عندما ظهرت الهجرة المضادة من العالم العربي إلى الدول الاستعمارية سابقاً كان المهاجرون المسلمون الأوائل في نهاية الخمسينيات، وأوائل الستينيات، من البالغين غالباً، يسافرون إلى هناك فرادى بحثاً عن فرص عمل في المقام الأول، ثم عن الاستقرار الدائم .. وشيئاً فشيئاً قرروا البقاء في بلاد المهجر التي يتكلمون لغتها، وسعوا إلى استجلاب أسرهم، وزوجاتهم، أو بنات قبائلهم بهدف الزواج والاستقرار، وقام بعضهم بالاقتران من بنات هذا البلد وظهر ما يسمى بالجيل الثاني من المهاجرين .. ثم ولد الجيل الثالث الذي صار حائراً للغاية بين ثقافة الآباء والأجداد وبين ثقافة الوطن الذي يعيشون فيه، ولا يعرفون غيره .. وأيضاً بين تعاليم الإسلام في وطنهم الأصلي، وتطبيقه في الوطن الجديد ..
وسوف نتوقف هنا عند دراسة الهجرة إلى فرنسا، فحسب كتاب "المسلمون في فرنسا" .. لاني كريجيه كرينكي فإن تلميذاً من الجيل الثالث قد تحدث إليها قائلاً: نحن نتلقى ثلاثة أنماط من التعليم، تعليم من أبنائنا وآخر من مدرسينا، وثالث من الحياة، وهذه الأنماط الثلاثة تتقارب" .. لم يكن هناك أطفال غالباً من بين الذين رحلوا ضمن الجيل الأول. وفي الغالب أيضاً، فإن عدد الصغار الذين ينتمون إلى الجيل الثاني أقل بكثير من أن نرصد حالاتهم لكن لاشك أن الجيل الثالث قد عرف صغاراً، عاشوا وتربوا في كافة أنحاء المدن الفرنسية من ناحية، واختلطوا بالفرنسيين،وعاش الكثيرون منهم في الأحياء العربية التي قاموا بتأسيسها، وعلى رأسها "جوت دور" Gout d’or الحي الشعبي الذي عاش فيه أغلب المسلمين بأجيالهم المتعاقبة.
وقد ظهر الموهوبون من أبناء هذه الأجيال المختلفة، كي يعبروا عن تجاربهم الحياتية، ومن بين هؤلاء المهاجرين لمع كاتب الرواية، والمسرحية، والمخرج السينمائي، وكاتب السيناريو .. وسوف نحاول في هذه الدراسة أن نتعرف على السمات الرئيسية للأطفال وحيواتهم، كما عاشوا في هذه المدن، وخاصة أحياء المسلمين، ومناطق تجمعاتهم، من خلال إبداع هؤلاء المهاجرين، خاصة الجيل الثالث، باعتبار أن الأدب والسينما هما مرآة واضحة لأحوال المهاجرين، وأسراهم وأيضاً أطفالهم، ومن بين هذه السمات:
لم يكن الطفل المسلم الصغير هو المحور الأساسي لهذا الإبداع، سواء في السينما، أو الرواية، أو الشعر، بل كان المهاجر يتحدث غالباً عن طفولته، ومعاناته في هذه الطفولة، وقد تباين وجود الأطفال هنا، فهو إما شخص بالغ، يتذكر أيام الرحيل والاستقرار، أو هو طفل موجود ضمن أسرة كبيرة العدد، هاجرت عن وطنها الأصلي.
هذا الطفل هو حائر في المقام الأول بين ثقافتين: الثقافة العربية والإسلامية التي يتلقاها في داره . وتلك الثقافة الغربية التي يواجهها في حياته العامة. ومن هنا تأتي أهمية التعرف على تفاصيل هذه الحياة. حسب إحصاءات منظمة اليونسكو، فإن سن الطفولة يمتد إلى الثامنة عشر، باعتبار أن الصغير يصير غير قادر، غالباً، أن يتولى مسئولية نفسه اقتصادياً، وعليه، فإن مجموعة الروايات، والأفلام المأخوذة عن بعض هذه الروايات التي تتراوح أعمار أبطالها بين هذه السنوات تنضم إلى خانة الأطفال، مثلما حدث في الرواية التي كتبها مهدي شرف باسم "الحريم في مخدع أرشي أحمد" .. التي تحولت إلى فيلم سينمائي حصل على جائزة سيزار عام 1985، وأيضاً فيلم إكساجون Xageon إجراج مالك شيبان 1993، هو اسم يعني أبناء المهاجرين في المهجر، خاصة فرنسا، حيث نرى مجموعة من المهاجرين في المغرب العربي، في فترة الإعداد لعيد الأضحى، وهناك مجموعة من الصبية ينتظرون الاحتفال، ويبدون سعداء ضمن ما ستقوم به الأسرة، وأيضاً مثلما حدث في فيلم "شاب" SHEB لرشيد بوشارب عام 1991، حول صبي جزائري عاش في المهجر، ويتم "طرده" من فرنسا ويعود إلى الجزائر، لقد ولد هذا الشاب الصغير في باريس، ضمن من يمثل الجيل الثالث من أطفال، ولا يكاد يعرف كلمة واحدة عن وطنه الأصلي الجزائر، ويجد نفسه وسط الصحراء، بل أنه يطلب للتجنيد رغم صغر سنه.
أبناء الجيل الثاني أو الثالث عليهم أن يعيشوا في ازدواجية ملحوظة، فهم في المدرسة يضطرون إلى تغيير أسمائهم . فيتحول محمد إلى ميمو أو موريس. وجميل إلى جيمي، كم هم في أمس الحاجة إلى الجماعة. وأن يذوبوا في داخلهم، ويخشون أن يبدوا مختلفين عنها. إ نهم قد يخجلون من أصلهم الذين جاءوا منه. ويدفعهم هذا . كما قالت السيدة/ كرينكي، إلى تغيير أسمائهم وارتداء الزي الأوروبي كالجينز والحذاء الطويل والبلوز. ويصبح من الصعب عليهم السير في ركاب آبائهم أثناء رحلات العطلات الأسبوعية وهم يرتدون زي البدو. ولا تواجه هذه المشكلة الغلمان المسلمين وحدهم، بل الفتيات أيضاً فالفتاة لا ترغب في أن تكون سندريلا. ولكنها تحاول أن تبدو طبيعية في مجتمع أكثر تحرراً من مجتمعها الذي يرى أنه يجب أن تتزوج الفتاة مبكراً .. كما أنها تواجه مشاكل ارتداء الزي الإسلامي في المؤسسات الرسمية ..
ولاشك أن مثل هذه التجربة يمكن أن تولد أعمالا أدبية متميزة. فهؤلاء الأدباء المسلمون من الجيل الثاني والثالث لم يعيشوا في بلادهم إلا القليل من سنوات الطفولة الأولى. أو لعل بعضهم لم يطأ قط الأرض العربية لكنه يحمل هويتها وجنسيتها. وهو مسلم عليه أن يلتزم بتعاليم الدين في المجتمع الغربي..
وبينما وجد الكثير من أبناء الجيل الثالث أن السينما والمسرح هي أفضل سبل الإبداع. فإن هناك نماذج أخرى اتجهت فقط إلى الكتابة الأدبية. وسوف نختار هنا نموذجين متقاربين متناقضين . الأول أديب نشر روايته الأولى عام 1983 . ثم سرعان ما تحول إلى السينما، فجاءت شهرته في عالم الفن السابع أكبر من شهرته ككاتب . وهو مهدي شارف . أما النموذج الثاني فهو لكاتبة عاشت أغلب سنوات حياتها في فرنسا وهي ليلى صبار.
مهدي شارف (1953):
يقول مهدي شارف في حديثه إلى مجلة سينماتوجراف : "ولدت في قرية صغيرة جداً على مسافة خمسين كيلو متراً من مدينة تلمسان في الجزائر. وذلك في عام 1952 وكنت أتصور أنني سأعيش وأموت في هذه القرية الصغيرة إلى أن وقع ذات يوم حادث غير مجرى حياتي. فقد ماتت أختي وقررت أمي أن ترحل عن القرية إلى المدينة. ودفع هذا بأبي إلى أن يسافر إلى فرنسا بحثاً عن فرصة عمل. حدث هذا أيام حرب التحرير، وأصبح من الصعب على أبي أن يعود إلى الجزائر. لذا رحلنا إلى فرنسا للحاق به. وأصبح اندماجنا صعباً في المجتمع الفرنسي، وعندما أتحدث عن العنصرية فأنا أذكر المدرسة بشكل خاص .. كنت طفلاً عربياً. ولذا فقد تم إيداعي في فصل للمتخلفين في مركز لإصلاح الشباب المنحرف .. كان كل الصبية من أصحاب المشاكل أو من أبناء مدمني الخمر وبنات الهوى".
ومهدي شارف لم يتلق تعليماً منتظماً .. لكنه عمل وهو طفل في المصانع الباريسية لسنوات عديدة، حيث عمل في البناء وفي أعمال أخرى وضيعة، ومنذ طفولته وهو فريسة لهذا التناقض الحضاري الذي يعيش فيه، وقد استفاد مهدي شارف من هذه التجربة، فكتب روايته الأولى "الشاي في مخدع آرشي أحمد" والعنوان قد يبدو غريباً بعض الشيء، لكن من سياق الرواية سنعرف مدى المعاناة التي عاشها الطفل الذي ليس سوى صورة من شارف نفسه. فنحن هنا أمام قصة صداقة تربط بين صبيين صغيرين، الأول عربي مهاجر في باريس والثاني فرنسي، هذان الشابان يقتربان من سن البلوغ، ولا يملكان الكثير من المفردات للتعبير عن رغباتهما، أو لتحقيق أحلامهما، هناك حيث البطولة ساندة في الأحياء الشعبية أو الأحياء التي يسكنها المهاجرون المسلمون. وفي هذه الأحياء تزداد حوادث السرقة والاغتصاب وتبرز العنصرية وعدم المساواة، بينما يحاول الكثيرون من الناس المحافظة على معاني الصداقة والحب.
وفي الرواية نرى امرأة فرنسية تدعى جوزيت تترك طفلها الصغير لامرأة جزائرية تدعى مليكه، وابن مليكة يعمل في البناء: "ماذا هناك من فجوات في أعمال الفرسان، ففي القلب تماماً مثلما في الحياة، يبدو كل شيء صغيراً، لكنه يتسع مع مرور الزمن، ويزداد اتساعاً ويبدو أشبه ببحيرة، تمزق، وندوب لا تعالج .. لقد عادت هذه الفجوات، ويجب أن نهتم بها وإلا اختنقت . لذا فالمرء ينتابه الرغبة في الصراخ والرغبة في الانفجار".
كثيراً ما يدور حوار بين جوزيت وملكية في الهاتف، أما الابن الصغير "مجيد" فإنه يصحب أباه كثيراً إلى مدينة الغجر التي جاء إليها الكثير من المهاجرين، وبعد أن سقط الأب من السقف فإن على مجيد أن يصحب أباه بنفسه. والرواية تعبر عن الصعوبات التي يعانيها الطفل العربي، وهو يتلقى تعليمه في هذه البلاد، فهو لا يمكنه أن ينطق بكلمة "أرشميدس"، إلا لو قسمها ونطقها بمفهومه الخاص آرشي. أحمد ثم يدمج الكلمتين معاً.
والمهاجرون المسلمون في الرواية لا يتحدثون عن الوطن، لكنهم يتحدثون عن البلاد التي يعيشون فيها الآن . فهم يخرجون في يوم العطلة مثل الآخرين من أجل النزهة، ولكن هذه المرأة المسلمة تمارس شعائرها التي تعلمتها بنفس الطريقة، إنها في البيت امرأة مسلمة، فهي ترى أن التليفزيون قد يكون مفسدة للأطفال عندما يعودون من الخارج لذا تحاول حماية الصغار من هذه المخاطر، ويقول مهدي شارف في جريدة لوموند ـ 2 مايو 1985: (لقد كتبت الرواية كي أنشرها، ولم تبع الرواية لفترة طويلة فبدأت أفكر في تحويلها إلى سينما)، ويقول أيضاً في نفس الجريدة : (يتخيل البعض أن الناس الذين يسكنون المناطق الشعبية يعيشون في جحيم، أردت أن أظهر العكس وأنه يوجد في هذا المحيط الهائل كم هائل من الحنان). والجدير بالذكر أن هذه الرواية فازت بجائزة أدبية بارزة تحمل اسم الأديب جان فيجو عام 1983، ثم حولها الكاتب إلى فيلم في أول محاولة له في الإخراج السينمائي عام 1985، وحصل من خلال هذه التجربة على جائزة أحسن مخرج في جوائز سيزار عام 1986، وقد أجرى تعديلاً في عنوان الرواية إلى (الشاي في حريم أرشميدس) .. وبعد ذلك انشغل مهدي شارف بالسينما، فأخرج فيلماً عن المهاجرين عام 1987 يحمل عنوان (الآنسة منى) ثم بدأ يقدم أفلاماً فرنسية الموضوعات لا توحي أن مخرجها من المهاجرين، إلا أن المفاجأة الحقيقية هي عودته في عام 1989 إلى الإبداع الروائي من خلال عمله الثاني (حركي مريم) Le Harki de Meriem، لدى نفس الناشر وفيه أيضاً إشارة إلى عالم المهاجرين من أطفاله بالغين.
في روايته الثانية عاد مهدي شارف للحديث عما يدور في أحياء العرب بباريس، ففي هذا الحي تبرز العنصرية واضحة، ويموت صبي عربي على أيدي العنصريين، فتدور الأحداث هنا في سنوات الخمسينيات، وسليم، تجاوز الخامسة عشر بقليل في بداية الرواية وهو ابن لرجل جزائري من المناضلين، كان أبوه متطوعاً في الجيش الفرنسي في شمال أفريقيا في زمن الاستعمار، ولد عزالدين أبو سليم وتربى في فرنسا وكان يحمل الجنسية الفرنسية، إذن، فنحن هنا أمام جيلين مختلفين من المسلمين الذين يعيشون في فرنسا، الأول انتمى تماماً إلى الفرنسيين وخدم في صفوفهم؛ والثاني دفعته ظروفه أن يعيش في فرنسا. ووالد سليم يدعى عزالدين. وكان عليه أن يعمل سائق أتوبيس، ويعيش مع ولديه وزوجته في المدينة. وهو رجل جاد ويتسم بالخلق الكريم، ولديه اعتزازاً واضح بكرامته، وقد قام عزالدين بإلحاق ابنه في مدرسة تحفيظ القرآن بفرنسا وذلك بدافع ألا ينسى الصغير سليم القرآن الكريم ولا اللغة العربية، ومع ذلك فإن زملاءه في الكتاب يسمونه (الفرنسي).
وعندما كبر سليم قرر أن يدرس القانون بناء على رغبة أبيه الذي تمنى أن يراه محامياً كي يمسح عن نفسه كل إحساسه بالمنفى، ويدفع هذا بسليم إلى التفوق، ويزداد إحساس الأب بالفخر، فيقول لزوجته مريم: (أصبح ابننا أقوى من الفرنسيين)، ويصبح سليم محط أنظار المدينة، فعمدة المدينة يستقبله، ومدير المدرسة يقف إلى جواره كي تلتقط له الصور. وسليم هذا، المتفوق، عليه أن يدفع حياته ثمناً لعنصرية بعض الفرنسيين ضد العرب، ففي الليل وبينما هو عائد إلى بيته يفاجأ براكب دراجة بخارية يعترضه ثم يطعنه بالمطواة.
ويقول محمد عبدالقوي: (في نهاية سنوات الخمسينات لم تكن كلمات الحرب والاستقلال موجودة في الريف الذي كان يعيش فيه عزالدين . بعيداً عن العاصمة الجزائر أو عن الأوراس . لذا، فقد كان يسخر حين يسمع أن هناك حرباً أو استقلالاً، كان في الرابعة والعشرين من العمر عندما انضم إلى الجيش الفرنسي، ليس ضد أحد، ولكن ضد الجوع، والبطن الخاوية، وأرضه الجافة، والشمس التي جففت النهر الذي يخترق التربة، كانت الأرض شديدة القسوة وتشبه ثعباناً يولي الفرار، ليس فيها شيء إلا ونفق، مات أخواه الأكبر والأصغر، فهرب من الريف يدفعه الجوع، وهو الذي لم يبق له شيء في حياته كي يعطيه لأقرانه".
عز الدين هو بالطبع الأب المسلم الذي سافر إلى فرنسا ومعه أطفاله الصغار كما تحدث مهدي شارف عن أبيه، فعندما هاجر إلى فرنسا يتصور أن الحياة فتحت أبوابها له، ولكن بعد أن أنجب لها ولداً متفوقاً ومتميزاً فإنه يحصد موته على أيدي نفس الأشخاص.
الأرض العربية غير موجودة بالمرة في هذه الروايات .. لكننا أمام عرب يعانون فوق الأرض التي هاجروا إليها، ولاشك أن الحنين هنا أضعف كثيراً من نوع الحياة التي يحاول أبطال مهدي شارف أن ينجحوا فيها مهماً كان الثمن.
ليلى صبّار:
الكاتبة الثانية التي تنتمي إلى هذا الجيل الثاني من المهاجرين هي ليلى صبار، إنها لا تعرف مثل مهدي شارف من اللغة العربية سوى كلمات مكسورة الأحرف، لكنها تحاول أن تخرج من هذه الازدواجية الثقافية التي تعيش فيها، والتي عبرت عنها بنفسها في الكثير من المواقف، فقالت في كتاب "المسلمون في فرنسا": لا يمكن أن نقول أن مشاكل الهجرة المغربية أكثر عنفاً وألماً، وأن هناك بلاداً قد تحررت وتجاوزت الحروب وتعيش في حرية، فلماذا عن هؤلاء القادمين من الجزائر. لكن لماذا جاءوا إلى هنا؟ ربما لأنهم لا يشعرون بالراحة في بلادهم الأصلية، وأن هناك نظاماً سياسياً للنساء، بشكل خاص، وعلى الرجال أن يعيشوا الحياة التي يرغبون فيها سياسياً واجتماعياً وثقافياً.
ولدت ليلى صبار في 19 نوفمبر عام 1941 في قرية "آفلو" لأب جزائري وأم فرنسية، عاشت في الجزائر إلى أن بلغت سن السابعة عشرة، ثم سافرت إلى فرنسا للاستقرار هناك، حيث عملت مدرسة، وليلى صبار تكتب المقال والرواية والشعر، نشرت مجموعة من المقالات عام 1980 تحت عنوان (إنهم يقتلون الفتيات) ثم جاءت روايتها الأولى في نفس السنة تحت عنوان Pedophile et la maman ثم نشرت روايتها الثانية "شهر زاد" عام 1982، و"تكلم يا ولدي" Parles fiston عام 1984، و"ش يبحث عن شقيقة روحه" عام 1987. ويقول حسن محمد مرسي: إن تجربة المنفى عند ليلى صبار تنطوي على بعد شخصي أصيل ومميز، وهي قد ولدت وعاشت طفولتها وصباها في الجزائر ولم تتعلم من العربية إلى النزر اليسير، فالفرنسية بالنسبة لها هي لغة التخاطب والتعبير الأدبي، والمنفى عندها يراوح بين لغتي أمها وأبيها: "كانت أمي في منفاها تتكلم لغتها وكان أبي يكلمني بلغة أمي. كان هو الآخر منفياً في لغة أخرى، لغة المستعمر. لغة أبي كانت في أذني على الدوام، لكنها بقيت قريبة ومبعثرة في الوقت نفسه. رغم ذلك كنت أعشق سماعها ملغمة بالمفاجآت والمصاعب في كل لحظة، حين يشرع أبي يتحدث لغته، لا أفهم سوى بعض كلمات معزولة أترجمها أو أرتق منها خرقه معنى، لكنني لا أبحث عن المعنى. إنني أسمع فحسب وأندهش للأصوات والنبرات وأتمنى لو أن أبي لا ينقطع عن الكلام) ... (حين حضرت إلى فرنسا انقطعت زمناً من سماع العربية، لغة أبي. وقد عزلتني ذريعة الدراسات العليا عن الجزائر الأم، وعن الأب. لم ألاحظ إحساسي بالوحدة في لغة أمي، ولأمي وطنها فأنا لست منفية هنا إذ أكتب بلغة أمي نصوصاً أكاديمية للجامعة في لغة دراسية اصطلاحية، وكنت أحاول الكتابة الأدبية خارج اللغة الدراسة فتستعصي علي فكأنني فقدت الذاكرة ).
وقد أعتبر خميس خياطي أن ليلى صبار ـ في مجلة اليوم السابع ـ أكتوبر 1987ـ كاتبة فرنسية .. وهو يرى أن لرواياتها طعماً خاصاً، طعم البحث عن الهوية والأم والابتعاد عن الأب والعالم الخارجي المأسوي الشقي. أما ثقافة الشمال الغربية فهي ممثلة في كل صفحة مما تكتبه ليلى صبار عبر بيئة ثقيلة، ثقل آلامي، لكنها تحمل وراءه طعم الحرية، شهر زاد التي تجوب أنحاء فرنسا بحثاً عما يكون شخصيتها العربية، فقد سافر الابن كثيراً لكنه لم يجد ما يقوله لأمه التي لا تترك له أية فرصة كي يتحدث إليها ..
وفي روايات الكاتبة، كما يقول الخياطي (تبحث ليلى صبار عن مخرج يمزج بين ثقافتين. وذلك حال جيل من الأطفال المسلمين ولد بأكمله في فرنسا، ولكنه لا يعتبر نفسه فرنسياً، ولد بعيداً عن موطنه الأصلي، ولكنه لا يعرف عن هذا الوطن إلا الخرافات والحواديت، جالس بين كرسيين، ولا يعني بهذا أو ذاك.
وفي روايات الكاتبة هناك دائماً الأطفال والنساء الذين يعيشون بين عالمين متناقضين،وهناك مسافات في حياة هؤلاء النساء سواء مسافات زمنية أو مكانية، ومثلما حدث في رواية "الشاي في حريم آرشي أحمد" فإن رواية "ش يبحث عن شقيقة روحه" تتحدث عن صداقة بين طفل من أصل عربي وآخر فرنسي، وهو الموضوع المطروح دوماً في كافة الروايات التي تناولناها هنا .