وذوات الأوتار في كتب اليهود المقدسة، وأصبحت الموسيقى والألحان طقس كنسي أصيل في المسيحية، لا يسمح فقهاء الموسيقى في الإسلام سوى بالدف وطبول الحرب، فما عداها مجون وخلاعة وسامعيها وعازفيها زنادقة، ورغم كل تلك المحاذير وعلى مر التاريخ لم يستطع أحد منع الناس من تذوق الموسيقى والاستمتاع بها لسبب بسيط: هو أن كل ماقاله وابتدعة هؤلاء يصطدم مع الفطرة الإنسانية، وكل ما يصطدم مع الفطرة الإنسانية يتآكل مع الزمن مهما كانت قوة النصوص ومصادرها، والتاريخ يذكر كيف هاج الرعاع وماجوا على ملك سعودي ألغى الرقيق واتهموه بتحريم ما حلل الله ، ثم اغتالوه بعد ذلك والحقيقة انهم انتقدوه، لأنه استشف الصدام الحتمي القادم بين هذه التأويلات الفاسدة وبين الطبيعة البشرية وفطرتها المطبوعة على شريطها الوراثي منذ فجر التاريخ، وهي الحرية وحب الفن والموسيقى والسرد والشعر والنحت وهي أدوات الجمال التي خص بها الإنسان دون سائر المخلوقات، لأنه الوحيد الذي يملك عقل يقكر ولنا أن نتخيل أن أسواق العبيد والجواري لازالت قائمة في نجد والحجاز في القرن الواحد والعشرين.
هؤلاء الذين دمروا العلاقة بين العقيدة والفطرة الإنسانية كان هدفهم الاسمى هو تحويل البشر في هذه المنطقة إلى شعوب مستعبدة منهكة جهولة فقيرة لا نصيب لها من منتج العقل البشري وابداعاته، حيث تصبح هذه الشعوب مجرد قطعان تساق بفرقعات السياط، سياط نصوص وفتاوي تلهب ظهورهم عند أي محاولة للتواصل الإنساني، ولا يوازي العداء للموسيقى سوى العداء للنحت، فكما عبارة الموسيقى الإسلامية هي عبارة نشاز كما اسلفنا فمصطلح النحت الإسلامي هي عبارة أكثر نشازا تضرس الاسنان، فاذا كان العداء للموسيقى هو عداء معنوي لشيئ موجود في الوجدان فالعداء للنحت هو عداء لأشياء مادية شكلتها وجسدتها الموهبة الإنسانية، وأصبحت مظاهر عظمة وجلال لحضارات انسانية خلدها التاريخ بفضل النحت باعتباره من أكثر الفنون مقاومة لعوامل تقادم الزمن.
نعود الى الموسيقى الإسلامية ونشيدها القومي الجديد صليل الصوارم، أي أصوات السيوف تضرب الأعناق، ومن بستمع يعرف الفارق بين الموسيقى التي تريح خلايا الإنسان وتهدهد مشاعره وتجدد الأمل في الحياه، وبين مناحات الموت الجنائزية القادمة من عصور البداوة السحيقة التي تخلص منها معظم البشر، إلا هؤلاء الذين ظللوا قابعين في تلك الحقب المظلمة ممسكين بسيوفهم لا يطربهم الا صوت الصليل ولا يريحهم إلا منظر الدماء ولايمتعهم سوى رائحة الموت.
وتمزقت أرواح مليار من البشر بين هؤلاء الدعاه المدلسين الذين احتكروا الدين واحتقروا المشاعر، وبين النزعة الإنسانية التي تطرب للموسيقى وتستريح للجمال وتهفو للفنون بكل أنواعها، وأصبح الإنسان في هذه البقاع المنكوبة من العالم مشوش يسمع الموسيقى وكأنه يرتكب جرما، ويستجدي فتاوي كاذبة لعله يجد بعض الهدوء لنفسه المعذبه، أما من يمارسون هذه الابداعات فتعرضوا لأساليب دنيئة كي يتوقفوا –ويتوبوا- وتحت ضغوط موجات هائلة من الترهيب والترغيب اعتزل كثيرات وكثيرون، أما محاكم التفتيش فكانت من نصيب الادباء والشعراء، وانهارت السينما وأغلقت المسارح، وأصبح صوت صليل الصوارم هو الموسيقى التصويرية لهذا المشهد العبثي، مشهد احتضار أمة جمدوا تاريخها عند حقبة الصراع على البئر والانثى حقبة قطاف الرؤوس والتصبيح لجلب الغنائم ثم الاحتفال على صوت الدفوف وطبول الغزو.
هذه هي مأساة بشر تحجرت مشاعرهم وخاصموا البشرية قاطبة، وكانت النتيجة الحتمية أن التاريخ تجاوزهم وتركتهم البشرية يمارسون هواية القتل الصحراوي، يمارسونها فيما بينهم يقتلون بعضهم بعضا في سوريا وليبيا واليمن والصومال واافغانستان والعراق على أنغام صليل الصوارم، أما شوبان وفاجنر وبتهوفن وسيد درويش وعبد الوهاب وأم كلثوم فسوف يكافئهم الخالق على كل نغمة أدخلت بعض من السرور الى أي نفس بشرية ، فتلك هي أم المقاصد الالهية نفوس محبة راضية متصالحة مع النفس ومع الغير أما تلك النفوس الحائرة الكارهة المبغضة فمآلها بئس المصير.