في ظل الحديث اليوم على "سلطة الماضي" واستناد للكثير من الحركات السياسية والاجتماعية في التعبير عن مواقفها من قضايا ترتبط براهنيتها وتأثيرها المستقبلي، يعيدنا الباحث المغربي عبر تأملاته الى ديدن هذا المفهوم ودلالاته ومرجعياته محاولا ربطه برهانات المستقبل وسلطة الراهن وسطوته من خلال تفكير نقدي..

بين نوستالجيا الماضي والتطلع الى المستقبل

عبد الإله محرر

الحنين، هو إحساس مؤلم ومؤسف مرتبط بالماضي، تجاه وطن، بلد، مكان أو نمط حياة، وقد يكون فردي، جماعي، قومي وإنساني كوني.

في المجال الطبي يصنف الحنين كعامل من عوامل الاكتئاب والإحباط. ويعني كذلك الشوق الى وضعية غامضة افتراضية وغير محددة، يفرزها الخيال بفعل الضغط والتراكم النفسانيين، وبالتفكير في أشكال ووضعيات مثالية ينتجها اللاشعور، تخضع لمنطق الأماني والتطلعات الموازية للواقع ولا تلتقي معه.

تعلق الأمر بالفرد  أو الجماعة، فهو شوق إلى وضعية معاشة مضت، لم تعد إعادتها ممكنة، وحين يعبر الفرد عن حنينه إلى فترات من ماضيه المعاش، فهذا أمر عادي وسلوك طبيعي، لأن الماضي المعاش بالنسبة للفرد، يشكل بكل بساطة، الطفولة والشباب اللذان يمثلان تلك اللحظات الجميلة والممتعة باكتشافاتها للحياة، وللحرية،  وللطاقات الذاتية، لحظات تبقى موسومة ببراءتها ومغامراتها، وطبعا يرتبط هذا الحنين الشخصي بالزمان والمكان. والمكان في هذا السياق قد يتسع ليشمل الكون كله. ما يعني أنه يخضع لمنطق الجماعة والمشترك في إطار أحداث  وقضايا مشتركة وطنية، قومية، قطرية أم كونية، وكذلك  مجد الفترات الذهبية للشعوب، كحنين اليونان و العرب و البرتغال وغيرهم إلى أزمنتهم الجميلة، التي لا يمكن لمثيلاتها أن تعاد، إلا باعتماد  نقيض الحنين، الذي هو التطلع إلى المستقبل ومسايرة العالم، كما فعل الاسبان مثلا.

كل إنسان يحمل ذاكرة، فيها المعاش وغير المعاش والمعاصر المشترك، تترتب أطوارها بالتراكم داخل ما يسمى في المجال الفيزيونفساني بالعقل الجوفي، عبر العقل الزاحفي، كما  حددها كريستيان بوارون "CHRISTIAN BOIRON "، وهذا التراكم ينقل عبر الالتقاط بالحواس.  لكن مع تقدم التكنولوجيا، أصبح بإمكان الفرد أن يرى ويسمع حتى الماضي غير المعاش المشخص، و تجعله يلتقط عبر الحواس، كما استطاعت السينما تشخيص أزمنة غابرة تعود لآلاف السنين، حيث رسمت في أدهان كل شعوب العالم مشاهد وشخصيات عمرت منذ قرون، تجعلها افتراضيا معاشة. فبقدر ما ساهمت في تطور البشرية، و في انتاج وأنسنة ثقافات كونية راقية، فإنها بالموازاة، قد تكون ساهمت بشكل كبير في تفشي مظاهر التخلف والتطرف، لدى الفئات الاجتماعية التي تعاني من الحرمان، ومن انعدام عوامل النمو الفكري في المجتمعات الهشة، وغير المحصنة ثقافيا وفكريا، وتسبح خارج الركب الإنساني الكوني. يقول إيتيين بورن: " التطرف يعني الحنين إلى الماضي ويتخده مرجعا خالدا".

حين يتحول هذا الإحساس إلى تعبير مجتمعي، و يصبح المجتمع يحن إلى ماضيه المعاش، و يعكس شوق جماعي نبيل إلى ما عاشه أو عاصره من قبل، فالأمر هنا لا يتعلق بتلك الفترات الجميلة المتعلقة ببراءة الطفولة ومغامرات الشباب، بل بالشباب المجتمعي، بنشاط وحيوية مجتمع كشخص ذاتي محترم أنيق، خلاق، مسؤول، فخور بانتمائه، ويتطلع إلى المستقبل.

في هذا السياق،  يتداول المتدخلون في الآونة الأخيرة، على مواقع التواصل الاجتماعي، تعبيرات مصحوبة بصور، لها علاقة بالحنين إلى سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، حيث تشير هذه التعبيرات والتغريدات إلى ثقافة احترام الصغار للكبار، والاحترام الخاص بالأساتذة والمعلمين، وتقبيل أيدي الآباء والأمهات وذوي العلم والمعرفة، احتراما لمكانتهم. ويبرز فيها كذلك، الحنين إلى ثقافة الثقة التي كانت تسود داخل المجتمع، حيث كان المغاربة لا يحتاجون إلى عقود لإثبات بعض مراحل المعاملات التجارية، كالعربون الشفوي، والوعد بالالتزام. وكذلك الحنين إلى فتيات تلك السنوات، كونهن كن جميلات، وكان لباسهن أنيق، دون أن يثير هذا المظهر أي ردود فعل ثقافية أو عدوانية و متهورة، وكان على الشاب إذا أراد أن يربط علاقة بفتاة، فليس أمامه إلا أن يحسن هندامه وأسلوبه ويظهر تحضره ومميزاته وهواياته. فالمعايير كانت أخلاقية و فنية وإبداعية. و يشار كذلك، إلى أن في هذا الزمن كان لقب الحاج لا يطلق إلا على الحاج، ولقب الأستاذ لا يطلق إلا على الأستاذ.

فالحنين لهذا الزمن الذي تعبر عنه فئات كثيرة في المجتمع، يستدعي وقفة تأمل، والبحث عن أسباب بروز الظروف التي تستفز مشاعر اللجوء إليه. علما أن لحظات التألق والفرح تترك في الإنسان حنين نائم، يحييه البؤس و انغلاق منافذ الآفاق و الشعور بأن الحاضر أسوأ.

 وبالمقارنة بين الفترتين، الماضي المعاش والحاضر، نلمس أنه بالرغم من التقدم المعتبر على مستوى البنيات التحتية، وإمكانيات وشروط العيش، ونسبيا، الحريات والديمقراطية، فإن التراجع الحاصل في مجال القيم، هو الذي يثير هذا الحنين. ونتساءل، هل هذه القيم تجووزت بفعل التطور الطبيعي أم أنها تحولت إلى نقيدها بسبب التمرد عليها والتخلي عنها، لأنها لا تنعكس إيجابيا عمن يتسم بها، ما جعلها غير ذات جدوى؟

الواقع أن الأخلاق والقيم الإنسانية لا تضيع ولا تموت إذا كانت متجدرة. ربما كل ما في فلأمر، أن العالم برمته يمر من فترة انحلال محدودة في الزمان، اغتصبت فيها القيم، بفعل مخلفات صراعات الحرب الباردة، حيث تجزأت وتمت المجازفة في الاجتهاد بتأويلها حسب كل إيديولوجية، وخضعت للمزايدات، لتفرغ من حمولتها الأخلاقية، وتصبح مجرد خطاب. إكيد أن ضربات هذه الأزمة قوية، بل وحتى قاضية، وكل مجتمع يقاومها حسب حصانته وقوته وذكائه. فهناك كما يقال، من ينهض وينفض معطفه من غبارها، ويتمم مساره، كأن شيئا لم يكن، وهناك من يخرج منها معطوب، وهناك من لم تعد له القدرة حتى على القيام والحركة.

القيم ليست راكضة، فهي تنمو، وتصقل، وتتكيف حسب الزمان والمكان، والفاعل هو الإنسان. فإذا فقد المجتمع محركات القدرة على مسايرة العالم، وعجز عن تحيين قيم ماضيه المعاش والمعاصر التي افتقدها ويحن إلى زمانها، تاه في بحر الوهم، لتقف عقارب ساعته، ويتساءل بسذاجة واستغراب عن علة تخلفه، وسبب تقدم الآخرين.

الحنين إلى الماضي لا يفيد إلا قصد تقييم الأعطاب وتقويمها، وجعل فتراته الذهبية كجرعة فخر محفزة، تفرز القناعة بالقدرة على الفعل و تخلق شعور التطلع إلى المستقبل والانفتاح على العالم.

 

com.hotmail@mouharrir