يرى الناقد أن القصائد المختارة لفرات صالح من "غيوم تكركر" تمثل تعبيراً صادقاً لواقع العراق المعاش، وفيها عشّق الشاعر الوصف السردي بالشعريّة، ومزج الديني بالدنيوي، والمجهول بالمعلوم، والماضي بالحاضر بما يشبه الملحمة، ليؤسس لمخرج محكم للحبكة في القصيدة.

قراءة لثلاث قصائد

من مجموعة «غيوم تكركر» للشاعر فرات صالح

سعد الدغمان

المجموعة الشعرية التي صدرت للشاعر البصري فرات صالح مؤخراً عن دار العالم ببغداد، حملت عنوان "غيوم تكركر"، تقع في 123 صفحة من القطع المتوسط، وحملت اسم إحدى قصائده التي تضمنتها المجموعة التي احتوت على ثمانية عشر عنواناً منها: بيض شياهك ودمي أخضر، الطريق الى الكوفة، نظارات جدتي، أحزان الموالي، أيوب البصري، مهما حاولت، وغيرها. لوحة الغلاف رسمها رينيه ماغريت، بينما صمم غلاف المجموعة صدام الجميلي، المجموعة هي الثالثة لفرات بعد مجموعتين إحداهما شعرية "وصايا الطباشير" والمجموعة الثانية قصصية "عربة تحرسها الأجنحة".

سنتناول مجموعة فرات الأخيرة "غيوم تكركر" على تتابع بين الحين والحين، لنقف على تفاصيلها وما ضمنها فرات صالح مما أجادت به قريحته الشعرية، حيث أراد فرات أن يوحي عبر عنوان المجموعة للقارئ بشكل ضمني،لكنه جاء واضحاً مفهوماً (ربما بقصد من الشاعر) بأن الأقدار تحركنا كيفما شاءت دون أن تحسب لما نعانيه أي حساب، لذلك وبعد أن نحشر في زاوية بعينها، فأن الأقدار ذاتها (المجهول) الذي استعاض عنه فرات بالغيوم، تضحك منا، وتضحك حتى تتعالى ضحكاتها الى مستوى أن (تكركر)، لذلك أفرد الشاعر لمجموعته هذا العنوان "غيوم تكركر".

تراءى لي لو أن فرات نعت مجموعته باسم "ظهيرة الألم" وهي مفردة تضمنتها إحدى قصائد المجموعة، بدلاً عن "غيوم تكركر" رغم غرابة العنوان ونجاحه بشد القارىء، رغم ذلك لو استعاض بـ(ظهيرة الألم) لكان المعنى أجزل وأوفى، ولكن دائماً ما يكون المعنى في قلب الشاعر.

انتقينا ثلاث قصائد من مجموعة فرات الأخيرة، لنقف على محتواها وما يريد الشاعر إيصاله عبرها لقرائه، علنا نوفق بتحليلها.

الكم الهائل من المفردات التي استخدمها فرات صالح في قصائده التي احتوتها مجموعته الشعرية "غيوم تكركر"، جاءت جزيلة المعنى وافية، حددت مساحات الألم التي يعانيها جيل بحاله، ولم تكن تعبيراً عن معاناة فردية عاشها الشاعر، رغم إن كل قصائده احتوت ذلك المعنى ورسمت حروفه صوراً مقروءة ضمنها أبياته. حاول فرات ونجح في أن يلون معانيه وبشكل ضمني بزخرفات الماضي، وأستعاد عبر ذلك ذكريات كثيرة عكسها على الواقع الأليم لحياة حافلة بالألم واللوعة، لكن صورة استعادة الماضي والولوج منها الى الحاضر جاءت لتحاكي تجارب شعراء كبار، كان لهم السبق في ذلك المسار، كما في قصيدته " بيض شياهك.. ودمي أخضر"

كنت طفلاً

وكانت لي جدة تحتفي بي

وبالبرسيم الذي تقضمه بقراتها

كل صباح

وكان لي في بيتها سدرة

كالتي في بيت جدك

وكان الطريق إليها سالكاً

بأبوذيات جدي و زهيرياته

وبقصائدك

التي أينعت في جيوب أبي

كنت غضاً

لكنك تركت لي نقرة السلمان

ويلج فرات من بين أبياته التي تحاكي الماضي بوضوح، قاصداً منها مخاطبة القارىء ودغدغة مشاعره بزمن جميل غابر شكل هاجساً يومي في ذكريات الناس، مقارنة بواقع مأساوي ثقيل الوطأة ليعرض عذابات من عانوا من أشكال التعسف والتنكيل على يد أنظمة تعاملت بالقسوة مع معارضيها، حتى باتت مفردة (نقرة السلمان) تشكل رمزاً للتعسف و الاضطهاد في ذاكرة جمعية لشعب أو لأجيال اختلفت في تصوراتها، لكنها أجمعت على توافق هذا الرمز المخيف والذي يشكل إيحاءً للتغييب والقسر.

استخدم فرات صالح في مجموعته الأخيرة "غيوم تكركر" الإيحاء بشكل مفرط، حتى يخال للقارئ إن قصائده كانت تؤكد على تفرده في هذا الأسلوب، أو حصره لشعره في هذا المعنى، -والذي إن صح- فانه يدخل في باب الوجداني أكثر مما ينعت بالوصفي، والشعر الوجداني باب واسع وقديم قيل فيه الكثير ونظم منه أكثر، وبات منافساً لصنوف الشعر الأخرى، وله شعراءه الأفذاذ منذ العصر الجاهلي حتى عصرنا الحاضر.

مازج بين الغيب والوصف، بين الغائب والحاضر، بين ضمير المتكلم والغائب، بين المنفي والمبني للمعلوم، بين الملموس والموصوف، حتى باتت قصيدته جامعة، كما انه مزج بين المتناقضات، كما في:

كشياه بيض

ترفع عن ظهر الأرض

حشيش الغبار

وتمنع حنجرة الزهرة

تاتأة العطر

استخدم فرات التشبيه في أكثر من مكان ليوصل المعنى وإن كان ضمنياً، لكنه جاء بوضوح تام ليجسد المعنى المكاني للتشبيه والدلالة، فكانت أبياته جلية في تحديداتها عبر استخدام المتضادات اللغوية.

أتبعها الى المقاهي

في جبهة النهر

ضحك النادل الكلداني

من قهوتي المرة

وهو لا يرى دمي يزحف اخضر

تحت الطاولة

عمد فرات لتضمنين آبياته بتشبيهات متناقضة، جمعت بين الرمز الديني والدنيوي، حتى أضفت على القصيدة (المبهم) الذي قد يساء فهمه ما لم يكن في سياق فهم القصيدة بصورة عامة، فخلط بين ماهو زائل (توني بلير) وماهو خالد عظيم (باسمه العظيم الأعظم)، وإن كان يقصد (بلير)، إلا إن سرعان ما يقفز الى ذهن القارىء الجانب الديني من المعنى عبر هذا الإيحاء، وجاءت صيغة الكلام بالمنادى عبر حرف (الكاف) الذي يعود على بلير الزائل، ومن جهة أخرى منح خطابه بعداً قومياً عبر تباعد المسافات وتقارب الموصوف بنواح عديدة تشي بتقارب الحس مابين صنعاء وبيروت، دافعاً ببعده حتى (أخر الدنيا)، ليوحي للقارئ عبر تلك المقاربة إن ما يجمع بين تلك المسافات إحساس جميل يربطه خيط من أسى لكنه جميل أيضا.

وبصيغة المخاطب يدفع فرات صالح بأبياته ليشي بحقيقة إحساسه تجاه ما يجري في عالمنا، الذي مهما أتسع إلا انه بات أكثر ضيقاً مما تصورنا، مستبعداً أي أمل بالآتي بل يكرس وجعاً ينقله بتشاؤم مفرداته في جواب الاستفهام ب (قد) في البيت السابق، ليذهب لوصف المدى بصيغة المطلق (أضيق)، وهي من باب (أفعل) بمعنى أكثر ضيقاً.

ليعود الى صيغة المجهول ثم الأمر المصحوب بالوصف، ومن ثم التناقض الحركي الوصفي، كما في (الأوبرا، الرضوانية)، مستخدماً مفردات محلية (الشر وكي) في وصف الحالة، - لدلالتها- وهي تقريب جيد لاستيعاب الحدث عبر شعره، ليعود بعدها ويختم قصيدته (بيض شياهك... ودمي أخضر) بوصف هذا الشر وكي عبر محلية التسمية كما ذكرنا، بأنه لا يعرف عن دنياه أبعد من حياته اليومية، التي امتزجت بطيبة هذا الوصف، ومحدودية الإطلاع، حتى انه لا يعرف شيئاً (عن الطائرات)، وهو رمز استخدمه فرات لاتساع العالم وترامي أطرافه، ورغم هذا الأتساع لا يعرف الشر وكي عنها أي الطائرات (غير قنابلها) التي ترمى، وهي ضمنية معبرة لما مر به العراق طيلة عقود من مآسي ونكبات استمرت حتى يومنا هذا، ومن (الأرض) غير المواضع وهي في ذات السياق الوصفي لما جرى ويجري، وتحمل أهل الجنوب مثل باقي العراقيين وزر وتبعات هذا الألم.

أجاد فرات صالح في (بيض شياهك.. ودمي أخضر) لكنه أبدع في المقاربات التي ضمنها قصيدته، مابين تنقله من صيغة المخاطب الى المجهول، ومن الوصف الى التناقض، حتى يخال للقارئ إن ما ضمنه فرات تلك القصيدة هو عبارة عن قصائد عدة صقلت لتشكل في بوتقة واحدة مجموعة من الأحاسيس المتناقضة في سياقها، قدمت من الماضي عبر حكايات الجدات، مروراً بجيل الآباء والشعور بالتمسك بالأرض انتقالاً الى المأساة، ثم تداخل الأديان، والغيبيات وصولاً للشعور القومي الذي يجمع امة متباعدة الأطراف مختلفة التوجهات، حتى يضع رحال أبياته ليختم قصيدته بمعاناة أقرانه مستخدماً وصفاً محلياً بحتاً، وليضفي على قصيدته صبغة محببة، وتصوير جميل لمعاناة طالت وكرست همومها مراحل تاريخية، لم يكن من نصيب الإنسان فيها سوى ضيق المتدارك، وأضيق الأفق.

أخي..يا من تحملني من صنعاء

الى بيروت

الى آخر الدنيا

خيطا من أسىً شفيف

قد يكون المتدارك ضيقاً

لكن المدى أضيق

دع الموج

وأصغ الى الجوق

يعزف الدزنتري

على طبولٍ من صفيح

في دار الأوبرا في الرضوانية

اسمع المقيم على تخوم المقبرة

اسمع الشروكي بمحض إرادته

الذي لم يعرف عن الطائرات

غير قنابلها

ومن الأرض غير المواضع

وفي طريقه الى الكوفة جمع فرات الزمن بكل تفاصيله مشبهاً إياه بالسيف، بما يحمله من معان عدة تفرضها القسوة حيناً، والعدل أحيان كثيرة، والجدوى من طريق السير هذه بقداستها نحو المقصود، وهنا داخل فرات مابين العاطفي والديني ومنه يطرق باب التأثير على القارىء بذكاء حين اختار عنوان القصيدة "الطريق الى الكوفة"، وهذه بحد ذاتها استخدام موفق عبر الإيحاء المباشر لذهن القارىء بأن هناك شيء ما لابد أن يجذبك في آبيات القصيدة (الكوفة)، مقر الخلافة والحكم ودار الإمارة، وهذه الرمزية الخالدة عند المسلمين تستحق هذا العناء، والسير نحو التبرك بإرث الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ومكانه المقدس، داخل فرات الوصف ليحكم السرد التاريخي لتلم المآثر وللمسير مستخدماً تأثيرات وتقلبات اللغة وحالاتها بإتقان مابين المفرد والجمع، ولإضفاء مزيد من الهيبة على آبياته أولاً عبر التوظيف التاريخي في السر، يضاف إليه ما لتلك المسيرة الروحية من هيبة أيضا، مستحضرا التاريخ بنجاح استخدامه لتلك التقلبات مابين اللغة وتأثير التاريخ برمته الديني والسردي.

(منذ قرون ولا نصل) وهذه بحد ذاتها مقاربة أراد فرات صالح من خلالها تكريس معنيين الأول ملموس ببعد مسافة السير، والتعب والإجهاد المرافق لتلك المسيرة التطوعية وما يرافقها من تبعات كانت في حينها تعد من الذنوب التي لا تغتفر، والثاني محسوس ويمثله الجانب الروحي من الموضوع، وعلاقة الإنسان بالدين والمكانة الشريفة السامية لصاحب المكان المقصود بالمسير (الإمام علي)، مهما سرنا وابتعدت بنا مسافات المسير، فذلك مؤكد إننا لا نصل ولن نصل لتلك المكانة السامية الشريفة، لذلك كان فرات ذكياً لأبعد الحدود في المزج مابين الملموس والمحسوس وتوظيفه باسلوب وصفي ممتع يقفز مابين القرون التي تأخذ الناس بمسيرها نحو الكوفة ولاتصل.

كان في الطريق كحد السيف

وكنا حفاة

في مجاميع نسير

وفرادى

منذ قرون نسير

ولا نصل

استعمل الشاعر التنوع في أبياته مابين العددي والشكلي، فيما وظف التخيل مرات عدة، ليظهر صورته الشعرية برموزها وكأنها لوحة تدفع بناظرها الى التعمق في أجزاءها، والخوض بتفاصيلها للخروج بمحصلة الفكرة،لكنه ترك القارىء أو الباحث عن غموض اللوحة الشعرية يواجه نوعاً من التحدي عبر هذا الغموض الذي لف فرات قصائده به، سرعان ما يكتشفه المتتبع سر ذلك الغموض الذي أجهد نفسه عناء البحث عنه بان طلاسمه كانت أمام عينيه لكنه لم يراها، وان الشاعر قدمه له بيسر ودون عناء وبحبكة عالية، وهنا نقول لفرات صالح أبدعت في تكوين حبكة النص التي تنقلت بها من الغامض والمبهم الى الوضوح المباشر، باستخدامك أسلوب السهل الممتنع لترتقي بنصك الى حيث جمالية الشكل وشمولية التعبير الحسي والفني.

كان الطريق كحد السيف

وكنا حفاة

في مجاميع نسير

وفرادى

منذ قرون نسير

ولا نصل

حتى كأن الكوفة غابت

إلاٌ عن الخرائط

كان فينا عاطلون عن المرايا

وعن الحياة

وكان سنّة ومسيحيون وصابئة

وموظفو دولة وغجر

كنا جمعاً وقلوبنا لم تكن شتى

الدمج مابين الوصفي والعددي والغموض، ثم إتقان الحبكة وإحكامها بجلاء المبهم في قصيدة فرات "الطريق الى الكوفة"، قادته في الجزء الثاني منها للتركيز على الإيحاء الديني وبصورة تركيز على الموروث، ليبدأ (يا كوفة يحكى أنه)، وهنا يعود الشاعر ليوظف الآرث الجمعي لشريحة واسعة من المجتمع عبر الحكاية وهي بحد ذاتها فن، مثلها مثل القصة لها أطرها وأبعادها وتوصيفاتها، ويعود فرات مستخدماً تداخل هذا الآرث ليضمنه أبياته، وليخرج بألق وزهو المنتصر حين يشي للقارئ بما هو معلوم لديه، لكنه مدعاة للدهشة والاعتزاز حين تسمعه أو تقراه عند غيرك وبشكل دائم، ليدخل بتأثير تلك الحكاية الى حيز اللاوعي لدى القارىء، ويأخذه الى مساحات من التصور والخيال.

ونغني :

يا كوفة يحكى أنه

يبرئ الأكمه والأبرص

وبيديه العاريتين

يشفي القلوب المحزوزة

فتأتلق الأرواح على بابه

وكان النشيد غيمةً

فوق رؤوسنا المغبرة

يقودنا كمزمار مسحور

الى الكوفة

الكوفة التي لم تتسنّ لنا

مُذ خالفت عليّاً

والطريق إليها

كان كحد السكين

وعبر ما تمثله الكوفة في الماضي من أثر بقي صامداً مخلداً وسيبقى للأبد، يلج فرات من باب الحضارات ويحدد السومرية منها ليترك أثراً لدى القارىء بان جذور منطقة الأهوار ترجع الى حضارة عريقة لم تضمحل، بل توارثها بل توارثها سكان المنطقة (المعدان) ليشكلوا استمراريتها، إلا انه يعود في السياق لمزج التعبير القرآني ولو بالمعنى الضمني (قيل ابلعيهم، تلقف ما يأفكون) إشارة للآيات الكريمة (يا أرض ابلعي ماءك)، (وأرمي عصاك)، ويستمر ليدخل مشهداً من الحاضر القريب عبر السرد الذي يطغى عليه الجانب الروحي بالإيحاء المبطن لحوادث سياسية حدثت في ثمانينيات القرن المنصرم، وتركت أثرها على الشارع العراقي، ما يفسر التدرج بأبيات الشاعر نحو تناول الحدث بمستويات مختلفة ومنها النقد السياسي، وهذه تحتسب لفرات.

دخل السومريون من باب الأهوار

-ويسمى باب المعدان أيضا-

جفّت ألواحهم وأسماكهم

وثقبت الشمس قدورهم وقواربهم

حتى استعملوها بيوتاً للراحة

قيل ابلعيهم أيتها الأرض

فغصت بجواميسهم

وتجشأت أحلامهم

لكن أمهاتهم كنّ يفتحن

عباءاتهن سراً لهواء عليل

يهب من الأعالي

أو يهب من الكوفة

ليختتم المشهد برمته بان الطريق الى الكوفة كان يعج بتداخلات كثيرة، ليس أقلها الموت الذي يلف المسير بعباءته التي تفضي الى (تنور) إشارة الى فورة الغضب وقسوة السلطة،إلا إن هذا التنور بتصاعد سعيره يفضي الى ثلاثة أقمار تصطبغ بلون الدم لتمنح الحياة نبضها الجديد.

الطريق الى الكوفة اشببها بملحمة جمعت بين السرد الوصفي والرمزي، واحتوت السيرة وعبق التاريخ والمفاخرة، ثم ذهبت أبياتها بعيداً لتدخل من باب الشعر السياسي، والذي يشكل بحد ذاته ثورة على الواقع، ثم لم يغفل الشاعر إن كل ثورة لابد لها من رمز تستأثر به، فكانت الكوفة برمزيتها المعروفة، وكانت (يا سيدنا) الذي جاء على ذكره فرات رمزاً مكملاً لصيرورة الديني، وعبر ربط ما ذكرناه تكتمل الصورة الشعرية لملحمة الطريق الذي أصر فرات صالح على نعت السائرين عليه منذ قرون بأنهم لم يصلوا.

"يا كوفة يحكى أنه أقام الجمعات

وان كلماته تلقف ما يأفكون

بلا أفعى وبلا سحرَة

يا سيدنا

نحن محبوك ومريدوك

الساعون الى الكوفة

ظللنا بغمامك في هذا الهجير

وأمطرنا حٌباً وعافية

فنحن سيفك

ونحن كتابك الذي فيه تقرأ

لكن الطريق الى الكوفة

كان كحلق التنور

وعلى بوابتها

ثلاثة أقمار بلون الدم

تنبض بشدة.

وعن جدته أختار فرات نظاراتها "نظارات جدتي"، ولأنها ترى العالم بأسره عبرها، فقد منح فرات صالح تلك الجدة بعداً خالداً من خلال عدساتها التي أفنت عمراً مديداً تبحث عنها، لتضع نهاية لحكايتها التي لفها الشجن والآسي بفقدان من تحب، مثلها مثل كل أمهاتنا وجداتنا اللاتي عكفن على تتبع أخبار الأحبة في المنافي، أو لازلن يترقبن خبراً من غائب قد لا ترجعه السنين، وحمل نعتاً ثقيل الوطأة (مفقود).

أربعون عاماً

وجدتي

تبحث عن نظاراتها

لتصوغ نهايةً

للحكاية الفاغرة

ليعود أبناؤها

من الأرض الحرام

وأحفادها من الشتات

أربعون عاماً

والحكاية معلقة بالسقف

كقنديل مطفأ

تنزّ دماً كلما حركتها الريح

وكلما ذهبت جدتي

لتغفو..

التقارب الذي ذهب إليه الشاعر في "نظارات جدتي" كرس بلا حدود حالة أللاستقرار السياسي التي عاشها العراق حتى اليوم، فأشار الى الشتات أو (المهجر) وهو أدب يحمل على الآسي واللوعة والحنين للبعد عن الوطن. حاول فرات توظيفه في هذا الباب عبر حنين جدته ولوعتها التي ترتسم على تجاعيد وجهها بأثر فقد من تحب، ليدخل منه الى مستهل قصيدته التي أتسمت بالمجهول (لتصوغ نهاية)، (أرض الحرام)، (المنافي)، (محض طوابع).

جدتي ملكة الحكايات

تعجز عن نهاية لحكايتها

لتجمعنا من المنافي

محض طوابع

ومن الأرض الحرام

أقراصا وسلاسل..

لم تمهل الأرض جدي

ليكون سفيرها الى الشمس

ابقي فرات صالح قصيدته مفتوحة على تساؤلات عديدة لفها بالماضي، واستخدم الصفة والموصوف، وادخل النعت في طياتها، حتى تزاحمت آبياته بسيل من التركيبات والصور التي رسمتها آبياته ولم يفسر للقارئ سر تلك الأبواب التي لازالت مفتوحة على المجهول، حتى بعد إن اكتملت القصيدة. ذهب فرات ولم يسدل الستار على حكاية جدته التي لم تجد عينيها، لكنه استوقفنا على مبهم أخر حين قال: "البرابرة وصلوا".

لكنها أمهلت جدتي

أربعين عاماً

لتبحث عن عينيها

كي تغلق الحكاية

قبل وصول البرابرة

ثلاث قصائد لفرات صالح من مجموعة "غيوم تكركر" ذهب فيهن الى الوصف السردي، وحملها من الشجن ما يكفي دواوين، ربما خرج فرات بأبياته من تجربة البلد المريرة والتي لازالت تكرس المأساة، لكنه أجاد رغم أن الكثير من صوره الشعرية تكررت في أكثر من مشهد، وجاءت تداخلاته بمزج الديني والدنيوي، المجهول والمعلوم، السيد والتابع، الماضي والحاضر، لتضفي عبر دقة استخدامها وتوظيفها الصحيح ليؤسس لمخرج محكم للحبكة التي امتازت بها القصيدة عند فرات، إلا أن الذي يؤخذ على مجمل القصائد التي انتقيناها إنها تدخل في حيز المأساة لا الملهاة، وهي بكل تأكيد ناتجة عن صيرورة الحدث الذي عايشته طيلة سنين عجاف، فخرجت من إرهاصاته بتلك الصورة التي رسمها فرات من رحم تلك المعاناة، إلا إنها كانت تمثل تعبيراً صادقاً لواقع ملتبس ومعاش.