بروايتها الفريدة تقدم محررة (الكلمة) في هذه المواجهة/ الشهادة مسيرة فنان سوري مع الرسم وتشكيل رؤيته الخاصة للعالم، وتسعى لأن تكشف عبرها عما كان يدور في الواقع الاجتماعي والثقافي الذي تشكل فيه وعي الفنان وتبلورت عبره لغته التعبيرية سواء في سوريا أو روسيا التي أكمل دراسته فيها.

نزار صابور بروايتي

كولاج من أول السيرة

أثير محمد على

مقدمة
هي بعض من ذكريات قديمة وحكايات غير منتهية أتركها بين يدي القارئ المهتم.
أثناء عملية إعداد وكتابة مقابلاتي التي أجريتها في دمشق مع الفنان السوري نزار صابور (1958-)، حاولت إعادة تركيب وترتيب ومونتاج ما تركه لي في آلة التسجيل من تفاصيل حكائيّة عن حياته، لإدراجها في نص يحاول السرد، وهو يتغيّ
ا معرفة نزار صابور الإنسان، والرسام.

حينما أعود للتأمل والإصغاء لسرده أشعر أنه رغب في مقاربة العلاقة مع حدوث وقضايا وشخصيات من محيطه "موضوعياً"، إلا أن للذاكرة فعلها الذي يمارس غوايته على السارد نفسه، فنراه ينجذب إلى أزقة جانبيّة تعمل على تشظية هيمنة الموضوعي المفترض، وتترك حبائل الحكي على أهوائها الذاتيّة، وتصوراتها لمواطن الإثارة ومخبآت السنين والتوهم في الذكريات المستعادة. ولن أكون مبالغة بالقول أن النص الذي أعددته أشبه ما يكون ببوح يستعيد فيه الفنان ذكرياته ويقص بعضاً من سيرته الأولى المتواشجة مع سيرة المكان: البيت، الضيعة، المدينة، الحارة، اللوحة.

قسمت النص إلى مقاطع يطال كل منها ملمحاً من ملامح الفنان، الأمر الذي يساعد على فهم تطور شخصه وتكوينه الفني منذ الطفولة ومرحلة الشباب الأولى في مدينة اللاذقية، إلى بداية دراسته الأكاديمية في كلية الفنون الجميلة في دمشق عام 1976، لحين سفره إلى موسكو لمتابعه تكوينه الفني سنة 1985 وهو التاريخ الذي يتوقف عنده هذا النص مع الأمل على متابعة الحكاية لاحقاً.

ثمة، بالمقابل، محاولة منّي لتغيب أو تقليص حضوري في النص اللقاء، بغية ترك كامل مساحة السطور لبوحه السردي دون مقاطعة مني بالسؤال المعلن. واقتصر وجودي على بداية النص، أو تسميتي من قبل الفنان بين الحين والآخر، بينما تركتُ تعليقاتي وآرائي مدرجة بشكل غير مباشر في نصه الكلامي، ونقلت مشهدية ما رأيته من تعابير وانفعالات وسكنات نزار صابور إلى سياقات النص، وحمّلتُها على كاهل علامات الترقيم والتراكيب اللغوية السردية من نعوت وظروف تضيئ الحالة المرئية التي شهدتها.

أخيراً وكما أشرت، هي بعض من ذكريات قديمة وحكايات غير منتهية أتركها بين يدي القارئ المهتم.

* * * *

كولاج من أول السيرة
وأغرب من ذلك، أني استيقظت..
لعلي سردتُ ما سأحكيه لكِ يا أثير في مرات سابقة .. كما لو أني أسافر بعيني إلى نفس المطارح!!
رانَ صمتٌ قطعه مكبر صوتٍ أتى من وراء النافذة. أصختُ لنداءات الحملة المتنقلة للتلقيح ضد شلل الأطفال المتفشي مع ضراوة العنف على أرضنا السورية، وحملقتُ في الصوت المُكَبر وهو يدعو الجيران للمبادرة إلى تلقيح أولادهم عند رصيف الصيدليّة، مقابل دكان "السيروان" في الحارة.

تبدّى العالم الخارجي في أقصى نزيفه، وهو يطرطش حوارنا بأسى مجرب وبقع لونيّة مضطربة. وكأيوب من عهدٍ قديم، التقط نزار صابور ما أصابنا، ورفع وجهه بسيمياء شفقة رحيمة عليّ:

-       علينا أن نستعيد براعتنا في تخزين الحياة.

شخصَتْ في ذهني لوحته المعنونة "شاهدة قبرية"، والمعلقة على الحائط خلفنا، كأنها تحثني لأجرجر الزمان ومتابعة الكلام. ولوهلة خرجَتْ السماء وعادَتْ لصفائها، وشعرتُ بقدوم الأوقات الضائعة المسروقة من قبرنا السوري المفتوح. تعكزتُ على صوتي، وتعكزَ نزار صابور على بحةِ صوته وعدنا إلى ترميم ما انقطع في فراغ الغرفة.

تراءَتْ له معالم وجهه، وبدأ يضعها على الطاولة الصغيرة أمامي:

- حينما أنكفئ على ذاكرتي أحاول أن أستعيد منها ما يمكن أن يكون شريطاً متواصلاً برباط لا تنفصل عراه، فإنها تظهر أقسى ضروب العنت والقسوة، ولا تنحسر إلا عن حلم موهوم، وضبابة غبشة المذاق فأغض الطرف عن قسوتها وسرابها وأتركها لحالها وموحياتها.

في حقيقة الأمر، لا أدري ما الذي يتعين علي تذكره يا أثير!!

حسناً، فدوى صابور، أختي، أكبر مني بعشر سنوات كانت ترسم .. ربما هي من أوائل النساء الرسامات في اللاذقية. هيدا الحكي في الستينيات. كان لديها صديقة من آل رشّو. وكنت ذلك الطفل بعمر ست سنوات وقت كانتا تذهبان للمركز الثقافي القديم قرب ساحة السمك لقضاء الزمن بالرسم. كانت فدوى تأخذني برفقتها، تمسكني بيدها، أعبر معها الشوارع، ونجتاز أرصفة تتلبسها رائحةٌ سمكيّةٌ نفاذة. ربما كانت أختي ترافقني لأن الأهل لم يسمحوا لفتاة في غاية الجمال أن ترتحل بمفردها في الفضاء العام آنئذٍ، وربما لسبب آخر أجهله هذه اللحظة كما حينها. كنت أستمتع وأنا أراها كيف تشتغل، وكيف تتفتح الألوان من بين يديها وهي توغل في المسالك الخفية للرسم، تمتلك المرأة المتوقدة في عروقها كما أعتقد الآن. هو نفس المركز الثقافي الذي داومتُ عليه في المرحلة الثانوية ألتهم فيه ما تيسّر لي من كتب مرصوصة على أرفف مكتبته المهمة.

أعتقد أن مراكز الفنون حين بدأت في سورية كانت تتواجد في المؤسسات الثقافيّة في المحافظات المختلفة، ولهذا السبب كانت أختي فدوى تذهب للرسم هناك في الغرفة المخصصة لذلك، كما لو أنها "غرفتها الخاصة". وفي بيتنا أذكر أنها كانت تنسخ من بطاقات بريديّة رسوماً لبيوتٍ وغابات ووديانِ أنهار، أبصرت الروعة فيها عند تلك الأحايين. تصاويرها هذه كانت تحطّ الدهشة على مدارج مخيلتي آن طفولتي النائية.

- اعتقدوا، أقصد أصحاب الرأي والمشورة من الأساتذة، أنني فنان حينما كنت في الصف الرابع الابتدائي، ولا أدري مبرراً لذلك في هذه الدقائق. وطلبوا مني أن أرسم لوحة، وللذهول الذي اعترتني أمام أمرٍ جلل كهذا لجأت لابنة عمتي، فرسمَتْ لي تنوراً متوقداً بشخوص تحيط به، وسلّمتُ اللوحة وعُرِضت باسمي. هي بقيّة ذكرى لا أنسى الاعتراف بها أبداً.

وفي صف الرسم للأستاذ كاسر أسعد كنت الطالب الوحيد المهتم من بين بقية التلامذة. كنت أشارك برسم لوحات كبيرة نسبياً وأشدّها على الخشب بعد أن علمتني فدوى كيفيّة القيام بذلك. وفي صف التاسع أو العاشر كنا نرسم ضمن نطاق لجنة فنيّة بعد انتهاء الدوام المدرسي في الصالة الرياضيّة في ثانوية "جول جمّال". أذكر أن الأستاذ كاسر أسعد أعطاني مرة بطاقة بريدية لطبيعة صامتة وقال لي:

-       ارسمها بالبيت وجيبها!!

تشربت عيناي كل مرتسمات البطاقة. ونسختها بشغف شديد، بكل ما فيني من شغف أقدر عليه وقتئذ، وسلمتها للأستاذ.

-       أختك رسمتها لك؟!!

كان رد أستاذ الرسم كاسر أسعد.

لم أنـس بحياتي تلك العبارة الضيقة .. أسمع دلالاتها المتسعة وهي تنسرب من البعيد البعيد دون أن يعتريها الصدأ.

من يومها أدركني الوقت وبدأت فعل الرسم حقيقةً. ففي كل يوم جمعة كنت أحمل على كاهلي سيبة رسم بدائيّة بثلاثة أرجل أعلق عليها لوحة، وأركبها على ضهر الميكروباص، وأعبر بها الضياع، أرتقي الطريق من الصنوبر إلى سقوبين، الشلفاطية، منجيلا، بحالو وغيرها من القرى الساحليّة، ويدوي صدى تزميرات الميكروباص المترنح في أذني وفي السهول المسترخية.

كنت أرسم أسبوعيا، ولكن كيف كنت أرسم؟!! هو ما أسأله لنفسي؟

- شاهدت الطبيعة الريفيّة مشربة بغنائيّة متعالقة مع مرابع رعوية، ودون أن تغيب عنها مؤثرات من كتبٍ فنية أحضرها لي أخي الكبير من روسيا، بعد عودته من دراسته (من سنة الـ63 إلى الـ70) للبلد بزوجة روسيّة وطفل، كما أحضر لي سيبة رسم جديدة وألوان.

حينها، شدني كاتلوك الفنان الأرمني السوفيتي مارتيروس ساريان (1880-1972)، الذي كان يعتمد على مساحات لونيّة واسعة. فأخذت أرسم بتأثير مباشر منه دون معرفة تقنيّة محددة، ولا خبرة بالحياة، فقط كانت الألوان معي ومنعطفات مشهديّة الحواكير والأحراش أمامي .. وأتركني على هواي!!

وهكذا انقضت سنوات المرحلة الثانوية الثلاث. آآآآ صحيح بالـ 73 حين كنت في الصف العاشر سجلت في مركز الفنون، وفيه التقيت بعبدالله الحلو (الله يذكره بالخير!!). تستطيعين أن تشاهدي فيلماً على اليوتيوب سجلته لي مؤسسة لندنيّة في مرسمي في اللاذقية، أذكر فيه فضائل عبد الله الحلو عليّ.

- حسناً، أكرر ما حكيته في مناسبات سابقة وهو طالع من القلب. فيما لو كانت لي فضائل فاثنتان منهما تعودان لعبد الله الحلو: "احترام الوقت" و"الحب". بالحقيقة، لا أدري مالذي يعنيه تعبير "الفضيلة" بالمطلق؟! إلا أن احترام الوقت اشتبك في تفاصيل يومياتي. كنت أذهب إلى مركز الفنون التشكيليّة لحضور درس الساعة الرابعة بعد الظهر، وأحرص على الوصول قبل ربع ساعة من الموعد المحدد، ودائماً ألتقي بعبد الله الحلو بمحاذاة الباب ينتظر الآذن ليفتحه لنا. انتظاراته هذه كانت درساً دالاً طبع تلاعبي مع الوقت، وتقدير قيمته في الزمان والمكان طوال حياتي، حتى أنني أعيّر المنبه للاستيقاظ الساعة السادسة صباحاً، وافيق حوالي الخامسة انتظر موعد رنينه لأبدأ صباحات نهاري وليلي.

أما فضيلة "الحب" التي أدين بها أيضاً لعبد الله الحلو فرسَتْ في نفسي إلى أن انفلت دفقها. عبد الله الحلو كان يحب كل الناس، ويشدد على تعليمنا "الحب"، وتربيتنا على حب الآخرين دون غرض أو غاية.

بعيداً عن المرجعية المسيحيّة لقول المحبة: "أحبوا أعدائكم.. أحسنوا إلى مبغضيكم.. وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم. لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات"، الحب هو حس وفعل عظيم لدى البشر.. حب كل الناس واحترامهم.

في بداية الأمر، تحفّظ عبد الله الحلو على شغلي التصويري، حتى أنه لم يرق له في الأشهر الأولى، كان يراه تزينياً زخرفياً بمساحات لونيّة خاوية من العمق، ولعل السبب يعود لمؤثرات ما من ساريان على دخيلتي الفنية، مع التشديد على أنني لم أنل أي تعليم، أو توجيه فني محدد، رغم مثابرتي على الدوام في مركز الفنون.

أما الدروس التي تلقيتها ورفاقي الشباب على يد الأستاذ عبد الله الحلو فكانت نظريّة، تستبين الحالة النفسيّة ومؤثرها على منجز الفنان. كان يحكي لنا على سبيل المثال، إضافة لمعنى "الحب"، عن علاقة فان كوخ المتوترة مع محيطه العائلي والتي دفعته للرسم، ووجدت صداها في تشكيل الأغصان الحادة المنحنية إلى ما هنالك من حكايا. ما أريد قوله أن تلك الحصص الدرسيّة كانت تدور حول انفعلات نفس الفنان مع محيطه وعواطفه وانعكاس ذلك على مساحة اللوحة. ولم تكن دروساً تقنية حول كيفيّة التنفيذ وتقنياته بأي معنى من المعاني، ولذلك بقيتُ حرّ نفسي الفنانة وشغفي دون مهارات مدرسيّة تذكر، إلى أن انتسبت إلى كلية الفنون الجميلة، قسم الرسم والتصوير، والواقعة في "ساحة التحرير" في دمشق، بعد أن تقدمت لمسابقة القبول سنة 1976.

بتعرفي يا أثير!! يومها ربطت كفيّ بشاش أبيض مخافة أن يصيبهما جرح، أو أذى يعيقني عن تقديم امتحان المسابقة. الآن عندما تصدى مخيلتي بذلك الخوف الداخلي الذي اعتراني، أتعرف على مدى حرصي على تحقيق رغبتي، وتوجسي من أية حجرة عثرة تقف في دربي.

وكان ما كان، وحصلت على ترتيب الـ72 من بين الـ120 طالب متقدم للامتحان. أشير لهذا لأنوه لأمرٍ آخر، ألا وهو ترتيبي سنة التخرج (أيار 1981) جاء الأول على طلاب الدفعة.

- آآآ.. فاتني أن أقول لك أنني بنفس سنة الـ 76 قبل قدومي لدمشق للالتحاق بكلية الفنون الجميلة، كنت أقمت أول معرض فردي لي في اللاذقية، ومن بين الحضور اشترى الرسام زكريا شريقي لوحة ضيعة الصنوبر بـ 300 ل.س. ولا أذكر الرقم بسبب السعر بل لمعنى وقيمة لوحة تباع لي في المعرض. في حقيقة الأمر تلقيت تشجيعاً سابقاً من زكريا شريقي حينما أتاح لي الفرصة بالمشاركة في معرض جماعي أقيم في نادي المعلمين في اللاذقية لقناعته بموهبتي. هو نفس النادي القريب من مطعم اسبيرو، وكانت أبعاده تطال صخور الشاطئ وطفو الزبد، وأضحى من ماضي المدينة بعد أن سوي بالأرض تهديماً. هو نفس النادي الذي سألتني عن مصيره، وحدثتني عن باقيات ذكريات طفولتك فيه وزياراتك إليه برفقة جيل من عائلتك من مربي اللاذقية.

* * * *

وتسللت بيدي إلى أشياء اللوحة
- حاصله!! بالعودة لدمشق أذكر أنني شكّلتُ وبعض الصحاب، مع نهاية السنة الأولى في كلية الفنون، جماعة فنيّة أطلق عليها اسم "جماعة الثور". أما الدافع لاختيار هذه التسمية فله قصة.
كما تعرفين يا أثير، إن التجمعات الفنيّة المهتمة، مثلها مثل المجتمعات الصغيرة، تميل للتكاتف والتعاطف مع بعضها، وعليه مع نهاية السنة الأولى كنا تعارفنا نحن الطلاب، وبدأ بين من لهم ميول متقاربة إحساس بتألفٍ ومشاركةٍ ما. وقتئذ كنت أزور شاب من السويداء اسمه يحيى أبو سعده، وفي بيته اطلعت على رسوم أخيه الفنان فؤاد أبو سعده، الذي كان قد تخرج قبلنا بسبع سنوات عام 1971، وكان أحد الفنانين الأهم في سيرة الفنون التشكيليّة السوريّة، قبل تراجع قيمته الفنية لاحقاً لأسباب كثيرة يمكن أن أخوض فيها من وجهة نظري بالطبع. الآن هو في مدريد التي وجد فيها مستقراً له.

في بداية السبعينات اكتشف فؤاد أبو سعده عالماً بصرياً تعبيرياً خاصاً، اشتغل عليه حينها بمهارة فائقة، وكان تعرفي على منجزه الفني في محلة "السويقة" الدمشقيّة المتفرعة عن دوار "باب مصلى"، في غرفة طينيّة كان يسكنها فؤاد ويحيى أبو سعدة .. حتى اللحظة يحضرني دلف سقف الغرفة وقت تساقط الهطل، وترجيع ارتجاف جدرانها آن عصف الريح، وفي يوم، ككل الأيام، كتبت على حوار أحد حيطانها المتشقق: "توفي بيكاسو سنة 1973".

بالعودة لسبب اختيار تسمية جماعتنا، أشير إلى أن "الثور" كان واحداً من العناصر الفنيّة التي أكد عليها فؤاد أبو سعدة في رسومه، لعل لذلك علاقة ما بأسطورة محليّة منتشرة في السويداء كما يُحكى.

- وما بين "ثور" بيكاسو و"ثور" فؤاد أبو سعده جاءت "جماعة الثور" الشابة لتقول مرتسماتها ونقاشاتها الفنيّة الثقافيّة.

وأترك لك حرية حدسك، وإضافة مبرر تسمية الجماعة إلى "ثور" شهوة ديونيزية لا يمكن السيطرة عليها .. شهوة تقول أن السيطرة على الواقع والبحث الجمالي وممارسة الفن بمحض الوسائل العقلية غير كاف. وأتفق مع فهمك أن "جماعة الثور" استبطنت احتجاجاً ما على مظالم العرف الفني والمعايير المتعاليّة، وناصرت ضرورة الحماس للتجرية ونسبيّة القيم الجماليّة، وأعلت من النتائج الفنيّة التي تحدث بالصدفة، وتشبثت بحرية الاستبصار فيما يتعلق بقضية التجديد والتراث.

- تعوا يا شباب!! وجلسنا الأربعة: أنا، ويحيى أبو سعده، وعادل أبو الفضل، وعلي سليمان في آخر الأمر، وعقدنا أواصر صلة الجماعة عن وعي، بينما "الأمال الكبيرة" تسكننا وغرفة السويقة.

في دراسته المعنونة "نزار صابور، الإنسان .. اللوحة"، يذكر الناقد الفني سعد قاسم أن البعض خجل من تسمية "جماعة الثور"، فحولها لـ"جماعة النور" كاستبدالية أكثر لباقة، رغم أن ذلك يشكل تضاداً مع ما ينطوي عليه "الثور" من تشديد على بدئيّة روح محليّة في تطلعاتنا الفنيّة.

صمم لنا أفيش أحد المعارض التي أقمناها لـجماعتنا الوليدة أحمد معلا دون أن يكون من بين أفرادها، ولكنه كان من نفس دفعتنا، وكان بيننا نوع من التعاون. سأطلعك على الأفيش الذي صممه لنا سنة 1979، مازال ضمن محفوظات أرشيفي.

أول معرض أقامته "جماعة الثور" كان في السويداء، والثاني في الشام، والثالث في اللاذقية. ومن نشاطاتنا يحضرني حدث لست متأكدا من تاريخه، ربما سنة 1980، حين قمنا بعرض لوحاتنا وتعليقها على السور الخارجي لكلية الفنون الجميلة على مرأى من عابري الرصيف، لعل معرضنا هذا يلتقي كما تقولين مع الدعوة المعاصرة لـ"الفن في الشارع" وإخراجه من جدران صالات العرض المغلقة إلى فضاء اليومي الذي يشغله البشر ويعبرون منه وإليه.

- في أيار 1980 صممت نعوة كتلك الخاصة بالوفيات المسيحيّة، بالاتفاق مع زملائي في الدفعة سعد القاسم وفهد علواني: ("من أمن بي فسوف يحيا" .. ننعي اليكم نزار صابور .. في حادث أليم .. أخوته وأخواته ..) إلخ، وتخفيت على بلكون القسم أراقب ردة فعل متلقي نعوةٍ تحمل خبر وفاتي. ومشت لوعة الحيلة على الجميع تقريباً: ذهول ميلاد الشاعر وأسفه الشديد جعل التصديق يعصى عليه، أما صديقتي من دير الزور فوقعت مغشياً عليها، ورغم البلبلة التي ولّدها حدث موتي، فإن زوجتي نجاح حداد، زميلتي وحبيبتي أيام الكلية، لم تصدق وقرأت بحدسها نكتة غروتسكيّة مبطنة بين سطور الموت، ولعل مشاهدتها لي على البلكون وهي قادمة من جهة القصاع سهلت لها هذه القراءة.

هل كان اللهو بنعوتي هو المادة الخام التي نبهتني في سياق متقدم من العمر للوحات النعوات القبريّة التي رسمتها لاحقاً؟! لست أدري!!

- لمَ أسرد هذه المقتطفات؟! لمَ تنبثق في هذه اللحظة؟!

حسناً لنتابع، من بين الأساتذة كان لمفرد حضور فاتح المدرس أثره المميز على توجيهنا الفني، وكذلك نذير نبعة، وإلياس زيات، وخالد المز. أما لؤي كيالي (المتوفي سنة 1978) فلم يكن مدرساً في الكلية، أعتقد أنه مرّ على الكلية لفترة قصيرة، ولأسباب أجهلها لم تحصل مودة بينه وبين الكادر الإداري فيها، ولم يحتمل البقاء، باع كل ممتلكاته وسافر إلى إيطاليا التي كانت تغيرت عن تلك التي تعايش مخيلته، فعاد ليبدأ من جديد وبحالة نفسية غير مساعدة للتحقق.

- تعيديني يا أثير للنبش في صور الأصدقاء، ولحظات ظننت أنها رحلت مع تلك المرحلة .. لحظات من الإغراق في العشق وخلوات أولى، إلى إمكانات ذهنيّة مضادة للقيم المكرسة وتطال سقف "العجيب الغريب"، إلى التساؤل والشك في نواميس الإبداع العليا، إلى حالات يتلبسنا فيها شيطان الفن أمام "طواحين الهواء"، إلى سكرات لا حدود لها حتى ولا بالثمالة الأخيرة..

أذكر في أحد الأيام، جاء أحمد معلا إلى غرفتي الصغيرة في المنطقة الصناعيّة قرب شارع ابن عساكر، وكان يحمل غيتاره وأوج زعرنته على كاهله، وجلس يعزف يغني ويهوبر بينما كنت أرسمه وضاعت اللوحة .. شربنا ما تيسر من آيات السكر. الآن أتمنى لو أنني رسمت غيره من رفاق المرحلة، وقبضت على تلك اللحظات في تصاوير تفيض إلى راهنٍ يأتي دوماً، في الحين الذي نحمل فيه رحالنا ونمضي.

- أستطيع القول أن بوهيميّة من خبزٍ مغمس بزيت الزيتون كانت منتشرة فيما بيننا، وبعض الفنانين الطلاب كانوا يميلون لسلوك الـ extravagant، ولكني شخصيا لم أكن أميل لشطحات هذه التجليات السلوكيّة. إحساسي تجاه وضعي المادي المتواضع، وأمام الصعوبة التي تكبدتها عائلتي في اللاذقية لإرسال الـ 150 ل.س كي أتمكن من إتمام دراستي، ودفع إيجار الغرفة وشراء الألوان والكتب وكاسيتات الأغاني والأكل إلى ما هنالك من مصاريف .. تحمكّت بسلوكي وممارساتي، رغم ذلك سرعان ما كانت مخصصات الشهر تنفذ بسرعة، مثل كثير من أصدقاء الكلية. حسناً، فلان كان يستطيع شراء صحن فول لنتقاسمه، وعلان كان يشتري علبة مربى، وآخر رغيفي خبز.. أما الكتب فكنا نتناقلها بالاستعارة. وهذه البوهيميّة لم تكن غائيّة وتزينيّة وإنما فرضها واقعنا وموقفنا من العالم والحياة.

- تقاسمت وثلاثة من الأصدقاء، نحاتين ومسرحي، السكن في بيت في حي الأكراد في جبل قاسيون، تطلع إليه السيارات من مسرب ضيق، حتى النفايات كانت تجمع بالدواب، وبالطبع كنا نرتقي منعرجات الطريق مشياً على الأقدام. البيت كان مؤلفاً من ثلاثة غرف، توزعنا كل اثنين في غرفة، وبقيت الثالثة التي يصعد إليها بثلاث درجات خاوية، فخصصناها للاستحمام، نشعل البابور نسخن عليه الماء بالمواعين، ومن شدة برد شتاءٍ يقضقض العظام وينخر في الأوردة، كنا نبقى حوالي الشهر دون أن نخوض مغامرة الاستحمام، ولكننا كنا نذهب لحمام السوق وقت توفر مالٍ فائض بين الأيدي.

- رغم وقائع الفقر وطبوغرافية لامعقوله في أقاليم شبابنا، ولا يوم من الأيام كانت الهمة مثبطة ولا الرغبة ولا الشغف!! بالحقيقة أحب كلمة "الشغف" أراها بأم عيني التعبير الأجمل عن ذلك الالتهاب الداخلي للاشتباك بغمار الرسم ورائحته المتفردة التي لا تنام .. صدقيني صدقيني!! حتى لم أفكر وكثير من زملائي في البحث عن مبرر لفعل الرسم، وهذا يعيدني لمعنى "الحب" الذي رباني عليه عبد الله الحلو في شبابي الأول. اشتغلتُ لأشتغل. مرة قلت لصحفي في مقابلة أجراها معي، أنني مع استغراقي بالفن وتراكم العمل وسيروته، أضحيت فجأة ذلك الفنان المعروف، ولدي معارض، وأناس تتصل بي للعرض في صالاتهم، ولكني لم أخطط لذلك بشكل مبرمج أو ممنهج. حقاً هو ما حصل معي، كل شيئ مشى لوحده بلا ذرائعيّة ولا نفعيّة تحدد مساره، وفجأة أدرك وجود آخر ينتظر عملي الفني وأخباري. هنا كانت السعادة!! جانب من جوانب السعادة الممكنة!!

- حينما حان وقت تسليم مشروع التخرج، أعطيت غرفة قرب الكلية لأربعة أشهر كي أتفرغ فيها للرسم، لعلهم توقعوا بسبب تفوقي أنني سأنجز عملاً هاماً. تركت سكني في حارة اليهود، والذي كنت أتقاسمه مع علي القاسم ومصطفى علي، وأقمت في الغرفة الممنوحة، ولم أبرحها لأول مرة إلا بعد حوالي أربعين يوماً لحضور حفل لفهد يكن في "المركز الثقافي السوفيتي".

لازمت الغرفة وكلي انشداد وتحفز للتأمل والقراءة، وللانهماك في الرسم ليلاً نهاراً، أنقب في الأفكار والمخيلة عن مستقر ينفذ لكياني وتأمن له ذائقتي. وأممت وجهي شطر شرقنا القديم، أبحث عن أثر أو تركة وصلتنا وأدرجناها في مكوننا الثقافي على أنها فن شرقي نستطيع الحديث عنه بعيداً عن الشعائريّة الجامدة وصرامة اللياقة المتزمتة. في الحقيقة كانت هناك نقاشات وسجالات صاخبة على مستوى الكلية وعلى مستوى النقد الفني السوري حول هذا الموضوع، وتحت عناوين مختلفة منها قضية "التراث والمعاصر". وأحمد الله أن تلك الجدالات النظريّة مضت لحالها، ذلك أنها تموضعت في محض تنظير مفارق للإنجاز الفني الفعلي، والذي كان يتشكل بطرقه ورؤاه الفنية المختلفة.

في كل الأحوال، انتابني شعور أن الشام القديمة يمكن أن تمنح حواسي ووجداني ما أبحث عنه: واجهات المنازل، الأبواب الخشبيّة القديمة، الكتابات العفوية المتبقية على الحيطان، المشريبات التي يدفق منها النور .. وانصب اهتمامي على محاورة شامنا، ومناداة أشيائها ووجودها المتحقق غير المرئي، وحاولت تحريرها من النظرة السكونيّة والمحافظة للتراث والإعجاب السياحي، فأنجزت عدة أعمال فنيّة وضعت عليها بصمات سلوكي التشكيلي، إلا أنني لسبب ما، لم أستطع تحديده آنئذٍ، عدلت عن تقديمها لمشروع التخرج، وسرت باتحاه آخر غرقت بمخبآته الآتية.

أعتقد أنني أول فنان سوري أنجز لوحات لأبواب دمشق وواجهات تحمل قصديّة فنيّة جماليّة واعية، ولا تعبأ بالتصوير المادي المباشر بقدر ما تهتم بترجمة التفاصيل بلغة إيحائيّة رمزية. واليوم توجد هذه المجموعة الشاميّة، التي كان من المفترض أن تقدم لمشروع تخرجي، في صالات عرض خاصة في موسكو.

مع مرور الوقت على تلك المحاولات، أستطيع أن أفهم ما أعتراني بوضوح أكثر، وأفسر دوافعي لإزاحة مجموعة الشام القديمة كمشروع تخرج لي، وأعني هنا "ملحمة جلجامش" التي برزت من بعيد شيئاً فشيئاً، إلى الحين الذي دخلت فيه حياتي.

في معرض الحديث هنا لا بد أن أشير لتأثير الموسيقي السوري عابد عازارية ودوره في تحولي نحو "جلجامش"، ومن ثم قراري الحاسم في غرس بذورها في أرض لوحاتي المقدمة لمشروع التخرج.

يعود تعرفي الأول على الملحمة لأسطوانة "جلجامش" لعابد عازارية، الذي اقتناها زملاء السكن في حارة اليهود سنة 1980، ومن ثم حضوري لمختارات أداها من نفس الأسطوانة على مسرح الحمراء لاحقاً.

وأخذت موسيقى وغناء عازارية تصدح في بيت حارة اليهود، في بداية الأمر لم أفهم كنهها ولا ينبوعها الغوري، ولمرات استفقت من نومي مذعوراً من الأجواء الموسيقيّة الجلجامشيّة التي استوطنت البيت. لا أنسى أبداً تلك الحالة من المناخات السحريّة الخفيّة المتصاعدة من هوات أرض الملحمة، ومناجاة الصوت العازاري الأجش المتعكر، والمفارق لمعيارية "الجمال الصوتي القويم" الذي اعتدنا عليه. ومع الوقت، اكتشفت جمالاً خاصاً مفرداً في صوته وأدائه، فتقلب تحفظ البداية إلى عينين تغمرهما الدهشة والحب تجاه عالمه الموسيقي وتنافراته المتحررة من النظيم المكرس. وشرعت في البحث عن نص الملحمة، وقرأته بترجمة طه باقر، وأعدت الاستماع مرات ومرات لمختارت عازارية، إضافة لدراسة الفن الآشوري المنزاح عن المشابهة الحرفيّة ومبدأ الإيهام نحو تجريدية شكليّة. وأخذت الملحمة تشدني إليها، تطوف في تفكيري، تدعوني للبحث في المفاهيم الكامنة وراء حدوثها، وجوهر صورها الدراميّة الخفي، إلى أن ساقتني لمحاولة التقاط عشبة أبديتها الواخزة بعد أن علقتْ رائحتها الأسطورية فيّ.

كان علي إعادة خلق لغة أدبيّة وأخرى موسيقيّة تصويرياً. بمعنى التعامل مع العلاقات التفاعليّة بين نص مكتوب في سياق تاريخي سحيق، وموسيقى وأداء سمعي من حاضري .. وأنا أتقدم لقماش لوحتي التصويرية أعزز فيها داخليّة تعبيريتي ومؤثرات إحساسي اللونيّ، وأترك عليها موقفي النقدي من العالم حولي، ومن حراك تشكيليّة قيد التحول في بلدنا، والانعطاف بها بعيداً عن الاختزاليّة الجماليّة للمناحرات الإيديولوجيّة، ومجتمع التسلية المنمطة والمشروطة.

لكل ذلك، راهنت على جماليّة مستقلة نسبياً للفعل الفني، جماليّة تتأكد عبرها فردانيّة خبرتي الحسيّة، وتخضع فيها لوحتي لمعاييرها الخاصة، دون أن يفوتها الاعتراف بتعددية معايير التذوق الجمالي السياقي، كما أنني توخيت عدم الوقوع في الزخرفيّة المحضة، كما الإملاءات الراسخة للنموذج المسبق.

تمثلت في إنشاد عابد عازارية انطباعاً نغمياً قاتماً تطفر من تخومه بدئيّة فطريّة، مما دفعني لتصور مواقف ملحميّة على خلفية لونيّة داكنة، وزعت عليه ومضات ذهبية مذررة مشبوبة التوهج. وجمرة هذه اللمعات الوضيئة ما برحت البنية التحتيّة للوحتي حتى اليوم.

لم تكن بغيتي تنفيذ رسوم توضيحيّة للأسطورة الدهريّة، أو استعراض سردية من الخليقة الأولى، فاستعضت عن تمثيل الحدث والموقف بتمثيل فكرته والتذكر الإيحائي له، وحاولت استبصار ما في الواقعة الديناميكيّة من مفهوم، عبرت عنه بعلامات وإشارات رمزية، تبتعد حين تلقيها عن المباشرة، والمظهر المعتاد للأشياء، والتفسير الأحادي البعد. واستحال جلجامش برؤيتي من شخص خرافي بطولي مترفّع عن محدوديّة المكان والزمان، إلى شخص إنساني له علاقة بقيم شرقنا ورموزه، شخص يمتلك حكمته الخاصة، وسكينته التلقائيّة، وتأمل متماش مع تراكم تجربته، كما تمزقه في قفار خوف دهري، وحنينه للالتصاق بالجسد الآخر.

وللقيام بانجاز مجموعة لوحات مشروع التخرج، اخترت بعض المفاصل الملحميّة للتصميم التشكيلي، مثل المشهد الذي يلتقي فيه جلجامش بصاحبة الحانة سدوري في رحلة بحثه الطويلة: تبدو امرأة الصدفة جالسة في منتصف الطريق، وتتبدى أهمية مكانتها ومرتبتها المشرقيّة من خلال ضخامة جسمها التصويري، وهالة غابٍ غفير الخصوبة تحيق بها، وكأن حضورها يجمع ما بين كهنوتيّة عارفة ودنيوية حسيّة بهيجة، في الوقت الذي يبرز فيه جلجامش وكأنه يصارع نجوم سمواتٍ لن ينالها إلا في الحلم اللامكان.

صورت ملامح وجه جلجامش تبعاً للمفهوم البصري الذي كنت أميل إليه، وحاولت الوصول للأجزاء المعبرة عن الرغبة والانفعال في الجسم والوجه، لاسيما اليدين والعينين: عينان متسعتان ثابتتان تنطويان على نظرات راسبة وتوتر سرابي. وتمددت في خلفية التشكيل لونيّة معتمة، مع خط أحمر استمر معي لليوم، إضافة لرمزية شخص ميت بتأثير من الفن الروسي، وبين الحين والآخر وشّحت المشهد ببعض العلامات الكتابية التصويريّة، من مثل العبارة التي يخاطب فيها جلجامش ملاح السفينة، ويضرب فيها على الوتر البطولي الأسيان، بينما الدموع تلسع وجنتيه بعد أن التهمت "حية صل" نبتة الأبدية الواخزة: "لمن يا أور-شنابي تعبت يداي .. سفحت دم قلبي ولم أفز بالنعمة حتى لنفسي".

في لوحة أخرى يتبدى كامل جسد جلجامش في وضعية المواجهة للمشاهد، بلا ظلال وعارياً إلا من ورقة التوت، موارياً يده اليسرى خلف الظهر، بينما اليد اليمنى تستند إلى الجهة القلبيّة من الصدر، يحليها خاتم في الإصبع، وإسوارة في المعصم، ومسبحة تتدلى من المرفق؛ أما الهامة فمكللة بهلال عشتاري ينمو من المحاق، في الحين الذي تتأطر سيمياء الوجه بكثافة سواد شعر الرأس والشارب والحية، مما يركز التلقي نحو شفتين مزمومتين وعينين مفتوحتين على عمق نفسي وتوتر روحي وهما تتطلعان بتصميم للناظر، وكأنهما تطالبانه بتقاسم معرفة ما بعد اكتشاف العري وستر ورقة التوت.

من النافل القول أن دلالات تموضع اليد على الصدر من الجهة القلبية تتعدد من فنان لآخر كما تقولين يا أثير، وإشارتك لأمثلة ترى فيها اليد اليمنى على نحو مشابه صائبة، من مثل يد الفنان دورر في لوحته الشهيرة كدلالة على يد الفنان الخالق وفرديته المكتشفة في عصر النهضة، وكذلك يد الفارس بالثوب الأسود للغريكو كدلالة لرفعة نبالة وفروسية صاحبها، إلى ما هنالك من تصاوير قروسطية ليد المسيح كتبليغ عن التزام بخلاص البشرية.

ولعل لوحة جلجامش التي نتحدث عنها توحي كما تقولين بمثاليّة روحيّة، رغماً عن العري الذي اكتشف جسده، وذلك لاستبعادها كما ترين العمق المكاني، إضافة للاقتصاد والبساطة في التصميم، وإلغاء كل ما هو معقد ومنحل إلى خطوط وألوان متدرجة، كذلك تأكيدك أن قامة جلجامش التشكيلية توجد في وسط بلا وزن ولا ضوء ولا هواء .. قامة منحصرة ضمن حدود قاطعة لا لبس فيها، مما يعطي المواجهة الجذعيّة تكويناً شعائرياً ووقاراً روحانياً حياً على نحو مدهش رغم الجمود الظاهري. الأمر الذي يتعزز بالعبارة/ الإجابة المتروكة أعلى اللوحة، والمسطرة بخط واه يكاد لا يقرأ، عبارة ترين فيها، من وجهة نظرك، تتويجاً لشكل الجسد الجلجمامشي الساكن، في مضمون تتحرك فيه الأحرف لتقول كلماتها الإشراقية النافذة: "انتبه الأزرق لون السماء". وكأن خلاصة المعرفة تنقل زرقة البحر الأرضي الذي حتم على جلجامش ركوب لجته لينال الإجابة عن سؤال الأبدية، إلى رمزية أزرق السماء حيث السكينة اللامتناهية.

أما في اللوحة التي يظهر فيها التشكيل الإنثوي العشتاري، فقد اعتمدت موديل حبيبتي نجاح حداد في التصوير. وانزحت عبره من نمطيّة الآلهة الربانية العلويّة، إلى روح إمرأة دنيويّة تكثف الإثارة الحسيّة بوقفتها المترفعة المواجهة للمشاهد جسداً، والمبتعدة عنه بنظرتها الغارقة في المنعزل القصي .. نظرة مرهفة حالمة تستبطن انفعالاً ومناخ كآبة مع كثافة روحيّة شعريّة، ويستر عريها المقتضب وشاح موشى يتمدد في خلفية اللوحة كتوريق يلغي الحدود الفاصلة بين الجسد والخلفية، كما لو أن الهيئة المصورة تتماهى مع نطاقها ولا تنفصل عن مدارها التزييني، ويتحطم معها الإحساس بالعمق المكاني. وفي نهاية الوشاح، الذي يستحضر الأفعى في ماوراء المرئي، تستقر تفاحة توحد ما بين الشبق الإيروسي والموت التاتانوسي، مما يهب امرأة اللوحة حضوراً فانتازياً مثالياً يجثو تحته مفهوم "المرأة القدر"، وبالمحصلة يتبدى طابع ذهني رمزي يحث على البحث المستبطن في التقنيّة المعلنة.

من كل ما تقدم، ورغم إدراكي لمعنى وطبيعة العمل الفني، سألت نفسي لمَ لم يعد جلجامش ليقطف عشبة أخرى للخلود؟

لعل سؤالي حينها، يلتقي كما تقولين مع من يبحث في معقوليّة أو مصداقيّة ظهورات شبح والد هملت في مسرحية شكسبير. والجواب أنه لولا ظهور الطيف لما كانت "هاملت". هو منطق الفن الذي يستطيع تجاوز محدودية الواقع المادي والأسس العقليّة، ومسح آفاق تلافيف الدماغ مجازفاً بمعقولها في المخيلة والتخييل.

كنتُ أشرت سابقاً أن الفن الأشوري شكل مرجعيةً لشغلي أثناء مشروع التخرج. أتذكرين نحت "اللبوة الجريحة" البارز الموجود في المتحف البريطاني في لندن؟ إنها تظهر في لوحة من المجموعة، لدي صورة للوحة في اللاذقية سأحضرها لك بعد عودتي من السفر.

نلت عن مشروعي علامة 95%، وسلمت الكلية ثلاثة أعمال من المجموعة، واحتفظ بأربعة أعمال، وهناك ثلاثة أخرى موجودة لدى صديق لي في جسر الشغور، ولا أعرف شيئاً عن مصيرها في هذه الظروف. وانتهت تلك المرحلة، وبدأت مباشرة بعمل فني متباين، فاشتغلت بالأحبار الملونة لتنفيذ مجموعة أسميتها "شاهد من هذا العصر"، ولا أملك أي من هذه اللوحات، وأعتقد أن الشاعر منذر المصري يقتني بعضاً منها. كما عملت على لوحات صغيرة تركت على سطحها كتابات، وذلك كان خلال سنوات الخدمة العسكرية قبل سفري إلى موسكو.

* * * *

في حارة الخرنوبة ومسقط الروح الأول!
- سنة الـ 58 ولّدوني في حارة الخرنوبة في محلة الشيخ ضاهر في اللاذقية. لليوم مازال بيتنا قائماً، اشتراه جدي ندرة صابور في الأربعينات من القرن الماضي، وحرص على أن يكون داخلياً، بمعنى أن الوصول إليه يتم من زواريب ثانوية تتفرع عن زاروب رئيسي، لأن البيوت الخارجية كانت تتعرض لعصابات "الشتا"، التي امتهنت سطو البيوت المدينيّة والريفيّة وقطع الطرقات، ونهب مؤونة العنابر وبيادر الضياع والقطعان إلى ما هنالك من سلب ونهب قبل أن تتخفى في دنيا الله الواسعة والفلوات.

بيتنا ككل البيوت العربية الساحلية القديمة، مغلق على الخارج ومنفتح على فسحة سماوية تراوده أشعة الشمس نهاراً وتسكنه العتمة ليلاً. قطنته عائلتنا الكبيرة بالمفهوم التقليدي، ففوق بيت عمتي، وتحت بيت عمي، ومن ثم الفضاء المخصص لبيتنا وفيه الغرفة التي فتحت فيها عيوني على نور العالم.

اليوم تسكن الدارة عائلتين أو ثلاث، إلا أن بيتنا مهجور ماخلا من شجرة عنابٍ جلبتها غرسة صغيرة من ضيعة الشلفاطيّة وزرعتها وأنا بعمر الـ 16 سنة.. وشبت الشجرة، وصارت الآن العنابة الكبيرة.

الغرفة التي ولدت فيها كانت تتصل ببقية الغرف الداخلية بباب، أما نافذتها فمشرعة على منبع النور في ساحة الدار، حيث كنت ألعب صغيراً وأشمّس لوحاتي كبيراً، وهي نفس الغرفة التي تزوجت فيها سنة 1983، وبقيت سكني حتى عودتي من موسكو، وشرائي لبيت في حي العوينة عام 1991، فتحولت عندئذ لمرسم لي اشتغلت فيه لسنوات حتى الـ2007، بعدها انتقلت لمرسم جديد قرب مدرسة "الكرمل".

- من بقايا صور الدارة الكبيرة في حي الخرنوبة تتداعى صورة كوة مقوسة في إحدى جدران غرفة متصالبة العقود، تموضعت فيها أيقونة خلف كوب زيت يشع من زبالته ضوء مرتعش. تلامحت في تحولات الظلمة والعتمة وارتجاف الظلال على الأيقونة عالماً يكاد لا يتوكأ على ثبات تشكيلي لتغير أوقات المشاهدة. همت في تلك المملكة البصرية، أبهرتني تقلباتها الضوئيّة مع وقدة زبالتها الملتمعة، واستطالات أبخرتها الشبحيّة المتراقصة على سطح الأيقونة، حتى تفتتها فوق التلاوين، واستحالت الأيقونة المنزليّة درساً بصرياً أول، وإيحاء ناطقاً خاطب مخيلة طفولتي، وفتح فيها كوة تنفث فيها روح النور والعتمة.

- رزق والدي أبو ناجي بثمانية أولاد، أنا آخر العنقود بينهم، ثلاثة شبان وخمس بنات. وكان لديه محل في سوق التجار يبيع فيه القماش وغيرها من السلع البيتيّة. في تلك السنوات كان أبي شيوعياً، والتزامه بالحزب جمعه مع حنا مينة، وخالد بكداش، ونجاة قصاب حسن من بين آخرين. بالمناسبة أخبرني في يوم من الأيام أنه كان يجتمع والرفاق في الغرفة التي ولدت فيها، وحينما قدوم الأمن، كان الجمع ينفض بسرعة، يرتقي أسطح بيوت الجيران قبل أن يتفرق في أزقة الحارة متخفياً. وبسبب التزامه السياسي اليساري وتوزيعه للمناشير أغلق محله في سوق التجار، فانتقل للعمل في الميناء، وانهمك بالأشغال المستجدة من حركة البواخر الراسية والمبحرة، وبعد تركه المرفأ توظّف في مديرية الزراعة، وبما أن مدخوله لم يكن يكفي لتربية أولاده، فكر بتأسيس مزرعة في قرية الشلفاطيّة الواقعة على طريق الحفة، على مبعدة 10كم من اللاذقية. وتبعاً لأقوال العائلة كانت سنة الـ58، بداية تأسيس المزرعة، واشترى أبي دراجة نارية لتسهيل تنقله من المدينة إلى الضيعة وبالعكس. ويسرد الأهل وابلاً من مطر خريفي يوم ولادتي في 17 أكتوبر تشرين الأول من نفس العام، فأرسلوا لأبي الخبرية تحت سيال الهطل:

-       إجاك صبي!!

وكان والدي على دراجتة في رحلة الإياب إلى اللاذقية، فعاد أدراجه على الطريق الساحليّة، وأحضر قرابين من ديوك الحبش لنحرها وكأضحية قدسيّة.

- جدايّ من جهة أبي وأمي أخوان، بمعنى أن والديّ أبناء عمومة، وتعود أصولهم لمسيحيّة القرداحة، ففيها ولدا، قبل نزول الأسرة الكبيرة سنوات الأربعينات للمدينة، وشراء بيت الشيخ ضاهر، وأراض زراعية في الشلفاطيّة ومنجيلا وصلنفة. وعرف عن جدي ندرة صابور أنه كان من أشهر تجار التبغ في كل قضاء جبلة، يجمع حبال التبغ السوري المجفف بأصنافه المختلفة، والمعلقة على أغصان الزيتون، ويسلم موسمه لشركة امبريال المعروفة حينئذٍ.

في الصيف كنا نقضي العطلة في بيتنا الريفي المبني في أرض الشلفاطيّة، ذلك أن جدي خص والدي بحصة منها، حوالي 14 دونم في الوادي وبضعة دنومات بني عليها بيتنا. وبدأ زخم العمل الزراعي يتكاثر في المزرعة سنة ولادتي، والتي اعتبرت ساعة خير في تاريخ العائلة، فحُفِر جب لتأمين مياه الري للزرع، وغُرسِت أنواع عديدة من الأشجار المثمرة.

- تهرول تلك الصور من تربة الماضي .. أراها أمامي: الأرض مقسمة طولياً لثلاثة قطع، زرع فيها والدي أشجار الليمون، والدراق، والسفرجل، والخوخ الأبيض، والخوخ البخوري الأسود، والمشمش، والأجاص، وبضعة شجرات من التين الخضري، وكرمة عنب، وتفاح الغولدن، والتفاح الصهيوني. أتعرفين التفاح الصهيوني يا أثير؟!! تماماً هو تفاح الحفة الصغير. إضافة لكل ذلك طوق الزيتون البيت مع الخيالات المتوقدة من شطحات حكايا أبناء القرى.

كل هذا انتهى، بتقطع حبال الوصل مع المزرعة بعد وفاة والدي سنة 1999 وبيع أرض الذكريات: "حديقة ملذات" أولى تمشت في شراييني.

بالطبع، تطلب بستان الفاكهة شغلاً ومتابعة، فكرس الجميع أنفسهم لاعتصار التراب ثماراً. وحينما بدأت أشبّ كان أخي الكبير يدرس في روسيا، وأخواتي البنات تزوجن، وبقيت وأخي الذي يكبرني بسنتين الساعد الأيمن لوالدي، خاصة في العطلة الصيفية.

لوحتني شمس التلال وأنا منهمك باقتلاع الحجارة، وتعفيش التربة، والتسميد، والسقاية، وجني الثمار، وترتيب القفف والصناديق، والنزول بها إلى اللاذقية وبيعها في سوق الهال القديم، والذي أغلق مع المنطقة المحيطة منذ سنوات بعد أن وضع فيه بئر للتنقيب عن البترول. وما فهمنا هل طلع بترول أم لا؟!! ما حدا بيعرف!! وضاعت مع المشروع النفطي الإثارة اللونية الطقسيّة والطبائع التشكيليّة الضاجة لهالٍ قديم.

وبالطبع كنت أرسم في غرفتي الشرقية المنفردة من الدارة الريفيّة، واللوحات التي رسمتها عرضت في المعرض الجماعي الأول الذي شاركت فيه كما في معرضي الفردي الأول في اللاذقية.

- منذ أربعة سنوات، اتصل بي طالب سابق لي من اللاذقية اسمه طلال علي، وقال لي أنه كان في سوق الجمعة، وبعد عودته للبيت هاتفني مباشرة، وبحماس متهدج لمن عثر على لقية ثمينة:

-       د. نزار كنت في سوق الجمعة ورأيت لوحة معروضة للبيع، وعرفت فوراً إنها إلك.. اشتريتها لك!!

-       يا إلهي!! طلال شو الحكاية؟!

وصف لي اللوحة..

-       عرفتها!!

هي لوحة "حارة الخرنوبة".. رسمت حارتي في سنة الـ73 وعرضت في أحد المعارض وسرقت من قبل أستاذ الرسم. بالحقيقة سرقت مع مجموعة من اللوحات. واستعدت اللوحة بعد مضي كل هذه الأعوام. سأريك صورتها المحفوظة ضمن ملفات كومبيوتري.

* * * *

موسكو وعدة من أشياء أخر
- في نهاية الـ85 سافرت مع غيري من آلاف المعيدين السوريين إلى موسكو لمتابعة الدراسات العليا. وهنا سأتوقف للحديث عن وقائع من تاريخ الجامعات في سورية في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، حين أخذت سياسة الاستيعاب وتأسيس كادر تدريسي جامعي وطني، تبعاً لتعليمات القيادة السورية برئاسة حافظ الأسد، حيز التنفيذ. تُرجِم هذا القرار عملياً لصالح من هو منتسب لحزب البعث أو من يعمل في الاتحاد الوطني لطلبة سورية. بمعنى أن الأولوية كانت محجوزة لهم، ونادراً ما تمتع بالبعثات والمنح من يستحقها فعلياً من الطلبة. وبناء عليه تغص الجامعات السورية الآن بهؤلاء، وبهم تناط المسؤولية في كافة المجالات التعليمية والإدارية والنشاطات البروباغنديّة الجامعيّة المختلفة، وغني عن القول ضحالة منجزهم الفني، إضافة لاندراجهم في ما يسمى بالمثقف - الفنان الأداتي السلطوي.

ولحسن الحظ، مع حصولي على ترتيب الأول على دفعتي، تمكنت من متابعة دراستي في الخارج ضمن هذه الجماعات الآخذة بالتكاثر في الفضاء التعليمي حينها، وامتلأت الطائرة بنا نحن المعيدين للدراسة في موسكو. بعد وصولنا فرزت على معهد للنسيج في موسكو يعرف باسم وزير الخارجية الروسي "كوسيغين"، وفيه كليات متعددة من ضمنها معهد الفنون. وبعد دورة اللغة التحقت بكلية الفنون التابعة له، والمختصة بتحضير أزياء وتصاميم للأحذية ولا يوجد فيها أي طالب أجنبي. ولم أفهم لا أنا ولا المسؤولين عن المعهد ما هي علاقتي به، وما الذي جاء بي إلى تلك البقاع. أذكر هذا لأنوه لأخطاء ترتكبها وزارة التعليم العالي في سورية ومازالت، ففي أيلول 2013 أرسل أربعة طلاب من كليتنا إلى مكان خاطئ. هي الأخطاء ذاتها صار لها تتكرر منذ 25 سنة.

في نهاية الأمر، استطعت الانتقال مع غيري من الطلاب إلى معهد سترونوفسكي "المعهد العالي للفنون التطبيقيّة والصناعيّة"، وهو من أشهر المعاهد في العالم بمجاله، ويروده للدراسة طلاب من كافة أطراف المعمورة، وفيه حضرت وقدمت أطروحتي لنيل الدكتوراه. خلال سنوات الدراسة شاركت في معرضين للطلاب والأساتذة، والمسؤول عن الأجانب استحوذ على لوحاتي دون إذن، فاشتكيت للسفارة السورية والمركز الثقافي، إلا أنهم أخبروني بأنهم لا يستطيعون فعل شيئ حيال هذا الأمر. ومن ضمن اللوحات المقتنصة كانت لوحاتي التي تتناول الطبيعية الروسيّة التي أدهشتني، وكنت أستقل القطار للبحث عنها ورسمها: الربيع، المشاهد المثلجة، الظلال البنفسجية. مشاهد لم تكن عادية بالنسبة لثقافتنا .. أن يقف المرء تحت الثلج بدرجة حرارة -30 تحت الصفر، يراقب حركة البشر والظلال وتدرجات البياض .. تدرجات البياض التي سحرتني قبل بحثي الفعلي في تنظيرات كازمير ماليفيتش في هذا المجال.

عشتُ حالة من التردد الشديد، سافرت من سورية ولدي شيئ يعمر بصريتي ووجهة نظري بعد دراسة خمس سنوات في دمشق، حقاً صار عندي ارتباك!! ارتباك ما بين مدرسة الواقعية الاشتراكية الطاغية والموثرة في روسيا، والمنصّبة مرجعاً فنياً أخلاقياً لكل حساسية جماليّة حينها، بتكوينها وهولِها التصويري اللوني والموضوعي، وبين ما كنت راكمته في سورية. عشت سنتين بحالة تردد أمام السؤال: "من أنا أمام كل ما أرى وأشهد وأدعى لمحاكاة الواقع المنشود؟!"

بالحقيقة كنت أرتاد المتاحف المختلفة المحتوية على أعمال فنية من مراحل متعددة، وساهمت في تموضعي ضمن دائرة المساءلة والشك، على خلاف معظم من درس في روسيا وعاد للعمل وفق أسس وتحزبات "الواقعية الاشتراكية" الفنيّة. أعترف أنها مدرسة حققت انجازات جماليّة لايمكن اغفالها في تاريخ الفن عامة، إلا أنني أعتقد أن الطالب حين يتلقى مثل ذلك التعليم الصارم، خاصة الصنمي الستاليني منه بعمر مبكر، فإنه يحتاج لعشرات السنين للتحرر من خطابه الإيديولوجي ونظريته الفنية العلميّة، التي تدين الانتاج الشعوري الجمالي وشطحات المخيلة وتعبيرات اللاوعي الحلميّة الغامضة غير الممتثلة لسلطة نموذجه المثالي الجلي، الذي يغيّب ذاتية الفنان أو ثقافته الخاصة في كونية تمتلك الحقيقة وكلية المعرفة ويقين الذائقة و"الالتزام". البعض من أصدقائي الروس كانوا يدهشون لكيفية عملي ومقاربتي للمواضيع المختلفة، حتى أن بعضهم سماني بـ"الساحر المشعوذ" فيما بعد، وكثيراً ما وجهوا لي السؤال: "ما الذي تفعله؟". باح لي أحدهم بأنه تلقى تعليمه وفق قواعد "الواقعية الاشتراكية" لست سنوات ويعتقد أنه يحتاج لعشر أخرى للانعتاق مما تلقاه. هي مدرسة يلقن فيها الطالب اللغة الفنية، وكيفية الرسم، وكيفية التفرج على العالم ورؤية الموضوع، وكيفية الرسم، وكيفية ترجمة الرؤية لخطوط قوية وتلوينها، بغض النظر عن الذاتية التي تظهر بشكل واهن ولا يعول على جوباتها في المخيلة ولا على انشقاقات فرادتها عن المثال المعياري.

إلى كل ذلك كان علي أن أكون!! وعاد سؤال الـ"كيف" يلحّ علي من جديد!!

(لم تتم بعد)

* * * *