بإدانته لما يسميها بالحساسية التقليدية في الكتابة، لا يحاول إدوارد الخراط كتابة رواية بمواصفات حداثية وحسب، بل يراود نفسه بأن يجعل من الرواية وسيلة لزعزعة أركان النص، وتفجير الممكن اللغوي، وتجذير الوعي بمقاصد الفن، وتوطين مفهوم الحداثة، اعتماداً على مختبر كتابي أحدث. والأهم أنه يراهن على وعي قارئ نوعي بتلك الوصفة المعقدة، لتحريره مما يعتبره سلطة. فالحساسية التقليدية التي يصفها بالغثاء هي «في نهاية التحليل رافد من روافد السلطة في الواقع»، إذ لا يتردد عن إعلان تأفُّفه منها بالنظر إلى كونها المسؤولة عن توطين نظام القيم السائد على المستويات الاجتماعية والثقافية.
من ذلك المنطلق الصدامي يرفع لافتة «الحساسية الجديدة» بما هي تغيير جذري للقيم الفنية، التي تستولد بالضرورة «الكتابة عبر النوعية» بما تختزنه من طاقة لتحطيم الحواجز بين الألوان الإبداعية. فكل كتابة لا تستهدف تطهير القارئ من تقليديته، هي كتابة سلطوية فاسدة. ومن تلك المنصة السجالية يبتني نصه، ويقيم دعائم تنظيره ليقوّض الحساسية التقليدية، التي ينتمي لها مشاهير الكتاب المصريين والعرب حسب قوله فهم «الذين استولوا بمعنى من المعاني على السلطة الأدبية في ساحتنا».
كذلك يتهمهم بأنهم «الذين حملوا بكفاءة متفاوتة عبء مرحلة الواقعية الاجتماعية بعطائها المحدود. وقد أسهم جحفل كبير من الكتاب الأوساط، أو الأكفاء، في هذه المرحلة، لعل معظمهم الآن قد نسيته الذاكرة الأدبية». لكأنه بانتقاده للمحفوظية وما يحفّ بها، يردد انتقادات ألن روب غرييه للبلزاكية وملحقاتها. كما يعيد إنتاج صرخات ميشيل بوتور بالدعوة إلى قلب إنزال الرواية التقليدية عن مكانتها، وإرباك قواعد السرد.
ومن الواضح أن استنتاجه القائم على مفاعيل النسيان لم يتحقق بالصورة التي أرادها أو تخيل إمكانية حدوثها، إذ ما زال بعض كتاب الواقعية الاجتماعية يتمتعون برصيدٍ من الشهرة والمقروئية والمكانة الأدبية. وهو ما يعني أن القارئ الفاحص، العارف بقواعد وشروط الحساسية الجديدة التي بشر بها لم يولد بعد، أو أن تنظيراته كانت خارج أفق التوقع. وبالتالي يمكن القول بأن كل ما نادى به من نص جديد وقارئ أجد، يتحمله القارئ العاجز عن فهم واستيعاب الحساسية الجديدة، الذي منح الشهرة والمنزلة لمن لا يستحق، ولم يُقارب النصوص الأحدث كما ينبغي.
بهذا المعنى يكون إدوارد الخراط الذي توقع قارئاً نموذجياً لأعماله الروائية داخل أزمة من نوع آخر وكأنه يستولدها بغير إرادته، ليبقى نصه هو في عراء قرائي، إذ لا طاقة للقارئ العادي، وليد الحساسية التقليدية، بفهم الاستغراقات البيانية التي تسم نصه. وليس بمقدوره استيعاب مغزى كلماته المصوّتة الفارطة في الهذيان، أو ما يصطلح عليه بالإصاتة. ومن الصعب عليه امتصاص ثقل المعنى المنزرع بعمق في بنى النص الغائرة. ومهما بلغ من كفاءة التلقي سيقف عاجزاً قبالة تلك الحالة من الوجد اللغوي الذاهب إلى حافة التصوف، وهو ما يعني أن تراكيبه التي يريد بها الوصول إلى غبطة الاستبصار، التي يلوّح بها، لن تكون في متناوله.
بالإضافة إلى تلك الاشتراطات الوعرة، تأتي اللغة البدائية التي لم تستعمل من قبل، حسب مرئياته، فهي تعمل بمثابة الحاجز النفسي والفكري واللغوي لوعي نصه. كما تزدحم رواياته بسيناريوهات فارطة في التخييل، وإشارات غرائبية، وكائنات خرافية، وطقوس خارقة تتجاوز المألوف، إذ ينبغي على القارئ أن يكون على دراية ثقافية بنرسيس، وحتحور، والرخ، ورع، وأوزيريس وعشتاروت. كما ينبغي له أن يكون على درجة من التماهي والوعي بالإشعاعات الصوفية والمفردات الدينية كالشاروبيم، والصاروفيم. الأمر الذي يجعل من نصه حقلاً مفخخاً باللوغاريتمات الأسطورية، خصوصاً تلك التي تحمل طابع الرواية القصيدة.
إن ما يقترحه إدوارد الخراط لتحديث الكتابة الروائية يرفع من منسوب التجريب، ويحرض على التغيير، إلا أن كل تلك المقترحات الفنية الغائمة لا تهب القارئ دليلاً مفهومياً مقنعاً إلى النص الروائي الجديد، بل تقدم له منظومة من النماذج المبهمة. فهو يميل في «أنشودة الكثافة» وهو عنوان له دلالاته الحداثية ككل عناوينه الدالة، إلى أن وظيفة الرواية «تفسير، وسؤال مستمر، كما أنها رؤية، فهي سعي إلى مشاركة في معرفة ملتبسة من نوع خاص، للنفس والعالم معاً، منصهرة في وحدة تجمع بين النظام والتناقض معاً، ويلتئم فيها الشتات من دون أن يمحى».
وهذا المزيج من العبارات التبشيرية لا يبتعد عما يقترحه تيار الوعي الذي سماه «سيل الوعي». وينطبق في جانب منه على روايات عربية أيضاً، تلتقي مع مصطلح الرواية الفرنسية الجديدة التي تهدف إلى الذاتية التامة، إذ لا تتجلى كفاءة الروائي في امتلاكه لما يقوله وحسب، بل من طريقة القول كذلك بحرية مطلقة. وهنا يكمن سر مخاصمته للحوار باعتباره أحد مدّنسات الكتابة الروائية، وحيث يقيم سلطة الروائي الاستحواذي مقام سلطة الرواية الاجتماعية التي يريد تدميرها.
أما في ما يتعلق باللغة، التي تشكل جوهر اشتغاله فيقول في «مهاجمة المستحيل» بما يحمله العنوان من تجريب وتدريب على التجاوز «هنالك أيضاً الوجد باللغة، لا بما أنها لفظية ظاهرية فقط، بل بما تتضمنه من بنية موسيقية ومن نسيج سحري موسيقي، محاولة الغوص إلى طبقات جيولوجية بدائية في الحس». ليستكمل انفعاله الحسّي باللغة في «مهاجمة المستحيل» أيضاً «إن اللغة عندنا بطبيعتها وبأصولها وبما تجري بذلك التقاليد الألفية، لغة إلهية، لها إذن خصيصة القداسة، سطوتها كاملة وثابتة إلى الأبد. ذلك تراث فادح الثراء، لا يكاد يطاق. وإذن فإنني أسعى، دون أدنى تنازل وبحرية أريدها أن تكون كاملة «هل يمكن أن تكون؟» إلى الحفاظ على هذا الثراء الفادح وإلى مصارعته معاً».
وهو عندما يموضع نصه على حافة الانئسار لإلهية اللغة التي يستخدمها، وفرصة ابتكار لغة وضعية تتناسب مع دنيوية النص، فهو إنما يصارع الثراء اللغوي بلغة في طور التشكيل الذاتي، ولكن من دون ملامح. ولذلك يميل في «انشودة الكثافة» إلى أنه يمتلك «سواء في اللغة أو في التركيبة الفنية كلها تلك التعددية التي تطمح إلى الانصهار في كل متماسك، ليس أحادياً أي منولوجياً، بل متجاوزاً التكاثر ومحتوياً إياه». الأمر الذي يفسر عنده ذلك التواشج والتشابك في مصادر الصوت الماضوية والحاصلة آنياً والممكن حدوثها مستقبلاً، وبالتالي يصعب على القارئ فرز الأزمنة وإعادة ترتيب تعاقبها.
إنه يكتب الرواية، ويكتب عن شروط إنتاجها المتعالية، حيث يرى في الرواية لاهوتاً جديداً، مجسداً بوعي الذات الكاتبة. وهنا مفارقة تحتاج إلى حل أو مفهمة. فاللاهوت من المطلقات والشموليات التي تتنافى مع الفردانية التي تنكتب بها الرواية. في حين يحاول الإنسان الانفلات منه أو تضئيل سطوته. فيما يطالب القارئ بأن يفهم هذا اللاهوت ويفكك أليافه التعبيرية، إذ تجيء طروحاته ضمن ما عُرف بسلطة القارئ، المتحدّر من فكرة «الجمهور الجديد» وصولاً إلى القارئ النموذجي الذي شكل أسطورة معرفية/ جمالية في حقل التلقي. بمعنى أن إدوارد الخراط يحلم بالقارئ الذي يختزن خبرات الوعي الناقد في مقاربة النص المنقرئ.
على هذا الأساس يحاول في «الحساسية الجديدة – مقالات في الظاهرة القصصية» تشييد ميثاق قراءة يستجيب للتبدّل النوعي للرواية التي أصبحت برأيه «اختراقاً لا تقليداً، واستشكالاً لا مطابقة، ومهاجمة للمجهول لا رضى عن الذات بالعرفان». فهذا هو الميثاق الذي يجعل قارئه بمثابة الكاتب الضمني لنصه، الذي يعي «تقنيات الحساسية الجديدة: كسر الترتيب السردي الاطرادي، فك العقدة التقليدية، الغوص في الداخل لا التعلُّق بالظاهر، تحطيم سلسلة الزمن السائر في خط مستقيم، تراكب الأفعال، المضارع والماضي والمحتمل معاً، وتهديد بنية اللغة المكرّسة، ورميها – نهائياً خارج متاحف القواميس، توسيع دلالة الواقع لكي يعود إليها الحلم والأسطورة والشعر، مساءلة –إن لم تكن مداهمة– الشكل الاجتماعي القائم، تدمير سياق اللغة السائدة المقبول، اقتحام مغاور ما تحت الوعي واستخدام صيغة الأنا».
في هذا المكمن تتكثف طروحاته، أي في الوعي القارئ، أي في تفعيل النص من خلال التعاضد التأويلي لتفادي القراءات الضالة، أو تلك التسوية السيئة ما بينه كروائي وما بين القارئ كمستقبل. كما يفترض التحليل السردي ما بعد البنيوي، فهو يميل إلى تحفيز خبرات القارئ الأدبية والحياتية، كما أنه ضد فكرة تحييد تجاربه بمعنى أنه مع الوعي الناقد بما هو المعادل للوعي القارئ المنذور للحفر في الطبقات التحتية للنص وإعادة تشكيل الرواية المقروءة تأويلياً، وبناء نسق أفكارها وقيمها.
إن روايات إدوارد الخراط لا تمتلك ذلك الترتيب الإخباري التعلمي المنظم، وهنا يكمن سر شكلها المنفرط سردياً، وكأنه يطالب قارئه بقراءة الرواية كعملية بناء من موقع القارئ، وابتداع قالب روائي معاند للنمذجة والتنميط، حيث يتوق إلى انتخاب قارئ من نوع خاص، قارئ نموذجي يتجاوب مع طريقته في البناء ككاتب نموذجي بمقدوره التهوام الفاعل في غابة سرده الروائي، بكل ما فيه من إشارات عصية على التفسير أو حتى التلقي المباشر، بمعنى أنه يطمح إلى تجذير فعل القراءة الجيدة، التي يهتدي فيها القارئ إلى مراداته مهما ازدحمت الرواية بعلامات مضلّلة.
بموجب درايته وتنظيراته الحداثية تلك كتب الرواية التي يريدها.. وافترض أنه أنجز الرواية المحتشدة بالأشواق الصوفية، المتأرجحة على مهاد لاهوتي، أو ما سماه في أنشودة الكثافة بالرواية التي هي «خبرة من خبرات المعرفة الكلية». كما افترض أن ما أنتجه من روايات كفيل بطرد ركام الرواية التقليدية، وإرغامها على مغادرة المشهد، اعتماداً على وجود قارئ بمقدوره افتكاك قواميسه اللغوية والأسطورية، ووعي تراكيبه السردية، والتماهي الآلي مع ما عدّده من مآثر الحساسية الجديدة مقابل رذائل الحساسية القديمة، وكأنه يحمّل القارئ وعي الحداثة كمنظور، لا كقيمة على اعتبار أن الكائن/ القارئ الحداثي نتاج الحساسية الجديدة.
(كاتب سعودي)