يتابع مراسل الكلمة في فرنسا هنا ما بدأه في العدد الماضي من الحديث عن مهرجان كان السينمائي الشهير، ويكتب لنا عنه بعد حضوره لفعاليته، يناقش اتجاهاته، ويتوقف عند أهم إضافاته، وما قدمه في هذه الدورة من أفلام جديرة بالمشاهدة، ثم يقدم لنا في نهاية الرسالة جوائز المهرجان المختلفة.

رسالة فرنسا

حصاد مهرجان «كان» السينمائي

الدورة 68 تدشن لمرحلة جديدة

صلاح هاشم

بحضور الأخوين كوين وأعضاء لجنة تحكيم المسابقة الرسمية، ورئيس المهرجان بيير ليسكور وكوكبة من نجوم السينما العالمية من أمثال الامريكية جوليانا مور والكندية ناعومي واتس والفرنسية كاترين دينوف والايطالية ايزابيلا روسوليني .. انطلق مهرجان "كان" السينمائي العالمي في دورته 68. وكما أكدنا عندما عرضنا للمؤتمر الصحفي للمهرجان تحققت توقعاتنا من أن هذه الدورة الجديدة - في الفترة من 13 الى 24 مايو – والتي ترأسها الرئيس الجديد بيير ليسكور، سوف تدشن لـ "مرحلة جديدة" من خلال تسليط الضوء على "الافلام الواقعية الاجتماعية"، وعرضها في فيلم الافتتاح. بدلا من تقديم أحد الافلام التجارية البلوكبستر ذات الانتاج الضخم الخارجة لتوها مصنع الأحلام والأوهام في هوليوود كما جرت العادة، كما في فيلم "أميرة موناكو" وفيلم "مولان روج" وفيلم "جاتسبي العظيم" الخ .. التي عرضت في حفل افتتاح دورات سابقة للمهرجان.

ملصق مهرجان كان لهذا العام

فيلم «الرأس المرفوع» يدشن لمرحلة جديدة
وربما تكون هذه اول "لمسة" من لمسات الرئيس الجديد للمهرجان بيير ليسكور الذي يريد أن يطبع المهرجان بطابعه ومنذ اول دورة يتراسها – هكذا فكرت - أن يدلف المهرجان مباشرة، ومنذ فيلم حفل الافتتاح الى "قلب" ولحم واقعنا السياسي المعاش بأزماته وحروبه ومشاكله وتناقضاته. والتكريس لتك الأفلام التي تناقش بجرأة وصراحة قضايا وتناقضات مجتمعاتنا الإنسانية، وتنحاز الى سينما الواقع التي تقدم " صورة " تشبهنا، وتعبر الحدود بين الفيلم الروائي والفيلم الوثائقي، ولاتتوهج إلا بما فيها من "سينما" فقط، كما في فيلم "الرأس المرفوع"
LA TETE HAUTE خارج المسابقة الرسمية الذي عرض في حفل إفتتاح الدورة 68 الجديدة.

فيلم "الرأس المرفوع" فرنسي من إخراج إيمانويل بيركو، ينتقل بنا ومنذ أول مشهد الى مكتب قاضية من قضاة الاطفال juge denfant التي تعينهم الحكومة الفرنسية للإشراف على حياة الاطفال الذين لاتستطيع أسرهم أن تعتني بهم وتشرف على تربيتهم، فتقوم القاضية بدراسة الملف القانوني لكل طفل أو كل حدث، وتختار له الإسرة المناسبة - غير أسرته - التي تستطيع أن تعوله، تحت إشرافها.

لقطة من فيلم الافتتاح (الرأس المرفوع)

ونتابع في الفيلم دور هذه القاضية التي تلعب دورها النجمة الفرنسية الكبيرة كاترين دينوف، ونراها في أول مشهد من الفيلم تستقبل الطفل "مالوني" في التاسعة من عمره، وقد حضرت أمه للبحث عن أسرة تعوله، حيث انها لم تعد تستطيع تربية ذلك "الوحش الصغير" كما تسميه، ذلك الوحش الخبيث الذي تلعنه أمه، لأنه لايحتفظ بهدوئه قط ولا يتظاهر بأنه بريء من أي إثم، إلا عندما يحضر مع أمه الى مكتب القاضية، لعنة الله عليه.

وينتهي ذلك المشهد الاول الجميل في الفيلم، وقد تعرفنا على الطفل مالوني "الضائع" ومشكلته مع أمه التي لاتستطيع تربيته بسبب غياب الأب، وقد تعاطفنا معه، بل وقد أحببناه أيضا، بسبب نظراته البريئة الحائرة المستفسرة عما يحدث من حوله، ونتأسي بالطبع لحاله، كما نتأسى لحال كل هؤلاء الأطفال الغرباء "الوحوش"، الذين حين تفشل عوائلهم في تربيتهم، تتعهدهم الحكومة الفرنسية برعايتها وحدبها، وتشرف على تربيتهم، لكي يصبحوا "مواطنين صالحين"..

ويركز الفيلم من خلال تلك الرحلة التي نقطعها مع مالوني على ذلك "الدور الحكومي الفرنسي" في رعاية وتربية الأطفال والأحداث الضائعين وتوجيههم في ظل شعارات الجمهورية الفرنسية، وقد بدا لنا الفيلم في شموليته الفنية أقرب مايكون الى "تحية" الى ذلك "النظام الفرنسي الاجتماعي" و "عدالة" تلك القوانين التي تحميهم وتنتشلهم من هوة الضياع. لكن يبقى السؤال معلقا : ربما كانت الأم، وليس "مالوني" هي التي - وبخاصة من خلال اول مشهد في الفيلم، حيث لاتستطيع أن تحتفظ بهدوئها في حضرة القاضية، وتنفجر في البكاء بعصبية، وتشخط في الصغير بعنف، وتهدده وتتوعده – بحاجة الى علاج. لكن هذه قصة اخرى بالطبع..

ونتابع في الفيلم رحلة علاج وتربية "مالوني" لكي يصبح "شيئا ما" أو مواطنا صالحا في حياته وننتقل في المشهد الثاني مباشرة، من مالوني الطفل في سن التاسعة في مكتب قاضية الأطفال، الى مالوني الحدث في سن الخامسة عشرة، وقد تفاقمت مشاكله مع أمه، ولم يعد هناك من علاج له، سوى أن يقوم معلم خاص بالاشراف على تربيته في "مركز خاص لرعاية الأحداث" في قلب الريف الفرنسي الجميل، حيث الخضرة والهواء الطري الطازج، في حضن الطبيعة، ونتعرف من خلال تتابع أحداث الفيلم على دور المعلمين في تلك المراكز الخاصة لرعاية الأحداث، ويسلط الفيلم هنا على اناس مجهولين في الظل في إطار ذلك النظام الاجتماعي الفرنسي ويكشف عن طبيعة المهام الصعبة التي يقومون بها ويجعلنا نعجب بهم حيث لايتطرق الياس ابدا الى نفوسهم، وبخاصة تلك القاضية، قاضية الاطفال التي تقوم بدورها في الفيلم كاترين دينوف.

إلا أن الفيلم على مستوى السرد، على الرغم من موضوعه النبيل وواقعيته، بدا لنا ضعيفا، ولم يستحوذ على أعجابنا، أو انحيازنا له بالكامل، بسبب ضعف السيناريو وسقطاته في الفيلم، وقد بدا لنا سيناريو الفيلم المكتوب فجا ومباشرا أحيانا في بعض مشاهده، لاستغراقه في شرح القوانين التي تتحكم في ذلك النظام الاجتماعي الفرنسي، مما أسقط الفيلم في "مباشرته الواضحة" في رأينا، وجعله في بعض اجزائه ثرثارا ومملا، ويستطيع المرء كما يقول المخرج الأسباني الكبير لوي بونويل أن يغفر للفيلم كل شييء إلا أن يكون مملا، أليس كذلك؟ كما أن قصة الحب التي نشأت في الفيلم بين مالوني وفتاة ابنة معلمة في مركز رعاية الأحداث في الريف ونتج عنها طفل، بدت لنا مقحمة على سيناريو الفيلم، وكذلك استغراق مخرجته في تصوير مشهد إجتماع مالوني بصاحبته في الفراش من دون مبرر درامي ومنطقي لتلك الإطالة التي نعتبرها بمثابة "ترف" فني عقيم.

كما أني بصراحة لم أجد مبررا أو "ضرورة " في ان تكون قاضية الاطفال في الفيلم الممثلة الفرنسية الكبيرة كاترين دينوف، إلا بهدف "تسويقي" بحت، ولو كانت ممثلة مغمورة أو غير معروفة أو إمرأة لم تمثل ابدا من قبل – الامر الذي ينطبق على دور الحدث في الفيلم الذي قام به شاب يدعى رود بارادو 16 سنة، ولم يمثل ابدا من قبل قط في حياته ونجح وبدا لنا مقنعا جدا في دوره - لعبت دورها في الفيلم، لاكسب الفيلم "مصداقية" أبلغ وأكثر في رأيي..

فيلم " الرأس المرفوع " هو فيلم "مقبول" ACCEPTABLE ليس أكثر مع العديد من التحفظات، ولعل أكثر مما سبب لي إزعاجا في الفيلم، كما لو كان من صنع أحد المخرجين الهواة، ذلك الإستخدام الميلودرامي الزاعق للموسيقى في شريط صوت الفيلم، في الكثير من مشاهده. وبخاصة في المشهد الأخير.

ذلك المشهد الذي يحمل فيه مالوني طفله الوليد وينطلق خارجا من المحكمة بعد أن شكر قاضية الأطفال وهو تستعد للخروج على المعاش، شكرها على صبرها، وطول بالها عليه، ونجاحها ايضا – ولانعرف كيف في الفيلم؟!- نجاحها في أن تصنع منه أخيرا مواطنا صالحا وأبا مسئولا – برافو !– وتضع فيه مخرجته إيمانويل بيركو "نهاية هوليوودية سعيدة"! لفيلم "الرأس المرفوع" بموسيقى أوبرالية جد زاعقة ومجلجة وغارقة – للاسف الشديد -في ميلودراميتها. سقطة الفيلم الأخيرة ؟

ماذا عن الدورة 68 والإضافات التي حققتها؟

لكن لقد حقق مهرجان كان في دورته 68 – وبعد عرض فيلم الإفتتاح، حقق الكثير، من خلال الأفلام التي شاهدناها في جميع أقسام المهرجان، والتظاهرات الموازية مثل تظاهرة "أسبوع النقاد" وتظاهرة نصف شهر المخرجين "وتوهج على شاطيء بحر" كان " مثل كوكب منير. وقد توزعت الإضافات الفنية التي حققها خلال هذه الدورة 68 في رأينا وبخاصة في مايخص قسم المسابقة الرسمية للمهرجان على عدة محاور: محور" كان والسياسة " ومحور"السينما الإيطالية" التي برزت بحيويتها بشكل فائق في المهرجان، ومحور"السينما والتاريخ"، الذي عرض خلال المهرجان لمجموعة من الأفلام الوثائقية المهمة التي تحكي عن تاريخ السينما وعن شخصياتها المهمة، وبخاصة في قسم "كلاسيكيات كان" الذي عرض اولا مجموعة كبيرة من الافلام التي تم ترميمها، مثل فيلم "روكو وأخوته" للمخرج الايطالي الكبير لوشينو فيسكونتي، وقدم ثانيا مجموعة كبيرة من الأفلام الوثائقية الجديدة المتميزة التي تعرض لأول مرة في الدورة 68، مثل فيلم "هيتشكوك – تروفو" للمخرج المريكي كنت جونز، وفيلم "سمبان" لجاسون سيلفرمان وسامبا جادجيكو،عن المخرج الافريقي السنغالي الكبير سمبان عثمان، وفيلم " أورسون ويلز تشريح لعبقرية مخرج" للمخرجة الفرنسية اليزابيث كابنيست.

لقطة من فيلم (هيتشكوك – تروفو)

محور السينما الإيطالية. فيلم "أمي" والخطو الصحيح
في أفلام المسابقة أعتبر أن أحد أهم الموضوعات الرئيسية التي ناقشتها مجموعة كبيرة من أفلام المهرجان وبخاصة في قسم المسابقة الرسمية موضوع التحولات- METAMORPHOSE التي يعيشها بطل الفيلم، والتغييرات التي تطرأ على شخصيته، من خلال تأزم المواقف التي يعيشها، وبكل مافي هذه المواقف من معاناة وعذابات والم – كنوع من "التطهير" CATHARSIS الذي يحدثُ في التراجيديات اليونانية؟ – وحيت تكون لتلك الاختبارات والامتحانات التي يخوضها بطل الفيلم، تأثيراتها على التحول الذي يحدث في شخصيته، ورؤيته للحياة والقدر والمصير الانساني. وربما يكون سؤال "التحول" ذاك الفلسفي هو تساؤل الحياة ذاتها المطروح علينا في كل وقت، كي نتعرف في مرآة الالم على أنفسنا، ونتجاوز انانيتنا ونرجسيتنا المقيتة، ونقترب أكثر من إنسانيتنا .. وتتحقق معه وظيفة السينما الأساسية.

موضوع "التحول" ذاك ناقشه فيلم "أمي" MIA MADRE البديع للمخرج الايطالي الكبير ناني موريتي المشارك في المسابقة الرسمية، من ضمن الافلام الايطالية "الشباب" لباولو سارانتينو، وفيلم "حكاية الحكايات" لماتيو جارون، التي عكست تألق السينما الايطالية وحيويتها فأبهجتنا وأمتعتنا، بل فقد أثر فينا فيلم "أمي" لموريتي الى حد البكاء، أجل نقولها ومن دون خجل فهو "درس" في السينما العظيمة التي تقربنا اكثر من إنسانيتنا، وتطهرنا من كل أدراننا.

 

لقطة من فيلم (امي) يظهر فيها المخرج ناني موريتي

يبدأ الفيلم بمشهد لمظاهرة تطالب في الشارع الايطالي بحق العمل لكل عاطل، ويقف لها رجال البوليس بالمرصاد، وعندما يشرعون في ضرب المتظاهرين بهراواتهم، فجأة تتدخل سيدة وتطلب إيقاف التصوير، ونعرف في التو ان تلك المظاهرة لم تكن تحدث في الواقع بل في مشهد فيلم من أعمال "الخيال" يقع تصويره في اللحظة، ونعرف انها "مارجريتا" مخرجة الفيلم التي تطلب إعادة تصوير المشهد كاملا من جديد، وتطلب من أحدى الممثلات عندما تمثل دورها في الفيلم، أن تكون الممثلة وذاتها في نفس الوقت! .. ولا تعرف .. كيف!..

ولا يستطيع أحد بالطبع أن يفهم ماذا تريده المخرجة بالضبط، لأنه كيف يستطيع الممثل أن يمثل دوره في الفيلم وأن يحضر أيضا في ذات الواقت بشخصيته الحقيقية، ثم تذهب المخرجة بعد ذلك الى المطار لاستقبال ممثل أمريكي يقوم بدور صاحب المصنع الذي يتظاهر العمال ضده في أول مشهد من الفيلم. ويلعب دوره في الفيلم الممثل الامريكي الكبير جون تورتورو (الحاصل على جائزة أحسن ممثل عام 1991 في مهرجان "كان" عن دوره في فيلم " بارتون فينك " للاخوين كوين، وحصلا به أيضا على سعفة "كان" الذهبية) ويشكل حضور ذلك الممثل في الفيلم "إضافة فنية نوعية" الى عناصر الدراما التي يؤسس ناني موريتي من خلالها لفيلمه البديع، لأن للمثل الأمريكي الوافد – القادم من عالم آخر وسينما أخرى - اسلوبا مغايرا في التمثيل والاخراج ورؤية مختلفة للسينما، وبكل دلالاتها ومعانيها..

ويناقش الفيلم عملية التحول – ميتامورفوز - التي تمر بها تلك المخرجة الايطالية " مارجاريتا " من خلال انغماسها في شيئين خلال رحلة الفيلم: عملية تصوير الفيلم، وعنايتها في ذات الوقت بزيارة أمها المريضة وتواصلها مع الأم خلال رحلة مرضها وارتباطها أيضا بشقيقها الذي يرعى أمه أكثر ويتابع علاجها مع الأطباء في المستشفى ويسهر على راحتها، ويلعب دوره في الفيلم ناني موريتي نفسه. ومن خلال تجوالنا مع ناني موريتي في رحلته هذه التي يحكي لنا فيها عن أمه المريضة وشقيقته المخرجة الانانية، التي لاتهتم إلا بحالها وفيلمها ولا تهتم بالآخرين إلا بقدر الانتفاع بهم، وتوظيفهم في خدمة مصالحها الضيقة الأنانية فقط. يجدل موريتي نسيج فيلمه البديع من الدانيلا والحرير والقطيفة الناعمة، ويحقق للفيلم إنسيابيته المرجوة إن صح التعبير، فيجعله - "سينما خالصة"؟ - حلوا وطعما مثل اللوز "المقشر"، وتريد أن تلتهمه في التو..

ملصق فيلم أمي

فيلم "أمي" هو أشبه مايكون بـ"مقطوعة موسيقية"من نوع "موسيقى الحجرة "، بإنسيابيته ورقته، وعذوبته وحميميته، وهنا ستجد كل شيء في محله بالضبط في الفيلم، من ناحية الإيقاع والموسيقى و"الخطو الصحيح" – أي كيف يتحرك الفيلم ويتقدم الى الأمام من ناحية التطور الدرامي - من دون إسهاب أو إطناب أو تطويل- لأن موريتي يصل في هذا الفيلم في رأينا الى قمة نضجه، ويعزف لنا بفيلمه – عن الحب – معزوفة عذبة تأسرنا بجمالها وتجعلنا نتصالح أخيرا مع أنفسنا والعالم من حولنا..

فيلم  أمي" هو "تحية" الى كل هؤلاء الأمهات اللواتي صنعتنا، وأجمل ما في الفيلم – الذي لايحكي فقط عن كل الأمهات، بل يحكي أيضا عن السينما، وعن المخرجين من أمثال فيلليني وروروسوليني وستانلي كوبريك الخ الخ وعن الافلام الايطالية الجميلة التي صنعتنا وأيضا الكيفية التي تصنع بها الأفلام – يعرف ناني موريتي المخرج بأنه إنسان غبي يطيعه الجميع ! – ..

أجمل مافي الفيلم اننا نخرج بإحساس عارم بالبهجة، وبعد أن نكون ذرفنا الدمع، تأثرنا وتطهرنا، ويكون موريتي قبلها قد نجح في أن يجعل تلك الأم العظيمة الانسانية البسيطة - المعلمة التي كانت أما لكل تلاميذها - اما لنا أيضا، مع كل الاحترام والحب والتقدير والاعتراف بالجميل. إنظر : إنها لاتفكر إلا في "الغد" TOMORROW. تفكر إلا في "بكرة" المستقبل، مستقبل إنسانيتنا جميعا، وليس النظر الى الوراء والخلف، والعودة الى ماضي السلف بقيم النوستالجيا والحنين الى الماضي. انه لمجد الأمهات ولكل افلام السينما العظيمة التي صنعتنا.

محور السينما والسياسة. فيلم "إبن شول"

في محور "كان والسياسة" عرض المهرجان مجموعة كبيرة من أهم الأفلام السياسية المهمة التي أعجبتنا كثيرا، وحصلت جميعها على جوائز في الدورة 68، مثل فيلم "ابن شول" للمخرج المجري لاسلو نيميس (الجائزة الكبرى) وفيلم "قانون السوق" للفرنسي إستيفان بريزيه (جائزة أحسن ممثل) وفيلم "ديبان" للفرنسي جاك أوديار (جائزة السعفة الذهبية)، ونعني بالفيلم السياسي هنا بداية، الفيلم الذي يعرض للتحولات التي تطرا على عصرنا بكل مافيه من إنهيارات وأزمات وحروب، ويسلط الضوء على التناقضات التي نعيشها داخل مجتمعاتنا الإنسانية، وحيت تنهار هنا الحدود في الأفلام السياسية التي تنحاز الى الواقع بين الفيلم الروائي والفيلم التسجيلي، وبحيث يمكن أن نتحدث هنا في مايخص الأفلام السياسية التي عرض لها المهرجان عن "الواقعية التسجيلية في السينما الروائية العالمية" حيث تنهل هنا المخيلة الروائية لهذا المخرج أو ذاك من الاضافات التي حققتها السينما الوثائقية وعبر تاريخها الطويل في أعمال المخرجين التسجيليين العمالقة من أمثال الروسي ديجا فيرتوف والهولندي جوريس إيفانزوالامريكي فردريك وايزمان والفرنسية آنياس فاردا – منحها المهرجان سعفة ذهبية تقديرا لمجمل اعمالها في الدورة 68 – وغيرهم.

لقطة من فيلم (ابن شول) الفائز بالجائزة الكبرى

فيلم "ابن شول" للمجري لاسلو نيميس هو في رأينا أهم فيلم سياسي عرضه المهرجان ويحكي الفيلم عن عامل يهودي مجري يدعى "شول أوسلاندر"، من ضمن مجموعة العمال السجناء من اسرى الحرب، الذين وظفتهم النازية او جيش هتلر النازي للعمل في معسكرات الاعتقال، وتنظيف غرف الغاز بعد اعدام اليهود، ثم نقل جثثهم في مابعد الى المقابر الجماعية خارج المعسكر، وكان يطلق على هذه المجموعة من العمال إسم "سوندر كوماندو" وإسم " حفظة السر" فقد كانوا يعرفون بـ "سر النازي" أي بعملية الهولوكوست – التخلص من اليهود أعداء النازي بإعدامهم حرقا وقتلا وتخليص العالم - أي جنس هتلر الآري المتفوق - من شرورهم .. وكان يتم التخلص من "حفظة السر" بقتلهم في مابعد، وبعد تشغيلهم لفترة، حتى لايقوموا بإفشاء "سر" النازي .. الرهيب.

فيلم"ابن شول" فيلم رهيب ومرعب وتقشعر له الأبدان، لأنه يضعنا ومن أول لقطة يظهر فيها "شول" العامل المجري اليهود المكلف بتنظيف غرف الإعدام بالغاز، يضعنا في قلب عملية "الهولوكوست" – الهلاك - أو المحرقة النازية، حيث يظهر "شول" وهو يركض بين صفوف اليهود الذين وصلوا حديثا، وتم ترحيلهم الى معسكر أوشفيتز بيركناو عام 1944 ويطلب منهم الإسراع بخلع ملابسهم، ودخول الحمام وأخذ دوش، فقد تم إعداد أكواب من القهوة والشاي تنتظرهم عند الانتهاء من ذلك، وقد تبرد القوة، ويبرد الشاي الساخن واحسرتاه إذا لم يمتثلوا للأوامر، ويروح "شول" يتجول بينهم وهو يصرخ: إن هيا هيا عجلوا وقبل أن تبرد المشروبات الساخنة التي تنتظركم، بل ويساعد البعض منهم في خلع ملابسه، وقبل أن يدلفوا الى داخل الحمام، وتغلق عليهم الأبواب، وتفتح عليهم أنابيب الغاز وتتصاعد صرخاتهم المروعة.

وذات يوم يكتشف شول جثة ابنه ضمن جثث اليهود الذين تم إعدامهم بالغاز فيسعى بكل الطرق للحفاظ على الجثة وإخفاءها، ودفنها كما يليق بعد إقامة الصلوات عليها بواسطة حاخام يهودي يروح "شول" يبحث عنه بين جماعات اليهود التي تصل كل يوم بالالاف الى معسكر أوشفيتز ويركض وسطهم وقبل أن يتم إعدامهم، إما في غرف الغاز، أو في حفر المقابر الجماعية خارج المعسكر بعد اطلاق الرصاص على رؤؤسهم، وسقوطهم واحدا بعد الآخر في الحفر، ويروح شول يصرخ إن ياسادة هل من بينكم حاخام، فهل ينجح شول ياترى في العثور على حاخام وسطهم كي يصلي على أبنه قبل دفنه، وهل ينجح في مابعد في دفن الأبن؟

من خلال "حبكة" الفيلم البسيطة هذه يؤسس المخرج المجري لاسلو نيميس لفيلمه "السياسي التاريخي" الرائع - في شموليته الفنية أي شكلا وموضوعا - لكي يصور عملية "الهولوكوست" الإبادة الجماعية التي تعرض لها اليهود أثناء الحرب العالمية الثانية بوصفه "جريمة ضد الإنسانية"، ومن خلال الفيلم يعرض لاسلو للحياة في معسكر الاعتقال النازي الكبير، كما يعرض أيضا لتلك الفرقة المجرية من "حفظة السر" المقاومة، وقد نجح بعضهم في الحصول على آلة تصوير لالتقاط بعض الصور لعمليات الإبادة، وتهريبها الى العالم خارج المعسكر، وفضخ "سر" النازي..

فيلم "ابن شول" THE SON OF SAUL تكمن أهميته في أنه يخترع ويؤسس لـ"نظرة جديدة" في تصوير "الهولوكوست"، فقد نجح لاسلو في تصوير عمليات الإبادة، وتصوير الرعب بشكل محايد في الفيلم، ومن دون استدرار عطف المشاهد، من خلال ثلاثة ابتكارات فنية جديدة في فيلمه. فقد جعلنا نرى شول من الخلف، ويبدو اذا التفت الى الكاميرا واضحا في الصورة داخل الكادر، وجعل كل ما يظهر داخل الكادر من أشياء وأشخاص – في ماعدا شول - تظهر بشكل "فلو" غير واضح ومبهم، وعلى شكل ظلال، وهذا هو الابتكار الأول من خلال استخدام "عمق المجال" DEPTH OF FIELD على مستوى اللقطة ومنذ أول مشهد في الفيلم، والكاميرا المحمولة على الكتف تركض خلف شول، ونحن نراه من الظهر ونتعقبه ونكاد نلتصق بلحمه في سعيه اللاهث لأداء عمله في المعسكر على احسن ما يكون، والابقاء على حياته باي ثمن في أجواء القتل والرعب داخل وخارج المعسكر، وقد يثير الأسير المسكين غضب أي ضابط نازي في أي لحظة فيطلق عليه رصاصة ويقتله في الحال، أو يدفعه ويحشره داخل غرف الغاز مع اليهود الاسرى..

كما ابتكر لاسلو اسلوب اللقطة المشهدية PLAN SEQUENCE فجعل ومنذ أول لقطة ندخل مباشرة في لحم الفيلم ونهبط داخل المعسكر لكي تدور عجلة الفيلم اللاهث، وتسحبنا وتجرنا الى داخل دوامة الرعب في فيلم لاسلو الرائع الذي بدا لنا كما لوكان "لقطة مشهدية" طويلة واحدة تأخذ بخناقنا، ولا تتركنا ابدا لحالنا، ونحن ندور في الفيلم "اللاهث" ونتعايش معه بكل جوارحنا. أما الابتكار الثالث في الفيلم فيظهر على مستوى شريط الصوت "المذهل" في الفيلم، وهذ "التوليف العبقري" للمناخات الصوتية والسمعية في معسكر الاعتقال النازي، والتي صارت ومنذ أن شاهدنا الفيلم تسكننا بفنيتها وعبقريتها. فيلم " ابن شول " أعتبره إضافة حقيقية الى فن السينما و"قيمة" سينمائية كبرى، فقد نجح لاسلو نيميس- والعجيب انه العمل السينمائي الأول لمخرجه - نجح في أن يصنع لنا فيلما اصيلا ومبتكرا  لهلاك اليهود الهولوكوست على ايدي النازي، في مافشل أكبر مخرج في هوليوود ونعني به ستيفن سبيلبيرغ في صنعه، حين صور سبيلبيرغ "الهولوكوست" في فيلمه "قائمة شندلر" بشكل "إستعراضي" فاقع، ومبالغ في ميلودراميته، وغير أخلاقي بالمرة، وذلك لإستدرار دموع وعطف العالم بأي ثمن – اللعنة !- وأنهي فيلمه في إسرائيل، بإنتصار اليهود – المشروع الصهيوني - وإقامة دولتهم في "فلسطين" المحتلة، كما كرس العائد من عرض فيلمه في جميع أنحاء العالم، لإنشاء مؤسسة تحافظ على ذاكرة الهولوكوست.

فيلم "ابن شول" ولكل الأسباب التي ذكرناها، جعلنا مع أغلب النقاد والصحفيين في مهرجان كان الكبير نرشحه للفوز بسعفة "كان" الذهبية للدورة 68، وقد صدقت توقعاتنا بفوزه بالجائزة الثانية من حيث الأهمية بعد جائزة السعفة الذهبية، ونعتي بها الجائزة الكبرى، كما نرشحه من الآن للفوز بجائزة احسن فيلم أوروبي، وجائزة أحسن فيلم أجنبي ايضا في مسابقة الأوسكار القادمة، وهو يستحق المشاهدة عن جدارة .. فترقبوه.

لاسلو نيميس مخرج فيلم ابن شول  الفائز بالجائزة الكبرى في الدورة 68

في نهاية المهرجان توزعت جوائز الدورة 68 كالتالي:

السعفة الذهبية للفيلم القصير: فاز بها فيلم " أمواج 98 " لإيلي داغر من لبنان

الكاميرا الذهبية (لأحسن عمل أول في جميع مسابقات المهرجان): فيلم "الأرض والظل" لسيزار أوجستو آسيفيدو المشارك في تظاهرة "أسبوع النقاد".

جائزة السيناريو : فيلم "كرونيك" - مزمن " لميشيل فرانكو من كولومبيا..

جائزة أحسن ممثلة : وزعت مناصفة بين روني مارا عن دورها في فيلم "كارول" لتيد هاينس. أمريكا، والممثلة إيمانويل بيركو (مخرجة فيلم الإفتتاح "الرأس المرفوع" عن دورها في فيلم "ملكي" للفرنسية مايوين.

جائزة لجنة التحكيم الخاصة : فيلم "سرطان البحر" للمخرج اليوناني يورغوس لانتيموس

أحسن ممثل : فانسان ليندون عن دوره في فيلم "قانون السوق" للفرنسي ستيفان بريزيه

أحسن إخراج: المخرج التايواني الكبير هو سياو سين عن فيلمه البديع "القاتلة"

الجائزة الكبرى: فيلم "ابن شول" للمجري لاسلو نيميس

السعفة الذهبية : فيلم "ديبان- النمر - " للمخرج الفرنسي جام أوديار

كما منح المهرجان سعفة ذهبية الى المخرجة الفرنسية الكبيرة آنياس فاردا لمجمل أعمالها.

لقطة من فيلم قانون السوق الفائز  بجائزة احسن ممثل