أنا – على الأغلب – كائنٌ ميْت، وموتي يتجدَّد بعللٍ تافهة؛ كأن لا يرد عامل النظافة الغاضب تحيَّتي لي، أو أن يقع زرُّ قميصي في فتحة تصريف الماء، أو حين ينتهي – بي – عدُّ حجر الرصيف إلى عدد لا يقبل القسمة على اثنين إلاَّ بباقٍ، وأحيانـًا حين أصادف تاءً مربوطةً عاريةً عن غمَّازتيها.
كنت أموت بمعدَّل مرَّة كلَّ شهر تقريبًا، وفي الحالات الضاغطة كنت أموت مرَّتين، في الأوان الأخير أصبحت أموت كثيرًا، صرت أموت بفرطٍ مُقلق. الناس يربكهم أمري؛ صاحب محل الفاكهة شطبني نهائيًّا من قائمة المشترين بالأجل، وقبل أيَّام وصلتني دعوة حفل زفاف وكُتب اسمي على ظهرها بهذا الشكل: "السيِّد: فلان الفلاني ما لم يكن ميتـًا في هذا الوقت"!
أنشغل في القسم الحيِّ من حياتي بتهيئة وضعية مريحة لميتتي المحتملة التالية؛ فتكرار الموت – شأنه شأن تكرار نوع من الطعام، أو اللباس – أمرٌ مرشَّحٌ لأن يكون مُمِّلاً، وحيث يعتني الناس بمسألة الطعام، واللباس بشكل كافٍ يسهل معه أن تجد أنواعًا من الطعام، وأشكالاً من الثياب، فإنَّ الموت لا يلقى هذه العناية، تصبح المسألة – حينئذٍ – مسألة اجتهادٍ شخصِّي، حيث لا يمكن أن تجد من تلوم على سوء الوضعية إلاَّ نفسك!
وحين لا أمنح الأمر العناية اللازمة أجدني مضطرًّا إلى تحمُّل شكل موتٍ لا يناسبني، فمثلاً كنت قد انشغلت بموت والدي المفاجئ، انشغلت جدًّا بكلِّ ترتيبات الموت، واستقبال المعزِّين لدرجة أنـَّني حين باغتتني منيَّة مفاجئة – لأنَّ أحَّ البيضة المسلوقة علق بقشرتها فأصبحت البيضة مشوَّهة لأن تكون طعامًا – وجدتني عالقًا بين فكي شاة جارنا التي كان ثغاؤها يزعجني الليلة السابقة لموتي، البيضة المشوَّهة هي مثالٌ على التفاهات التي صارت تستهلكني، وتستحوذ على العدد الأكبر من حالات موتي، لم يخطر لي أنَّ البيضة المشوَّهة تلك ستفقدني حياةً، بدت أقلَّ من سببٍ يسبِّب الموت، وبما أنـَّني لم أكن قد أعددت في مخيِّلتي مكانـًا أنزوي فيه حتى تستعيدني الحياة – شأنها دومًا –، فقد انطوت ميتتي تلك على كثير من الألم والمعاناة؛ لقد كانت ميتة قرف؛ فشاة جارنا – لشدَّة نهمها – لا تكتفي بعلف الدواب، بل كانت تنكش صناديق القمامة في الشارع؛ صندوقًا، صندوقًا؛ مرَّت عليَّ روائح مقرفة، وسوائل لزجة عفنة، ومواد سامَّة.
تعلَّمت – مع الوقت – أنَّ الأمر الذي يستفزُّني، ويسيطر على حواسيَّ وروحي هو الأقرب كي تقع روحي فيه حين يحلُّ موتي المؤقت، موتي الذي تسبِّبه كلُّ هذه التفاهات من حولي، ولأنَّ الأمر بات مزعجًا، ومقلِّلا من مكانتي – أن أموت بسبب بيضة مثلاً – فقد عاهدت نفسي أن أكون أكثر حذرًا، أن أمحِّص العلل التي تسبِّب موتي، أرفعها لتكون أقلَّ تفاهة، وأن أعدَّ أمكنة محتملة مناسبة وجديرة بي.
من المرجح في الفترة القريبة أن تصدر رواية جديدة لـ(س)، يجب أن أكون حيًّا خمسة أيام على الأقل كي أنهي قراءتها، أما لماذا (س)؟ فلأنـَّه – بعد طول ممارسة للقراءة – أفضل كاتبٍ يرشِّح لي وضعيَّات الموت المريحة اللائقة؛ كنت قد ابتدأت بمشاهدة الأفلام، والانزواء في المشاهد أو المناظر التي تؤثـِّر فـيَّ، وكان ذلك يتطلَّب الإعادة المتكرِّرة، والانفعال المفضي إلى سيطرة المشاهد والأمكنة عليَّ، وحين استسلمت للقراءة أصبح تكرار قراءة المقاطع هو خلاصي المثالي، كنت أعلِّم المقطع بالمظهِّر الفسفوري، ثمَّ أعود إليه في ساعات صفائي، تقبض مخيِّلتي على المناظر، وتختزنها إلى حين حاجتي، وهكذا انتهى الأمر بي: يحلم الناس بالأماكن الفاتنة، وأموت أنا فيها، يشتهي الناس أن يصرفوا أروع لحظات حياتهم في مناظر خلاَّبة لا يسعني إلاَّ أن أرتـِّب الإقامة المؤقتة لروحي فيها.
كانت المناظر التي هيَّأها (س) لي بعد قراءتي لروايته (الأمسيات الضالَّة) أكثر وضعيَّة مريحة مرَّت بي، كانت تفاصيل غرفة الملك محفورة في ذاكرتي، كان (س) مغرمًا بالتفاصيل، يعيرني عدسة مكبِّرة أتفحَّص بها كلَّ الأرجاء، عرشت عيناي نقوش المدفأة الرخاميَّة، كنت أتنعَّم بالقطن النقي الذي يملأ وسائد الحرير الأبيض المطرَّز بخيوط الليلك الباذخ، كان يغمرني هدوء حالك إلاَّ من صوت النار السارية في الحطب، كانت تلك ميتة مترفة، وعندما عدت حيًّا كنت متمتعًا بمزاج عالٍ، وببشاشة قلَّما تعتريني، كان الناس مذهولين لبشاشتي، وسمعتهم يقولون: "إنــَّه لمن المحزن أن يموت في وقت قريب"، ومتُّ في وقتٍ قريب؛ سحقتُ وردةَ ابنة الجيران: كانت البنت ترخي ذراعيها على حاجز الشرفة، وتحدِّث وردتها، انزلقت الوردة، ودستُ عليها – عرضًا –، بدت الفتاة على الشرفة مصدومة، ولم تقلْ شيئـًا، وفجأة متُّ، متُّ ولم أقل لها: إنـِّـي آسف؛ كانت ميتة خاطفة، وعندما عدت كانت الفتاة قد تزوَّجت، خفت أن أعتذر عن سحقي وردتها فأسبِّب لها مشكلة بحديثي عن وردة لا أعرف من مهديها، تألَّمت لهذا الأمر كثيرًا، ومتُّ: متُّ مرتين لسبب واحد تقريبًا، فأيقنت أنَّ الأشياء الأكثر قيمة تسبب لي موتًا متسلسلاً، أو ربما كان موتي يجيء مرتين لأنَّ الموت دفعة واحدة بسبب شيء مهم قد يكون نهائيًّا، حزنت لهذا اليقين، فقد تنبَّهت إلى أنـِّي لم أمت عندما مات أبي، وخنقتني حبائل من الأسئلة: أكان موته أمرًا لا يسبب لي الحزن حدَّ الموت؟!، أكانت البيضة المشوَّهة تلك قد أثرت فـيَّ أكثر ممَّا أثــَّر فـيَّ موت أبي؟! حزنت حينها، ومتُّ، وتمنيَّت لو أنـَّني متُّ بسبب موت أبي لا بسبب حزني على كوني لم أحزن لموته.
وكانت تلك الميتة أكثر الميتات التي مرَّت بي إرباكًا وعندما انبعثتْ فـيَّ روحي كنت مشوَّش الذهن؛ فعدا علَّة موتي التي ذقت منها غصصًا فإنـَّني – ولسوء الحظِّ – لم أكن قد تهيَّأت لها، فكانت ميتة تيه؛ كنت ملقى في لجَّة بيضاء لا نهاية لها، لجَّة ملأتني بالأسئلة، وبرغبة ملحَّة في معرفة تفسيرها، قالت لي أمي – بعد أن عكَّرت صفو حياتها بترديدي هذه الأسئلة –: "متى ستموت ميتة نهائيَّة كي أستريح منك؟" وكنت أعذرها، وأنا أعذرها كثيرًا، وأشفق عليها فهي لا تعرف متى ينبغي لها أن تحزن جديًّا لموتي، متى تنصب السرادق، وتستقبل المعزِّين، وتبكي بكاءً لا يحتمل الأسئلة، ولا يفسده التأجيل. بالنسبة إليها أنا تقريبًا مثل عار، إذ يحدث أن أموت فلا تحزن، فهي تتوقَّع أن ينتفض جسدي المسجَّى، وتستعيدني الحياة في أيِّ لحظة، تتوقع دومًا أن أهتف لها من غرفتي المظلمة فتأتيني بالماء، والطعام، وتمسِّد ساقيَّ الباردتين. ما من سبب يبعث على الحزن حين يتعلَّق الأمر بالموت المؤقت، والعود الحتمي الذي يصاحب غياب روحي. غير أنَّ مشكلة أمِّي الكبرى كانت مع الأغراب الذين لا يعرفون شيئـًا عني، ولا عن حالتي الفريدة، مع الجارات اللواتي يزرنها للمرَّة الأولى فيتهمنها – حين تأتي على ذكر موتي عفوًا – بفتور العاطفة، وقسوة القلب، وعبثــًا كانت تشرح لهنَّ حالتي، وميتاتي التي لا يسعها أن تصنفها في زمرة الموت الحقيقي، وحين تسري هذه السمعة السيئة في الحارات المجاورة تذوب أمي في كمدٍ غريب؛ ويبدو الموقف – حينئذٍ – مشوِّشًا وعصيًّا على الفهم: أن تكمد أمي لأنـَّني لا أموت: لا أغادر حياتها كما يغادر الآخرون حياة أحبائهم، ويخلِّفون ميراث حزن طبيعي.
أعرف كم من الآلام يسبِّبها موتي نصف الحقيقي، والمضلِّل لأمِّي! حزنت عليها ومتُّ، كانت المرَّة الأولى التي أموت فيها بسبب من أمِّي، لم أكن قد أعددت في مخيِّلتي فسحةً تستقرُّ فيها روحي لأيِّ موتٍ محتملٍ قريب، كنت وقتها حزينًا، ولا أقوم بشيء تقريبًا. وجدت نفسي – فجأة – في وسطٍ هلامي ومظلم، كنت متكوِّرًا في هيئة الجنين، كان يصلني رجع نبض قلبي المنتظم الهادئ، يصنع موجة صغيرة في سائلٍ يحيط بي، تهزُّ الموجة غشاءً رقيقًا يغلِّفني، ثم تصطدم بحاجزٍ سميك ورخوٍ، ثم تعود إليَّ... وهكذا في رتابة لذيذة ومطمئِنة، انتهى تشوُّشي، تغشَّتني سكينة البدء، وطمأنينة الخلاص، حين انتفضت بالحياة على سريري قابلني وجه أمي، كانت ولهى، ثمَّ بدا أن خاطرها المتكدِّر قبل رحيلي قد صفا، كانت هالة السكينة التي تحيط بها تشبه تلك التي أراها في الأمهات اللواتي قد أنجبن حديثــًا: خضن معركة صغيرة مع الحياة، معركة تخصُّهنَّ ورجعن بغنمٍ طري، كن يعرفن أنهن متوَّجات الروح، ولذا تعتريهن هذه الحالة النورانيَّة، هذه الحالة التي تبدو عليها أمي الآن: سعيدة بغنمها الطري العائد من الموت كيفما كانت حالته: معطوبًا، أو منحرفًا حتى وإن كان يُفسد حياتها بميتاته الغريبة، وارتحالات روحه المؤقـَّتة.
بعد عودتي من ميتتي تلك كان الكون – الذي خلَّفته ورائي مجنونـًا، ومارقــًا، ومرتجًّا بالأسئلة – قد سكن، غدوت أكثر صبرًا فيما يتعلَّق بأجوبة أسئلة الحياة، وقلق الوجود فيها، الأسئلة تخصُّنا، أما الأجوبة فهي مخبَّأة فـي طيِّ الزمن، ذاك الذي نقطعه، ويفلت الأجوبة أثناء ذلك.
أنا الآن أحدثكم من قلب ميتتي النهائيَّة، المشاهد هنا لم تمرَّ بي يومًا، كلُّ شيء هنا مبتكر وطازج، ومفاجئ، يذكِّرني هذا بميتتي الأولى حين ظننت أنَّ ما جرى لم يكن سوى أضغاث أحلام غريبة مرَّت بساحة نومي الذي دخلته بعد نوبة بكاء، قبل أن أكتشف أنـَّني لم أعد موجودًا في جسدي، وأنـَّني غادرته بصورةٍ مبهمة عزلتني عن عالم الأحياء، لم يفسِّر أحدٌ ما كان يجري معي، ولأنـَّني كنت أعود بكامل عافيتي فإنَّ الأمر لم يبلغ حدَّ المصيبة، لولا أنـَّه صار يتكرَّر، ويغدو وصمةً تعلو حياتي: هذه التي سخت بي للموت، وقاسمته إيَّاي.
عندما مات (س) تورَّطت بموتي، جرَّبت أن أعيد قراءة رواياته، لكنَّ الأمر كان يخلو من المفاجآت التي تدهشني، وتلتصق بذاكرتي كي أعود إليها ميتـًا، فقد كنت أعرف كم من الوقت سأستغرق، ومن من الشخصيَّات كنت سأقابل، كنت قد مررت خلال المشاعر كلِّها، وتسرَّبت في المفاجآت والأوضاع القلقة، لم يكن سهلاً حينها أن اصطنع المفاجأة، أو أن يضمحلَّ الوقت الطويل الذي تستغرقه ميتتي في تأمُّل ماضيَّ الذي كان نصف حياة، ونصف موت!
كان عليَّ أن أتآلف مع كاتب جديد، ولم يكن الأمر بالسهولة التي تصوَّرتها؛ لم أجد كاتبًا أصيلاً يفتـِّح لروحي أبواب سكينتها، وأثناء قراءاتي الكثيرة صادفتني حبكات مضطربة، وحوادث مفتعلة، وكان كثيرٌ من الوصف رديئـًا، كان سردًا يبعث على التشوُّش أكثر مما يبعث على السكون، هذا عدا جملة الروايات الفاضحة التي اكتسحت السوق، أذكر ميتةً استقرَّت في حدثٍ مخجلٍ صنعه روائيٌّ شابٌّ، كنت مجرَّد روح، وتصوَّرت أنـَّني لا يمكن أن أندمج في الحاجات الجسديَّة تلك، وحين عاودتني روحي انفرطت منها أحاسيس خجلٍ كاسحة، تورَّد خدَّاي أيامًا، كنت أرى أفواه الناس وهي محشوَّة بأسئلة بشأن حمرتي، لكنـَّني اعتدت الأسئلة، اعتدت الإحساس بها خفيَّة في عقول من حولي، متدلِّية من نظراتهم؛ أنا الكائن السؤال: كيف للأسئلة أن تزعجني؟!
وظللت أربِّي سؤالاً كبيرًا: كيف أعوِّض غياب (س)؟ كيف ستحلُّ روحي المغادرة مؤقَّتـًا – بعده – في عالمٍ يشبهها؟ وكيف ستميِّز السياقات التي ستأخذها إلى حيث يجب؟ لم أكن سأسمح بحالٍ أن أعود إلى تلك الأمكنة المضطربة التي لا تشبهني، كانت روحي قد بدأت تعتاد شيئـًا تستحقه منذ زمن طويل، ولم أكن مستعدًا لفقده على الإطلاق!
لم أعرف أنَّ هذا الذي أصنعه الآن كان هو ولوجي الأخير إلى أمكنة الأبد، بدأت أسأل نفسي – بعد الإشكالات المكانيَّة التي غدت تعانيها روحي –: لمَ أستعيرُ المكان ولا أصنعه؟ لم أستقرُّ في فضاءات تصنعها خيالات الآخرين وهناك فضاءٌ محتملٌ يخصُّني، وأكثر لياقة بي؟ وصلت إلى هذه النقطة المستقرِّ: أن تسكن روحك في صنيع مخيِّلتك، وكان العالم المثالي الذي صنعته هو سطر الخلاص بالنسبة إليَّ. إنَّ حياتنا – في نهاية الأمر – قصة، وسواء أكانت قصة طويلة، أم قصيرة فإن سطرًا واحدًا هو الذي سوف ينهيها، سيكون هناك موقف يقف فيه تدفُّق الزمن، ستخلو الأمكنة منـَّا، وسيروينا الآخرون، هكذا مثل أيِّ حكاية! صنعت لروحي عالمًا مثاليًّا، عالجت فيه أموري العالقة مع الحياة، أريتني أبي، وتعرَّى بيننا كلُّ الذي كان مستترًا، ولم تصحَّ مناقشته: حواراتنا الباردة، والفكرة الغائمة العالقة فيما بيننا، قلت له: إنـَّني أحبـُّه، وعلى الرغم من أنَّ موته لم يسبِّب لي موتـًا إلاَّ أنَّ تلك المنيَّة المشوَّشة كانت ندمًا مثاليًّا مؤلمًا يوازي حشرجة ألف ميتة موجعة، وحين حكيت له تفاصيلها قال لي أبي: إنَّ البياض في ميتتي تلك كان فرصة، كان صفحة بيضاء، وإنــَّنا حين نكتب بصدق، بصدق داخلي لا مواربة فيه فإننا ننفخ هذه الغشاوة التي تعلو أروحنا، وتحجب حقيقتها، وعندئذٍ فقط نبين، نتجلَّى فيغيب ما كان يعكِّرنا، ويُظهرنا على غير ما نحن عليه، قال لي: إنَّ المحظوظين فقط هم من يسعهم كتابة حياتهم، وإنَّ كتابة الإنسان موته منحة نادرة!
كان أبي شخصًا آخر في حكايتي، أظنـُّني كتبته بصدق لم أعشه معه، جعلته يقول ما كان مطويًّا في قلبه، كنت أحبُّ أبي حبًّا منعني من أن أبقيه في عالم العتمة، ما قيمة هذا الضوء إن لم أره فيه؟ ضمَّنت قصَّتي موقفًا يتعلَّق بابنة الجيران، ذلك الحادث المتعلِّق بالوردة المنزلقة الذي حدَّثتكم عنه، كان هذا الحدث من الأمور العالقة، حملت ابنة الجيران – عبر حدثٍ لطيفٍ – إلى منعطف قريبٍ من حارتنا، ويا لسعادتي حين رأيتها! منحتها وردة بديلة، وردة مثالية ونضرة، وردة القصص والحكايات حيث تبدو الأشياء في حالة البهاء القصوى، منحتها الوردة، وحريَّة النهاية المفتوحة للموقف، غابت، وانحلَّ ما كان يربطني بها، صرت أطفو كلَّما عالجت أمرًا عالقًا، أسبح في خفَّة الخلاص، كنت أعبر السطور نزولاً، يسودُّ الورق، ويبيضُّ داخلي أثناء ذلك.
لنقل: إنـَّني فصَّلت أماكن على مقاسي، أماكن مثاليَّة تدمع روحي حين تحلُّ فيها من شدَّة الجمال، وفي مكان ما، في لحظة ما غبت ولم أعد!
ظلَّت أمي تنتظر عودة روحي، كانت الأمور تجري على وتيرتها ملابسي معدَّة، وجبات الطعام في وقتها، وقهوة الصباح فوَّاحة، والشاي يضبط مزاج العصر، غير أنَّ جسدي بقي فارغًا منـِّي، كانت أمِّي قد اعتادت رجوعي وربما لم يخطر لها أنـَّني يمكن ألاَّ أعود، وأن الموت سيقع في نهاية الأمر، وأنَّ الإنذارات الخاطئة يمكن أن تخطئ عادتها وتصيب!
أنا حزين لأنـَّني لم أودِّع أمي بطريقة لائقة، يصعب أن أحدِّد: أيَّ واحد من تلك الإنذارات الكثيرة هو انفصالي الأخير عن الحياة، وعلى الرغم من ذلك فإنـَّني ابتسمت في سرِّي البارد وأنا أراها تنصب سرادق للعزاء، وتتخلَّص من شماتة الجارات اللواتي لم يفقهن أنـَّنا نعيش حياة متنوِّعة، وأنَّ حياتنا المتنوعة تستحق موتـًا متنوعًا، لقد استنفدت حياتي على الورق، كان العالم الذي خططته مثاليًّا على أن أدعه يفلت دون أن أسكنه، وكان هذا العالم مكتملاً بي فلم يسعه أن يفقدني.
لقد كنت روحًا تتوق إلى الخلاص من جسدها، روحي الآن مستقرَّة في مكان ما، وقبل أن تغادر هذا العالم بشكلٍ نهائي سنحت لها فرصة رؤية لمحات من هذا المستقرِّ، لمحاتٍ كافية كي أعرف أنـَّه مستقرٌّ قابل للصنع، قابل للتكوين بالتفكير الكافي فيه، ذاك عالمي الرحب الذي أخطو فيه، فسحة خلاصي، الكلمات التي غبت فيها، ولم أعد!