ليست المرة الأولى التي أجول بها في كتابات ونصوص الكاتبة عدلة شداد خشيبون، فقد تابعت كتاباتها ونزف روحها منذ البدايات، وأذكر أني كتبت مقالاً عن نصها "سعاد" نشرته في الصحافة وضمنته في كتابي "فضاءات قزح" الصادر عن دار فضاءات للنشر/ عمّان وبدعم من وزارة الثقافة الأردنية في منتصف العام 2009، وفي كل ما تابعت وقرأت لها كنت أجد أن الكاتبة كانت تلجأ إلى الرمزية الجميلة، الرمزية التي يمكن أن ينطبق عليها وصف السهل الممتنع من أجل إيصال الفكرة ببناء قصصي جميل وسهل، لكنه يخفي وراء رموزه الهدف المنشود، وإن أعطى المؤشرات للقارئ حتى لا يتوه في البحث، فابتعدت الكاتبة عن الرمزية المغرقة بالتخفي حتى لا يضيع القارئ عن الهدف، أو أن يمل القراءة فيرمي النص جانباً.
كان الضمير والحس الإنساني والحب والوطن صفة مشتركة في معظم نصوص الكتاب التي بلغت 75 نصاً، وهي النصوص التي احتوتها دفتي الكتاب، وهذه النصوص التي تراوحت بين القصة القصيرة وبين الوجدانيات، وعدة نصوص يمكن أن تصنف ضمن النص الشعري النثري، كانت عبارة عن نزف إنساني للروح الحافلة بالمحبة والإنسانية، في بوح وجداني عصيٍّ على التجنيس، فالكاتبة لا تمل عن البحث عن الضمير الإنساني، فهي مقتنعة أن الضمير لا يكف عن طرق القلوب لعل الغمامة تزول ويعود البشر إلى ضمائرهم، والضمير لديها هو بداية الوعي، فالضمير هو بدايات الطريق إلى الحرية، وهو الوطن الذي تصبو إليه كل نفس، وهو الفكرة، وهو الحرية، والضمير الحقيقي لا يخشى قسوة البشر، "أيها الأمل الغافي على كتف حرية الضمير، حان وقتك لتنهض"، فهو الموجه وهو القوي ولا يخشى إلا خالق الكون.
والإنسانية هي الهدف المنشود، فهي لا يمكن أن تموت مهما قست قلوب البشر، والضمير مهما عانى من الموت أو ابتعد سيبقى يتوق للإنسانية حيث تنبض الضمائر، تنتشر الإنسانية وتسود المحبة في عالم البشر، ومن هنا نجد الكاتبة أسمت كتابها "نبضات ضمير" مشبهة الضمائر بالقلوب التي تنبض، فكانت هذه النبضات تبدأ من لوحة الغلاف التي أتت على شكل قلب كبير يحمل العنوان وكانت النقاط فيه قلوب صغيرة، ضمن إطار من القلوب على شكل لوحة مطرزة من التطريز الفلسطيني طرزتها يد الكاتبة على قاعدة سوداء، فكانت رمزية واضحة لارتباط الضمير بالقلوب والوطن رغم الظلام الذي يحيط بالوطن الفلسطيني، والعتمة التي تنتشر في أرجاءه، فهو وطن محتل من بشر لا يعرفون الإنسانية أبداً، ولكن "الأرض تتكلّم بكلّ اللّغات، تصرخ بالأخضر صرخة الزيتون، وبالأحمر شقائق النّعمان، وزهر اللّوز نقاء العذراء، وبالأسود تصرخ بصوت التّراب"، وهي وكما تسميها: "أمنا الأرض"، "الأرض أمينة للخير.. الأرض لا تكذب.. الأرض لا تُمنّن.. الأرض لا تنكر المعروف.. اِزرعوا أمنياتكم فيها.. لا تُحلّلوا مفاهيمها.. لا ولا عناصرها.. هي تُعطى.. وكلّنا نحبّ العطاء.. تُعطي وسعيدة بعطائها..".
مازجت الكاتبة في نصوصها ما بين العناوين ودلالتها، وما بين البوح الوجداني من ناحية والأسلوب القصصي من ناحية أخرى، لكن كان واضحاً في كل نص أن هناك رسالة ترسلها، فما بين الألم على فاتنة في "فاتنة.. حبيبتي الصغيرة" التي تستهل بها الكتاب، مرورا بـ"آذار.. وثيقة عطاء"، حيث تمازج بين يوم المرأة وعيد الأم ويوم الأرض، مروراً بكل نص من نصوصها حيث تتحدث عن الصيام وذكرى الأم، مروراً بكافة النصوص التي حفلت بكم كبير من مشاعر الإنسانية والمحبة والضمير، ممازجة في كافة النصوص تقريباً بين الطبيعة في عصفها من ناحية، وبين جمالها من ناحية أخرى، وبين الروح الإنسانية بتقلباتها من ناحية أخرى، فهي تهمس: "صادقة هي عاصفة الطبيعة"، ولكنها تهمس من ناحية أخرى: "كل أعاصير الكون تهدأ بكلمة محبة وحفنة حنان".
الوطن كان الهاجس الأكبر في نصوص عدلة، فهي توجه سهام نقدها بقوة لكل المظاهر السلبية للمجتمع الذي تعيش فيه وخصوصاً ما بات يعرف بلعبة الانتخابات كما في نصها: "منافقون حتى النصر"، وكانت الطبقات المسحوقة لها مكانتها في نصوصها، وكأنموذج لذلك نصها: "صمت وحفيف"، حيث تقول: "أين حذائي الذي اهترأ من الغوص في وحل الظلم والاغتياب؟ في السّوق العتيق.. حيث عزف الفقير معزوفة الشّوق.. لحلم رغيف بزيت وزعتر.. وكوب من الشّاي تنبعث منه رائحة نعناع.. بنكهة بستان جدّي.. وينابيع جرت من جبهات الكدّ والعمل..". وهي تربط دوماً الفقراء بالخلق ودماثة الأخلاق رغم فقرهم، وهي ترفض العبودية فتقول: ".. أريد أن أصرخ.. لا في وجهك.. بل في وجه العبودية الآسرة".
الأم العاطفة والحنان والذكرى والتأثير التربوي كان لها مساحة كبيرة في وجدانيات الكاتبة، وبالكاد يخلو نص من الإشارة إلى الأم مباشرة أو عبر الرمز، وأكتفي بالإشارة إلى نص "في يومك أماه": "ما زالت تسكرني رائحة الهيل.. من قهوة كنت فنّها تتقنين.. ورائحة خبز الصّاج تفوح.. أمّا أقراص الزّعتر.. السّابحة في الزّيت.. فطعمها لن يطغى عليه أي طعم.. أّمّاه." بينما الفلسفة والحكمة كانت تختصر النصوص عامة بعبارة داخل أو في أواخر النص، ومن هذه الحكم على سبيل المثال: "لا ترموا حجارة في بئر الذكريات، فقد تشربون منها ذات يوم"، "البحر يعطش كما الصحراء، الصحراء تتنفس ماء البحر المالح، ويبقى كلاهما يبحثان عن الماء للارتواء"، "بحر الأحلام بلا منقذ، والعوم في الأعماق على مسؤولية العائم"، "تمتع بالحلم ما دمت في غفلة من اليقظة"، "اجعلي لك من حامض الذكريات، عصيراً حلو المذاق"، "لا أحب القلائد الضيقة، تخنقني وتبرق في وجوه الآخرين".
وهكذا وفي جولة سريعة في نبضات ضمير وعدلة شداد، نمرّ في جولة من جمال من البدايات حتى النهاية، وإن كان يستحيل أن يكون هناك عمل متكامل بدون بعض الهنّات ونقاط الضعف العابرة، فالنصوص التي بين أيدينا ليست بالكتاب المقدس، فالقارئ سيلمس بعض التكرار في النصوص، وإن كنت أعذر الكاتبة من زاوية أن هذه النصوص كتبت ونشرت عبر سنوات طويلة، ولم يتم إعادة تحريرها حين نشرها في كتاب يضمها بين جنباته، إضافة إلى أن استخدام النقطتين المتتاليتين (..) يتكرر دوماً بين العبارات، وكان الأجدر استخدام إشارات الترقيم الأخرى، كما أن العديد من النصوص أخذت طابع السرد أكثر من اللازم وكانت تحتاج إلى تكثيف اللغة أكثر.
وهناك ملاحظة فنية حول طباعة الكتاب وتنسيقه، فالكتاب الأول هو كأساس البناية في مسيرة الكاتب، وكان سيكون أجمل لو كان من القطع المتوسط وليس القطع الكبير، ولو جرى الانتباه لنوعية الورق، فالورق كان أبيض متعباً للعينين، والإهداء كان طويلاً وكأنه نص وكان يمكن تكثيفه واختصاره، إضافة إلى أن كلمة الشكر والتقدير كان يجب أن تكون أقل بالمساحة التي أخذت صفحة كاملة بذكر الأسماء وكل من شجع الكاتبة في مسيرتها الأدبية، وهذا كان يمكن اختصاره بعبارات مكثفة عامة معبرة، إضافة إلى وجود تقديم للكتاب في بدايته وهذا لا اعتراض عليه، لكن لم تجر العادة أن يكون هناك تقديم آخر في نهاية الكتاب أيضاً.
ومع هذا فالجماليات والبوح الوجداني في الكتاب يشار إليها بكل احترام، ولعل الكاتبة مع مولودها القادم أو طبعة أخرى من الكتاب نفسه تتمكن من تتجاوز هذه الهنّات، حتى يحلق القارئ بفضاءات نقية من الجمال، وبدون اعتراض من سحابات عابرة.