بعد عقود من الصمت القسري وتحطيم كلّ معارضة سياسية، كان أكثر ما يحتاجه السوريون الذين نزلوا إلى الشوارع في العام 2011، في واحدٍ من ارتدادات الزلزال الذي بدأ في تونس، هو ما لا يمكن لأيّ سلطة مستبدة أن تعطيه راضيةً: إفساح المجال للاحتجاج السلمي على نحوٍ يتيح لمن صمتوا طويلاً تدريبَ حناجرهم على النطق من جديد، لا بالشعارات الحماسية وحدها، بل بالتصورات والخطط والبرامج والممارسات المنسَّقة، وتكوين المنظمات والأحلاف والقادة، وابتداع أشكال من التواصل مع خبرات ودروس المعارضة السياسية القديمة.. كان مستحيلاً إعطاء ذلك، كان ينبغي انتزاعه. وفي زعمي أنّ ذلك كان ممكناً كما تثبت الأزمة السياسية التي وجد النظام نفسه في دوامتها في الأشهر الأولى السلمية.
يبدو هذا كلّه اليوم أشبه بالتمنيات التي فات أوانها، بل سُحِقَت سحقاً، بعدما أطاح عنف النظام وانغلاقه كلّ أمل من هذا النوع، وبعد مسارعة الغالبية العظمى من فاعلي الطرف الآخر، المنتفض والمعارض، إلى التحلل من كلّ المحاذير الخطرة التي جرى الانتباه إليها في البداية: العنف والتسلّح والطائفية واستدعاء التدخّل الخارجي. وهذا يعني أنّه إذا كان النظام المسؤول الأول والأكبر بما لا يُقاس عمّا جرى، فذلك لا يُعفي آخرين، في المعارضة والقوى الإقليمية والدولية الحليفة لها، من اندراجهم في ظواهر غزت صفوف انتفاضة السوريين وساقتها إلى مشاركة النظام هذا الخراب العميم. ومن هذه الظواهر ظاهرة الشعبوية التي أدّت دوراً خطيراً منذ البداية وإلى الآن.
الشعبوية، عموماً وباختصار شديد، ضرب من الخطاب والممارسة السياسيين يقاربان ما يُدعَى «الشعب» مقاربةً تبسيطية، تصوّره على أنّه كتلة مصمتة لا يخترقها التعدد ولا التناقض. ويزعم الشعبويون أنَّهم صوت هذا «الشعب» وضميره وممثّلوه الذين يعلمون تطلعاته وآماله ومطامحه، حتى من دون أن يأخذوا تفويضاً بهذا التمثيل أو يقيموا عقداً في شأنه. وأكثر ما يتّسم به الخطاب الشعبوي هو الإبهام والعاطفية ومراعاة ما يحسب أنّه المزاج الشائع، مبتعداً بذلك عن مخاطبة العقل والحسّ النقدي، بل وعن تقديم المعلومات والمعطيات الرقمية التي تفسح المجال للاستنارة حول المواضيع المطروحة.
من سمات الشعبوية أيضاً تبنّيها أشكالاً من العداء للثقافة والمثقفين والنخب، مع أنَّ الشعبويين هم نوع من المثقفين والنخب بالطبع. ومن سماتها كذلك زعمها سهولة السياسة وأنَّ اعتبارها أمراً صعباً أو معقداً إنما يعود إلى رغبة النخب في الانفراد بها وإبعاد البشر العاديين عن المشاركة في صوغ حياتهم وما يلزمها من قرارات وسياسات. وربما كان هذا منشأ تلك الصورة الوردية المتفائلة التي تشيعها الشعبوية، وتبسيطها الأمور تبسيطاً يكاد أن يكون مسرحياً، ونزعتها الانتصارية الظافرة المنطوية على التضليل كما في أيّ نوع من الديماغوجيا. غير أنّ الشعبوية إذا ما كانت تستخدم الديماغوجيا أو تتصف بها، فإنّ تضليل الشعبوي، بخلاف تضليل الديماغوجي، لا يقتصر على الجمهور بل يمتد إليه هو نفسه منذ البداية.
ارتبط نزول قطاعات متزايدة من الشعب والشباب السوري إلى الشارع في العام 2011 بممارسات سياسية وخطابية متعددة الأشكال، تراوحت من المشاركة الجسدية المباشرة، مروراً بمحاولة تنظيمات قديمة مواكبة الحراك والارتباط به، وصولاً إلى إقامة بنى تنظيمية جديدة زعمت صدقاً أم زيفاً أنها من داخله، مع ما ارتبط بكل ذلك من كتابة سياسية وفكرية مارسها أفراد ومجموعات. وكان من الواضح، منذ البداية، أنّ ثمة خطّين على الأقلّ في الانتفاضة أو الثورة السورية، لعلّ أكثر ما يعبِّر رمزياً عنهما وعن تعارضهما الشديد هو الصورة التي انتشرت للمناضل التاريخي اليساري عبد العزيز الخيّر الذي قضى عمره ملاحَقاً ومعتقلاً ثم مختطفاً، وهو يتلقى اللكمات من «شبّيحة الثورة» في القاهرة أمام مبنى جامعة الدول العربية. هؤلاء الشبّيحة الثوريون تربطهم أواصر كثيرة سياسية وفكرية وممارسية بظاهرة الشعبوية التي ميَّزت هذا الخط الغالب في الانتفاضة السورية.
تجلّت الشعبوية هنا، من بين أشياء كثيرة لا مجال لذكرها جميعاً، في عدم اعتبار بنية المجتمع السوري والنظام السوري وموقع البلد الجغرافي السياسي وحال القوى الثائرة ونسبتها، الأمر الذي دلّ عليه استعجال رفع شعار إسقاط النظام ودعوته للرحيل على الطريقة التونسية والمصرية. وتجلّت الشعبوية في الاكتفاء بفعل النظام الوحشي سبباً للخطط والشعارات السياسية، كما لو أنّ المظالم وحدها والمشاعر العاطفية التي تولّدها تكفي لرسم السياسات العملية المباشرة. وتجلّت في اعتبار الثورة برنامج ذاتها الكافي. وتجلّت أيضاً في إقناع النفس بأنَّ منظمات غرّة بل ومضحكة أُعِدَتْ على عجل هي «الجهاز السياسي» للثورة، بدلاً من البحث، في الظروف السورية، عن أوسع التحالفات وأشدها تنوّعاً. وتجلّت في الانتقال السريع من الدعوة إلى السلمية واللاطائفية ورفض التدخل الخارجي إلى قبول كلّ هذا وتبريره، بل والدعوة إليه بذريعة أنّ النظام لم يترك مجالاً لغير ذلك وأنّ «الشعب» يريد، في خلط عجيب وخطير بين التفسير والتبرير، وبين الاعتراف بواقعية الظواهر وقبولها والترويج لها.
هكذا رأينا كيف شُتِمت باكراً تقارير منظمات حقوقية دولية سبق أن أبلت بلاءً حسناً لمجرد إشارتها إلى تجاوزات الثورة. ورأينا التقلّب في اعتبار منظمات إرهابية تكفيرية مثل «النصرة» و«داعش» صنائع النظام ثم اعتبارها جزءاً جوهرياً من قوى الثورة. ورأينا مقدار الثقة الباكرة جداً والمبالغ بها في رفض أي تفاوض مع النظام ما لم يكن على تسليم السلطة. وغياب أي سياسة جدية سوى طلب التدخل الخارجي المرحَّب به كيفما كان وعلى الدوام. ونشر فكرة «نُسقط النظام ثم نرى ما نفعل». واعتبار العمليات العسكرية التي تزيد خراب النظام خراباً عمليات تحرير والمطالبة بزيادة زخمها. وغياب أي نقاش أو نقد جديين لقيام ظواهر شديدة التعقيد والالتباس مثل «الجيش الحر» وعَلَم الثورة وأيّ من الخطايا المرتكبة باسم هذه الأخيرة إلا متأخّراً جداً وفي سياق تبرير خطايا أكبر.
يحتجّ الشعبويون بـ«الواقع» كما لو كان هذا الأخير معطى واضحاً وبدهياً، يثقون كلّ الثقة أنَّ الفهم الشائع أو الحسّ المشترك قادر على فهمه وتملّكه. وهم لذلك يحتجّون على منتقديهم بالزعم أنهم لا يضعون أنفسهم فوق ما يجري ولا يسمحون لأنفسهم بأن يتعالوا على الحراك أو بأن يطالبوا «الشعب» بفعل غير الذي يفعله مهما يكن. ومثل هذه الخزعبلات الشعبوية لا تفعل في الحقيقة سوى إخفاء المشكلة الجوهرية التي لا علاقة لها بهم وبالمكان الذي يضعون فيه أنفسهم، بل بتفهّم توازن القوى القائم في لحظة معينة واتجاه تطوره، وبدور المثقف والسياسي الذي يفترض أن يكون نقدياً. ما يجري الآن في مواجهة النظام عنوانه الأعرض هو «داعش» و«النصرة»، هل ينبغي على الشعبوي ألا يضع نفسه فوق هذا الذي يجري؟
وقد برزت لدى شعبويي الثورة السورية آليّة لمهاجمة ناقديهم ديدنها الاستعانة بالنظام. يقولون لناقديهم: «قبل انتقادنا، تجرّأوا على قول أيّ شيء ضد النظام»! وهم في الحقيقة غالباً ما يوجّهون مثل هذا التحدي السخيف لمناضلين لم يكفّوا يوماً عن نقض النظام لا عن نقده فحسب، مناضلين عادةً ما يكونوا من أولئك الذين فضلوا البقاء على متراس النضال الديموقراطي الوطني السلمي في الداخل بخلاف الشعبويين الذين باتوا بعيدين حتى عن المناطق التي يدَّعون أنّ ثورتهم قد حررتها! والأسوأ أنّ هؤلاء يعتقدون أنَّ هجاء النظام وقول شيء ضده هو سياسة أو يكفي لرسم سياسة تجاه هذا النظام، بغض النظر عن شروط ضرورية كثيرة أخرى موضوعية وذاتية.
لقد تكلمتُ هنا عن شعبويين هم الأفضل، ولا تمكن مقارنتهم بأدعياء ثورة كانوا حتى البارحة أسوأ جلاوزة النظام، أو بنصّابين دوليين من أصل سوري لا يكادون يعرفون موقع سوريا على الخريطة. ولعلّ الميزة الأهم للشعبويين السوريين، كما للشعبويين عموماً، هي أنهم ليسوا شعبيين؛ بمعنى أنهم نخب سياسية وثقافية تدَّعي وصلاً بـ«الشعب» وتنسب لهذا «الشعب» أفعالاً وخطابات ورؤى وشعارات هي من إنتاجها ومن إنتاج رعاتها وحلفائها الإقليميين والدوليين.
لقد سبق لنا أن رأينا مثل هذا في غير مكان.
سبق لنا أن رأيناه لدى الأنظمة.
* * *
(نقلاً عن السفير)