عــبور
بحكم التمرس والمغامرة، والعشق الأبدي لجمالية الفعل المسرحي، رغم انجذابه لسحر وعوالم السينما حاول الأخ الزبير بن بوشتى أن يصنع موقعه في المشهد المسرحي، ككاتب له رؤيته وتوقفاته خارج سياق التيارات والاتجاهات المسرحية، محاولا قدر الإمكان بأسلوب دهائي وتقني أن يكشف ويقدم للقارئ/ المتلقي بعض من عوالم مسكوت عنها، مفوضا دونما ادعاء للقارئ/ المشاهد، تأطيره وتصنيفه، وخاصة أن أعماله، تلامس وتحايث البعد السينمائي بشكل غير مباشر، عبر الصورة والتقطيع، وهاته النقطة تستحق الانتباه، في نصوصه المسرحية، بحيث برزت بشكل واضح في "ياموجة غني" إضافة أن تقنية (التبئير) تحتل موقعا متميزا، خاصة أنه يساهم في تحقيق تداولية الخطاب بشكل سلس، خطاب متعدد الأوجه: لغوي بلاغي صوري، لكي نكون أمام قصة مسرودة من طرف شخوصها، يتداخل فيها (هو/ أنا) نتيجة تداخل الأيقونات وعملية الاسترجاع، التي تفرض تبئيرا خارجيا حسب تقسيم جيرار جنيت كنص "الآخطبوط" مثلا، لكن كان أقوى وأغزر في عمله الأخير "رجل الخبز الحافي". عمل استأثر بالانتباه لفنية خطابه، لأن هنالك خيطا رفيعا فرض سياق الاستحضار من ماضي الماضي المتفاعل في ذات الكاتب، تجاه بسطه للحاضر، ولاسيما أن كلا من الماضي والحاضر يؤثر أحدهما في الآخر، بشكل تفاعلي وكيميائي، وكل طرف يترك بصماته فيه، ولا يمكن بأي حال أن يفهـم أحدهما إلا على ضوء الآخر (الكاتب/ المنكتب) من خلال تصوراته ومعطياته ومساره التاريخي وثقافته.
* * * *
شكري الغائب الحاضر
يعد الحضور والغياب، سيان بالنسبة لأي مبدع، باعتبار أن ذاكرة الآخر في عدة لحظات تعيد استحضار الغائب للحاضر، وخاصة في لحظة البوح أو الاستشهاد أو سياق الكلام، وبالتالي فاستحضار الكاتب محمد شكري بصور وذكريات متعددة المشارب والاتجاهات، وبالتالي هل استحضاره عربون وفاء، بحكم أنه عايشه في فترة معينة من الزمن؟ أم استعادة لروح مدينة طنجة على حسابه؟ أم لتفعيل مؤسسة محمد شكري بعد مرور عشر سنوات على رحيله؟ هـنا فموضوع الاستحضار في منأى عن تلك التساؤلات أو غيرها، بل هو انعكاس مضمر لشخصية الكاتب الزبير بن بوشتى في شخصية المستحضر (محمد شكري) كيف ذلك؟
بداهة النص الفني لا يتعدى كونه انعكاس لما يحيط بالإنسان من واقع معاش ومعيش، وما يحمله ذلك من شمولية في ما يفرزه الواقع الاجتماعي والفكري، وبالتالي هناك بعض القسمات في حياة الكاتب، يستحضره كلما استحضر معاناة ومسار محمد شكري الطفولي، تلك الطفولة المغتصبة والشقية، أو إن صح التعبير طفولة لا ملامح لها، إذ لا يسمح المقام هاهنا بسردها، بل ما يمكن الإشارة إليه حاليا أن الزبير لم يعش طفولة مفروشة بالورود والياسمين(؟) وانخراطه في عوالم الإبداع ليس نزوة أو شهوة بل ضرورة(؟) وبالتالي فالنص صيغته مزدوجة الاستحضار كرهان ضمني لتفاعل ذات الكاتب بذات المكتب عليه، لآن تأثيرَ الماضي في الحاضر مسألة لا نقاش حولها وذلك لمنطق الظاهرة، ولا مجال للشك أو التشكيك فيها، ارتباطا بالماضي الذي يعيش فينا، وهو الذي يشكل منطلقاتنا وشخصيتنا، ولا يمكن أن يتجرد المرء من ماضيه، كيفما كان، مقابل هذا فالحاضر بدوره يؤثر في الماضي، من خلال المعطيات المعرفية أو الإبداعية، وخاصة ندرك عالم شكري ذاك العالم الهامشي الذي يسلط من خلاله، عوالم الليل وما تخفيه المدينة وراء ضجيج النهار، عوالم مسكوت عنها، ولكن مالا يعرفه الآخرون عن الكاتب الزبير بن بوشتى عاشق ومهووس بالعالم السفلي، إلى حد الإدمان (الهادئ) فمن هـذا الموقع، حتى لا يكون هنالك إسقاط فـج وسلبي، بينهما في عشق العالم السفلي، فأفضل أسلوب يمكن نهجه، توظيف (الراوي) ليكون حضور التبئير الخارجي الذي يغيب ذاتية الكاتب لتتمظهر موضوعية الطرح، حاضر بقوة في النص، وهنا يكمن الدهاء الإبداعي، وإن كان الإبداع مرتهنا للخيال، يمكن أن أقول بأنه مرتهن كذلك بعملية حسابية مدروسة، مادمنا نلاحظ أن (النص) عبر الاضاءات (التسع) صاغ بؤرة، مدخلها الإضاءة الأولى، والتي كانت تعبيرية في تحديد معالم المكان والزمان (مقبرة) بدون هوية، وساخرة بعدما تم تحديد القيم أو المحافظ عليها (امرأة)، وثانيا أن الراوية (امرأة/ ميرودة) وهذا يفرض نقاشا مختلفا، ومجانيا عما نهدف إليه في هاته القراءة، لكنه يعطي مدخلا ملتبسا، ويزاد التباسا في كل إضاءة، إضاءة تبدو خارجة عن (شكري) الشخصية المحورية عن (الراوي/ الكاتب) (الزبير) الذي بموضع نفسه كملاحظ خارجي الذي يقدم لنا أنه يعرف أقل من الشخصية التي يحكي عنها، رغم ماهـو متبث في (مقدمة ع المجيد الهواس): مايستقبله كاتب النص من المشترك اليومي والمعرفي مع الكاتب الذي يتحدث عنه في مسرحيته، لينتج نصا قوي الـرمزية داخل لغة تركيبية، تصنع حدثها الخاص وتتفرد به(ص5) طبعا هناك تفرد، لأنه ركز بذلك على الوصف الخارجي، للأحداث والفاعل فيها، بحيث يقدم لنا شخصية متلبسة بالحاضر دون تفسير لأفعالها أو تحليل لمشاعرها وأفكارها. مستخدما ثقافته وعلاقته الخاصة بنصوص شكري تحديدا "الخبز الحافي" و"زمن الأخطاء" ليعيد تشكيل بناء هذه الشخصية الإشكالية.لإشاعة جو من التشويق وإحاطته بالغموض، لنكون أمام نزعة سلوكية، والتي يذكيها كاتب النص بالقول: لفهم طبيعة هذا الصراع، إنه غوص في ذاكرة، قراءة لنفسية، معالجة لشخصية شائكة(ص7) بحيث المجال النفسي كان حاضرا بقوة، من خلال توظيف(الشيزوفرنيا) عمليا وبأسلوب فنطازي للشخصية المحورية (شك/ ري) ليتصارع (الماضي=الحاضر) من خلال شخصية (الطفل/ الكاتب) كأنه صراع بين شخصين (الوجه والمرأة) بغية من له أحقية الوجود الفعلي، ومن صنع الآخر (الماضي=مرحلة الطفولة الشقية) و(الحاضر=مرحلة الكاتب المشاغب) وبين المرحلتين، فذاتية الكاتب حاضرة برؤية أحادية وراء خطاب متداخل الأطراف في الإضاءة الأولى (ص12) «(لا أعرف ما يحفزني دائماً إلى التجوال في المقابر؟ أهـو سلامُها أم هي عادتي أيام نومي فيها؟ أم حبّا في الموت؟)» هل المتكلم السارد/ الكاتب أم المسرود/ الشخصية المحورية أو هما معا؟ فإذا ما تمعنا بأن (الراوية/ ميرودة) هي المتكلم هاهنا وتتعدد بتعدد الشخصيات والأدوار، والشخصية المحورية جزء لا يتجزأ من هـذا التعدد والفاعلة والمنفعلة في أن تجاه (ميرودة) فالمتكلم المنطلق بالنفي (لا) واستعمال المضارع بنفيه، وعلاقته بالتبيئر، نستشف ضمنيا ذاك الخيط الرفيع بين السارد/ المسرود، واستحضار بعض الأماكن التي كان يتردد عليها كلا الطرفين في فضاء (طنجة) التي تسكنهما، إلى حد الجنون، تلك الأماكن بعضها انمحى أو أغلق أوتحول إلى شيء أخر، وبالتالي فالتبئير الخارجي خدعة فنية، لتوظيف البعد الروائي في المسرحي، من حيث لا يدري، لآن المبدع (الزبير بن بوشى) لماذا وظف فقط "الخبز الحافي"، "زمن الأخطاء" كتيمات أساس للحدث والصراع، وأغفل استغلال بعض من "مجنون الورد"، غواية الشحرور الأبيض، "السوق الداخلي"، أو أهم فصول مسرحية "السعادة" التي تحمل أوجها متعددة لشخصية (ميرودة) والتي أعتبرها أفضل ماكتب الراحل محمد شكري وهذا موثق في إحدى ملاحق البيان الثقافي(1994) زمن نشرها، فإغفال أجزاء مهمة لمسرحية "السعادة" والاكتفاء بذكرها في "الإضاءة5" بين (الفيتنامي+ شك) عملية مقصود، لكي لا ينفلت التبيئر الخارجي عن موضعه، وعبره يضيع خطاب الكاتب في زحمة خطاب الشخصية، لأن البعد الجمالي للعرض يفرض عمليا، مسرح داخل مسرح الذي يركز أساسا على اللعب الذي يعطل أو يؤجل التبيئر، لكنه سقط في فخ مسرح داخل مسرح في "الإضاءة الخامسة"، فتحول التبئير إلى شذريات، وليس إلى إرساليات قوية المفعول وخاصة "كاليغولا" الذي له حكايات وحكايات في حانات طنجة وعند الراحل المسرحي (تيمد) لكن الاضاءات اللاحقة، سعت إعادة منطلق تـبيئـر الشخصية والراوي حسب مؤشرات النص.
خارج العــبــور
بداهة أي تناول إبداعي، هو اختيار وقناعة معينة، ويأبى المزايدات والوصايا من طرف أي كان، لكن ذاك الاختيار يفرض أسئلة تبدو مشروعة، وبناء عليه. لماذا تم استحضار شكري ولم يستحضر محمد تيمد الذي عاشره فنيا ومسرحيا، قبل صداقته بشكري، علما أن (تيمد) حضر بين ثنايا النص، في "الإضاءة الخامسة".
- شك: هل تعلم أن تيمد كان يرغب في أن يسند لي دور كاليغولا؟
- الفيتنامي: ساخرا منه ولا، ولا، لا تبالغ! وحتى لـ كاليغولا، لا... كاليغولا طاغية دموي وأنت ما بينك وبين الدم غير قرعة د الروج (قنينة نبيذ أحمر) التي كنت تقتسمها مع تيمد(ص44).
وهاته حقيقة، أدت فيما بعد إلى انفصال وقطيعة بينهما، لإعادة كل طرف تشكيل بطانته الليلية، وبالتالي فالاستحضار له أسبابه، انطلاقا من فك شفـرات "الإضاءة5" كما وضحنا لجزء منها وجزؤها الآخر في تحديد هوية (الفيتنامي) رغم أن (ص46) تشير: كيف تريدينه أن يتعرف علي، وقد جئته في صفة صديقه الفيتنامي؟ فعلامة السؤال إجابتها(؟) تكمن في مركبات النص الكلي، الحامل أساسا ما في ماضي الكاتب من شبه تقاطع مع المستحضر في الحاضر، إذ هناك اعتزاز للذات، وتقدير أو تقديس لكاشف ما في بالذات، وبالتالي هل الاستحضار عشقا (فيه) أم تقديسا (به) أم وفاء (له)؟ كل ذلك حينما ينتهي النص بصرخة أو صيحةً "علينا أن نضع له تمثالا عوض أن نـحفر لـه قبراً" (ص79) فهاته الصيحة تنساق وراء ما كان محمد شكري يرفضه، بأن الكل يعتبره -كظاهرة وليس كقيمة أدبية- فهنا يسقط خطاب النص في المثالية والذرائعية البرغماتية.