تروى القاصة العراقية تجربة قاسية من تجاربها وقت النضال المسلح شمال العراق 1980-1989وما عانته اجتماعيا من رفاقها في النضال ومحاولاتهم الإيقاع بها رغم أنها متزوجة من رفيق تحبه منذ بواكير صباها، وكيف عاملت القضية المؤسسة الحزبية مما شكل لديها صدمة في بداية احتكاكها العملي برفاق الدرب.

ليلة فقدت فيها الأمان

ناهدة جابر جاسم

بعد ما ودعت زوجي ورفيقي-عادل- في يوم صيفي حار ذاهبا مع مجموعة من رفاقنا الأنصار في مفرزة بريد إلى مقر  -لولان- (منطقة تقع في المثلث العراقي الإيراني التركي) وتركني في فصيل مقر المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي في قاطع بهدينان(خلف العمادية على مجرى الزاب الأعلى). كنت وقتها حديثة الالتحاق، مذهولة بالأفكار والأحلام، قادمة من مدينة جنوبية –الديوانية- ترزخ تحت قبضة الدكتاتور وأجهزته. وقتها كنت أظن أن الحزب عائلتي ورفاقي أخوتي، وكنت أتصرف مع الرفاق في تفاصيل اليوم من هذا المنطلق الطبيعي المتساوق مع مسار تجربتي الحياتية بمجملها في ذلك السن.

بعد ليلتين من خروج حبيبي، وفي مساء يوم صيفي صعدت إلى سطح قاعة الفصيل، وفرشت فراشي. كنت أحلم بالاستلقاء بعد عناء يوم عمل مجهد، كان يوم الثوار شاقاً على الرجال فكيف علي وأنا عشت في بيت مترف حتى أوج نضجي. كنت في الرابعة والعشرين من عمري. توسدتُ فراشي وحضنت وسادتي كحالي كلما سافر حبيبي مخدرة بدفء كلماته وعطر أنفاسه الحنون. كان فراشي جوار فراش رفيقي أبو نصار وأم نصار، وهدى وأبو سيف. 

خلدت إلى أحلام يقظتي اليومية راحلةً، وأنا في أول أيام فراقي لعائلتي ومدينتي وأهلي، حالمةً بحضن ولدي الحنون، الذي تركته دون وداعٍ، فقد التحقنا سراً دونَ أن نخبر أحداً عدا –صلاح-  ابن عمة زوجي، ورفيقنا والمطلع على حياتنا الحزبية السرية. التحقنا في أخر لحظة فقد أعتقل الشهيد المعلم من أهالي الدغارة –جميل مكط- في شتاء 1984وكنت على اتصال دائم معه والتنظيم الذي يقوده، إذ كنتُ حلقة الصلة بين التنظيم الذي أقوده وبين تنظيمه، وكان لصموده البطولي الفضل في تخليصي أنا وحبيبي من هول الاعتقال الذي خَبر حبيبي -عادل- هوله وقسوته حينما اعتقل مرات عدة. أسمع صوته هامسا لي بهار 

-                   خلصنا حبيبة منهم ومن هول قسوتهم ووحشية زنازينهم الذي لا يعرفها إلا من ذاق جحيم ساديتهم ومن تبرأت منه ملائكة السماء والأرض ، بهار أنهم بشر بلا ضمير ولا قيم إذا تخلصنا منهم ونجونا سنكون أسعد الناس.

وتحقق ذلك هاأنذا أنام وسط الرفاق على سطح قاعة الرفاق وحبيب عمري خرج بمهمة كنت سعيدة قبيل السقوط بالنوم رغم حزني لغياب زوجي في بمهمة.

كنتُ على وشك النوم، وكانت ليلة حالكة بلا قمر، لكن نجومها متلألئة ناصية حتى كأني أستطيع مسكها بيدي، أو هكذا كنت أتخيل في تلك اللحظة حالمة، مغتبطة لوجودي بين رفاقي، لكن جاء من يفسد عليّ لحظتي في الحلم والتذكر، ويجعل من ليلتي وليالي السنوات الأربع التي تلتها، ليالي قلق ورعب وخوف مركب من رفاق الدرب، ومن قصف متكرر من طائرات ومدفعية سلطة الدكتاتور، ومن المندسين بين صفوفنا. شعرتُ في الظلام بشيء يسقط على غطاء فراشي ويصدر صوتاً خافتاً في السكون. شيءٌ جعلني أنكمش تحت غطائي مترقبة، لحظات وسقط شيء أخر. أزحتُ الغطاء وبحثتُ حولي على ضوء النجوم، فعثرت على قطعتي حجر صغيرتين، وفيما كنت نصف جالسة سقطت الحجرة الثالثة فنهضت من فراشي مقتربة من حافة السطح وصرخت:

- من أنتَ؟

فلمحتهُ في الظلام بشعره الكث يسرع في التواري خلف بناية المطبخ. فكررت

- من أنت؟

 بصوتٍ جعلَ أبو نصار النائم مع زوجته ينهض من فراشه ويسرع نحوي. سأعرفه صبيحة اليوم التالي رفيق يدعى –أبو الوهم- يعيش الآن في لندن. كان يحتك بي وينظر نحوي بطريقة غير مؤدبة. اشتكيتُ لزوجي مرات عدة، فنصحني بتجاهله والتعامل معه بصورة طبيعية وبحذر أيضا. كنا في فصيل المكتب السياسي المشرف على تنظيمات الداخل، ولما كنت طيبة القلب بسيطة التجربة لم أدرك ولم أتخيل أن ثمة صراع داخل الحزب. صراعٌ مرير سيتكشّف لاحقاً. صراع بين جماعة باقر إبراهيم وكان عدنان عباس –أبو تانيا- مسئول الفرات الأوسط، وبين جماعة سكرتير الحزب وقتها –عزيز محمد-  وأبرز أطرافه –أبو ناصر- وكان يتوسط هذا الصراع ويخفف منه سكرتير الحزب الحالي –حميد مجيد موسى-. أتذكر وقتها كنت أرتجف من الغضب والرفيق أبو نصار يترجاني هو وزوجته:

- اشاششششششششش....... اسكتي لا تفضحين نفسك! 

- ماذا؟

تساءلت بصوتٍ خافت وكأنني مرتكبة ذنباً كبيراً!.

- بهار؟ أنت ما تعرفين الوضع سيقولون هي من اتفقت معه وغيرت رأيها! 

- ماذا تقول يا رفيقي؟!

- أسكتي للصبح أرجوك تحّلي بالصبر وبكرى تنحل المشكلة!.

كنتُ احترق وكل كياني يغلي لمأساة لحظتي البائسة وأنا وسط رفاقي وحلم حياتي في النضال وسطهم من أجل مدينة فاضلة!.

لم أنم ليلتها فقد أصبحت مرعوبة من الرفاق. سهرت حتى تباشير الفجر، وروحي تتحرق ألماً لما أصابني ليلة الأمس، من صدمة وحزن وعذاب وخيبة، حيث فقدت الأمان الذي كنت أظن أني بلغت ساحته، بنجاحي في الوصول إلى مقرات رفاقي الثائرين، وتخلصي من هاجس الاعتقال.

 كانتْ ليلة تعادل ليالي العمر كلها، ماعدا تجربة أخرى سأرويها لاحقا، عن رفيق آخر، كادتْ أن تصيبني بالجنون، وجعلتني ألعن الحياة ولحظة التحاقي برفاق الجبل. كانت ليلة قاسية أقسى من ليلة قذفي بالحجر. ليلة مريرة طعمها أشّد من الحنظل. ليلة لا يعرف مدى مرارتها إلا من عاشها. سأكتشف لاحقا أن ما حصل لي ما هو إلا شيء روتيني حصل لكل رفيقات درب النضال الصعب.

في صبيحة اليوم التالي لم أتمكن من تناول الفطور، وكان الجو في الموقع مضطرباً. طلبتُ من الرفيق–أبو داوود- كان وقتها مسئول الفصيل، الحديث على إنفراد، فوجدتُ أن له علماً بالذي حصل، بدأتُ الحديث بقولي:

- البارحة بالليل وأنا نائمة على السطح رماني الرفيق –أبو الوهم- بالحجر.    

فهز رأسه وقال:

- علمت يا رفيقة علمت!.

فقلت محتدمة بغضب:

- هذا اعتداء على إنسانيتي ووجودي وكياني

كم كانت فجيعتي وخيبتي مركبة عميقة، إذ وجدته يبرر فداحة الاعتداء، ويبسط الأمر وكأنه أمر هين ممكن تجاوزه، فقدم الكثير من الأمثلة مع رفيقاتي، وكيف تصرفنَّ، ثم شرح ما يتوجب عليّ فعله ليخلص إلى:

- رفيقة أنت تعرفين جيداً الحرمان الذي يعيش به الرفاق

أصابني الخرس، فتساءلت:

- هل الحرمان يبيح لهم الاعتداء على رفيقتهم و زوجها خارج في مهمة؟

أجاب مرتبكا:

- لا رفيقة لكن علينا معالجة الأمر بهدوء!.

- إي وماذا رفيق؟

- يعني أنت تعرفين كيف ؟

لم أستوعب ما كان يتفوه به "أبو داود". فوجدتني أحزر ما المطلوب مني، فقلتُ متسائلةً:

- إي رفيق ما المطلوب مني؟ هل تريدني أن اصمت؟

لم يكتفِ بذلك، بل أضاف:

- كما اطلب منك عدم إخبار زوجك الرفيق "عادل" عن ما حدثَ لك!.

أثناء كلامه كان صوت المحبة يقول له مع نفسي طبعاً:

- أنت واهم يا أبو داود!. سأخبره بما حدث.

 

  7-5-2015  كوبنهاجن