يكتب الناقد اللبناني أن هذا النص يشير إلى أنّنا مُجرّد كائناتٍ ورقيّةٍ، وأنّ الحقائق تتشكّل على أوْراقٍ ومن أوراقٍ. هكذا يعبّر الكاتب عن القانون الأساسيّ للوجود. وانطلق من لامحدّدية الإنسان والوجود إلى ورقيّة الإنسان والوُجود. لأنّنا من جرّاء أنّنا حقائقُ على ورق، إذن لابدّ من البحث الدّائم عن هُويّتنا.

ميكانيكا النّصّ في «سلاّل القلوب» لمُحمّد خريّف

حسن عجمي

في الفقرات الأولى من كِتابه "سلاّل القلوب*" يختصر محمّد خريّف خريطة الكون القائم على المُتناقضات والمُؤدّي إلى شكلانيّة الوُجود. بالنّسبة إلى المذهب الشّكلانيّ في فلسفة الرّياضيات، الحقائق الرّياضيّة موجودة على الورق ليس إلاّ. والطّّريق نحو شكلانيّة خريّف أساسها عالمنا الواقعيّ الّذي ينمو بفضل تناقضاته. لذا تنطلق الفقرات الأولى في الكتاب نحو التّأكيد على الخوف من سلاّل القلوب وعدم الخوف منه قي آنٍ مَعًا. " خوفي من سلاّل القلوب في صِبايَ أراحني الآن" ويؤكّد مجدّدا ذلك قائلا : "أأنا خائفٌ أمْ مُطْمئنّ؟" هذا الصّراع الوجدانيّ مصْدرُه لاَ مُحدّدية الإنسان .. فمن غير المُحدّد ماهو الشّعور الإنسانيّ في هذه اللّحظة بالذّات. لذا يحتاج الإنسان إلى كتابة ذاته باِسْتمرارٍ كيْ يفهم الإنسان نفسه.. وبما أنّ هذا الفهم الإنسانيّ للذّات الإنسانيّة لا يتحقّق أبدًا. إذن، تستمرّ بذلك عمليّة البحث عن الحقيقة إلى مالا نهاية، ويغدو حِينها فقط الإنسان إنْسانًا. هذا هو الاِتّجاه السّوبر حداثي الّذي يعتمد عليه نصّ محمّد خريّف. بالنّسبة إلى السّوبر حداثة اللاّمحدد يحكم العالم وبفضل

 لاَ مُحدوّدية الحقائق والوقائع يستمرّ البحث عنها إلى ما لانهاية ممّا يضمن اِستمراريّة الإنسان وإنسانيّته. لأنّ الإنسان يتخبّط في لامُحدّدية مَشاعره وحالاته يُصبح الفرد ذاته حيّا وميّتا في الوقت نفسه. لذا يقول محمّد خريّف :"أتجرّد من كفني" ممّا يشير إلى حالة تزاوُج الموت والحياة. وهُنا تكمن لامُحدّدية حقيقة الإنسان. فمن غير المُحدّد ما إذا كنّا أحياءَ حقّا أمْ أنّنا مجرّد أموات؟. وهذا مصدر القلق الإنسانيّ وتقلّبه بين المشاعر والحالات المتناقضة فلا يهدا الإنسان وإن كان في قبره.على هذا الأساس يضيف خريّف: "أخاف من فيروس الخلود " فعدْوى البقاء أصابتنا جميعًا. لكن، هذا البقاء وذاك الخلود هما نتيجتان للا محدّدية الإنسان التي تدفعه من موت إلى حياة، ومن حياةٍ إلى موتٍ / ومن طمأنينةٍ إلى خوفٍ، ومن خوفٍ إلى طمأنينةٍ بشكلٍ دائمٍ ومستمرٍّ ومتواصلٍ. لكنّه يستحيل أن يكون الإنسان ميّتا وحيّا معًا أو مطمئنّا وخائفا معَا لتناقض هذه الحالة. من هُنا الحقائق والوقائع هي حقائقُ ووقائعُ على ورقةِ.

هكذا يصل محمّد خريّف إلى شكلانيّة الكون. فالكون حقيقيّ لأنّه كذلك على ورقةٍ. من هنا جاء تساؤله: "أسلاّل قلبي ورقة هُويّتي؟" فسلاّل القلوب الذي يدفعنا نحو حالاتنا المُتناقضة من موتٍ وحياةٍ وطمأنينةٍ وخوفٍ هو ذاته من يحوّلنا إلى ورقة تكمن فيها هويّتنا، ولذا نخسر هويّتنا ونغدو سلاّل القلوب ذاته. وهذا فحوى:

 " أسلاّل قلبي ورقة هويّتي؟

" ينمو الجواب في نبْض السّؤال كما ينمو الموت في جسد الحياء. نتنفّس أمواتنا ولاتحكمنا لامُحددية هويّاتنا. هكذا يرسم محمّد خريّف خريطة الكون بفقرات أولى. فبالنّسبة إلى ميكانيكا الكمّ من غير المُحدّد سرعة الجُسيْم ومكانه في الوقت نفسه. ويعبّر العلماء عن ذلك من خلال قولهم : "إنّه من غير المُحدّد ما إذا كان قطّ شرودنقر حيّا أم ميّتا". من هذا المُنطلق من غير المحدّد ما إذا كنّا أحياء أم أمواتا، وما إذا كُنّا في خوف أم طمأنينة، كما يقول محمّد خريّف. هكذا يشير نصّه إلى حقيقة الكون ويقدّم لوحة سريعة الخُطَى حول مضمون الوُجود. بالإضافة إلى ذلك، الكون محكوم بالرّياضيات. القوانين الفيزيائيّة تحكم الوجود. لكنّ الرّياضيات لغة الفيزياء. من هُنا الرّياضيات هي الحاكم الأساسيّ للكوْن. وإذا كانت الحقائق الرّياضيّة هي حقائق على ورقٍ كما تقول الشّكلانيّة. إذن، الوجود وكل مافيه موجودٌ وحقيقيّ على الورق فقطْ. من هنا يشير نصّ محمّد خريّف إلى أنّنا مُجرّد كائناتٍ ورقيّةٍ، وأنّ الحقائق تتشكّل على أوْراقٍ ومن أوراقٍ. هكذا يعبّر نصّه عن القانون الأساسيّ للوجود. والرّابط بين ميكانيكا الكمّ والشّكلانيّة هو التّالي." بما أنّه بالنّسبة إلى ميكانيكا الكمّ من غير المحدّد ما إذا كان قط شرود نقر حيّا أم ميّتا، وهو إمّا حيّ وإمّا ميّت فقط ندركه. إذن الإدراك يشارك في تحديد العام غير المحدّد. وإدراكنا معبّر عنه على ورقٍ. من هُنا ميكانيكا الكمّ قد تؤدّي إلى الشّكلانيّة. على هذا الأساس انطلق محمّد خريّف من لامحدّدية الإنسان والوجود إلى ورقيّة الإنسان والوُجود. هذا مثلٌ على أنّ النّصّ الأدبيّ قد يكون معتمدا على ومعبّرا عن العلوم المعاصرة فلا أدب حقيقيّ من دون علوم ومنطق.

لا محدّديه الإنسان تحكم النّص، كما تحكم الوجود تماما. وهذا مِحور العبور من فقْرة إلى أخرى في كتاب " سلاّل القلوب"، فمثلا يقول خريّف : "أنا الخارج من قبْري، الآن أسير مع الجماعة في بطءٍ "

"أخرج من قبري ألاحق سلاّل القلوب "بل أنا قائم أمشي في جنازتي" ونظل ندور بجثّتي حول تمثال سلاّل القلوب" " فهل أنا أكتب الآن أم أنا ميّت؟ "

" وأذبٌل لأزْهر في نعشي" " أتخلّى عن كفني أسير بملوحة الشّمس" " أنا لا أسير وحدي نتدافع بلا زحام لحمل نعشنا ذات عشيّة" " كيف أعقل وأنا ميّت؟" " أمشي في جنازتي وحدي الآن " "وتتواصل جنازتي مدى الحياة" " أنا ميّت من ناحية النّصف الأعلى حيّ من ناحية النّصف الأسفل أتقلّب في نعشي " " وهل نستغرب من ميّت يحفر قبره؟"ولأنّ الإنسان يوجد باستمرار في لامُحدّدية الحياة والموت والوجود والعدم إذن، من الطّّبيعي أن يغدوَ الكون وهما يلاحق وهما. لكنّنا نشعر ونفكّر بمعنى مّا. لذا من المتوقّّع أن نكون ورقا للكتابة أو حبرا على ورقٍ. من هنا ينشأ المبدأ الآخر الذي يحكم نصّ محمد خريّف ألاهو شكلانيّة الوجود. وهذه الشّكلانيّة تعني أنّ ما يُوجد حقّا يُوجد بالفعل على ورقٍ نكتب عليه أو الأصحّ. هكذا يكْتبنا. هكذا يحكم هذا المبدأ كتاب " سلاّل القلوب" فمثلا يقول خريّف :

" أنا العاري إلاّ من هيكل الحبر" " وأنا رميم حروف" " نتجدّد على صفحة جديدة أخرى" " وكيف أدفن جسدي ورقة تتفتّت حروفها ولا تبلى أنبعث بها في كل لحظة؟"" لأني الآن في غرفة تضيق وتتسع بالحروف والجمل " أحتفل اليوم بعيد ميلادي على ظهر ورقة أسمّيها نعشًا" "لكن أنا حبري" "أنا حيّ على ورقة " " فأحْيا بحبري" وكيف أتكلّم أنا الرّضيع ولا أزال مشروع حبري؟"

وكيف أنام قرونا في نعشي من ورق؟ "

نحن أحياء وأموات في آنٍ معًا لأنّنا حبر على ورقٍ. هذا الحبر الذي إذا قرئ اتّخذ معنى وحياة وإلاّ يبقى ميّتا على ورق حين لا يُلامسه إدراك وبصر. هكذا الإدراك الإنسانيّ يشارك في خلق العالم ويضمن لامحدّديتَه.

من جهة أخرى، لأنّنا من جرّاء أنّنا حقائقُ على ورق، إذن لابدّ من البحث الدّائم عن هُويّتنا غير محدّدين. ولكيْ نقوم بذلك لابدّ من معرفة من يخيفنا فيدفعنا نحو التّحرّك والبقاء والاِستمرار. هُنا يدخل سلاّل القلوب بكلّ لامحدّدية في قلب صياغة الكوْن الرّواية " ومن هو سلاّل القلوب هو واحدُ فعّال في جمْع أقهْقه مع الجماعة فأنا الآن بينهم، وإن كنت خائفا بدوري من سلاّل القلوب".

يخيفنا سلاّل القلوب فيدفع بنا نحو اِكتشاف ماهيّته علّنا نتمكّن من الاطمئنان إليه أو الاستسلام له. ولأنّه يستحيل اكتشافه يغدو وهما " ما خرافة سلاّل القلوب هذا؟ الوهم يضمن استمراريتنا لأنّّه يستحيل تحديده مما يجعلنا نعمل باِستمرار كيْ نجدّده. ولذا نحن مجرّد كائناتٍ على ورقٍ يسود علبنا اللاّمحدّد بكلّ لُغاته وصمْته..

جهلنا يدعونا إلى الاِستمرار في محاولة تحقيق المعرفة. هكذا نضمن بقاءنا وإن كان وهْمًا. " لا أعرف من هو سلاّل القلوب" ألا نكفّ عن السّؤال " " أنحن سلاّل القلوب؟"/ أنا أنت نحن/ هم هن هي هو هما أنتما أنتنّ أفّ من ضمائرنا"

هكذا يبتلعنا الوهم الّذي يُدعى سلاّل القلوب فكما يحيينا باِستمرار يميننا فتتشكّل لامحدّديتنا التي نضمن إنسانيّة الإنسان ومشاركته في خلق الكون. ولأنّ سلاّل القلوب ينمو في كلّ شيْءٍ هو مبقيه كونه الأعلى الذي يدفع نحو البقاء والاِستمرار. إذن من المتوقّع أن تتوحّد الأشياء كافّة ونصل إلى وحدة الوجود وأن ننتمي إلى حبر وورق : " ألمْ ترني عشيقتي منذ لحظات هيكلا عظميّا ترمّمه خرافة سلاّل القلوب؟ " أليست هذه ورقة؟ " / الورقة سلاّل قلوب" " أنا وحدي سلاّل قلوبكم أعرف مقبرتكم الجديدة" " أسنان الدّكتيلو تسلّ حروفي... القلم سلاّل قلوب" " أنا سلاّل القلوب " " سلال القلوب أستر حبري" ولأنّ سلاّل القلوب هو اللاّمحدّد الأعلى هو ذاته يبعثنا ويُميتنا في آنٍ معًا

" تخيط كفني إبر سلاّل القلوب "

" وأشهد أنّ سلّال القلوب والينا وسيدنا ينجينا من الموت"

وحين نكاد نختم نعود إلى البداية. فالخُرافة تنسج ذاتها باِستمرار كونها الكون غير المُحدّد:

 " ولابيان يوهم قرّاء الورقة بقيامة ميّت مثلي يفيق صباح موته ويتعلّق بقشور خرافة تنشرها أمّي بين القماطة والكفن".

 

ناقد لبنانيّ يقيم في أميريكا

* نُشرت في مجلّة الكلمة اللندنيّة( روابة العدد59آذار مارس 2012)