في الحياة الكثير من السرد، وفي السرد الكثير من الحياة أيضا، وهذا التنافذ ما بين السرد والحياة يعكس عمق التمثلات الثقافية في صياغة الوعي، وفي استثارة التخيّل، إذ تتحول اللغة إلى القوة السرية الحاملة للسيمياء وللفكرة وللرسالة/ الخطاب، مثلما تكون هي المجال الصوري الذي يضخّ الشفرة اللغوية بطاقة تعبيرية هائلة، طاقة التجسيد، وطاقة الكشف والتجاوز، وبما يعطي لتداولها قيمة رمزية في السياق وفي التوصيل، وفي الاستثارة. وأحسب أن المسرح هو أكثر المجاورات اللغوية/ التعبيرية تأثيرا في تشكيل سردية الحياة البصرية، وفي إحالة الرمز الثقافي من تداوله اللغوي إلى شكلانية تمثله الاجتماعي والثقافي والنفسي وحتى السياسي.
الذاكرة العراقية ذاكرة فجائع، وصندوق سري لقصص الحكواتيين/ القصخونيين، ولشـــفرات قاموسهم الضدي للسلطة، ولتابواتها الرمزية، لذا بدت هي الأكثر تمثلا لمشغل السرديات الجمالية، والســرديات التي تعيد تصميم المتخيل الثقافي في تلك الذاكرة، وفي إثراء حكاياتها بما هو عميق إنسانيا ومعرفيا وأخلاقيا.
الفنان العراقي خليل شوقي واحد من أكثر حكواتي تلك الذاكرة إثارة للجدل، وربما أكثرهم حيازة لشيفرات القاموس المديني، وخصوصية في استكناه حمولات الصراعات السياسية والاجتماعية التي عاشتها مدينة بغداد، بوصفها مدينة صراع واغتراب فاجع، تتغول فيها السلطة، مثلما تتغول فيها مظاهر التاريخي والحزبي والديني والشعبوي، مدينة تحولات وهجرات وحروب واحتلالات.. الرعب السسيوسياسي للمدينة، تحول إلى رعب إنثربولوجي اشتبكت فيه عوالم وعادات ولهجات وهويات (قاتلة ومقتولة)، وكل رواة هذه المدينة ظلوا جزءا من لعبة تحولاتها واصطفافاتها، لم يقاربوا يوميات شخصياتها المعذبة والمطحونة، وحتى السرديات الروائية احتفظت بهاجسها تحت مهيمنات ما هو رمزي وتجريبي. وحده المسرح كان الأفق الذي يهجس بذلك الضدي، ويصطنع عبر عوالمه وسردياته البصرية ما يستفز السلطة، وما يثير قوى التابو الاجتماعي التي تقلقها أسئلة الحرية والثورة والجسد والحقوق. الحديث عن الفنان خليل شوقي الذي رحل في مهجره الهولندي، يستفزُ الذاكرة والروح كثيرا، ليس لأنه رحلَ بطريقة تراجيدية في منفاه، أو لأن أجيال ما بعد محنة الحرب والاحتلال لم تره، ولم تتعلم من صدق رسالته، وعفوية وعيه ودرسه الدرامي مناهل ما كان يغدقُ، بقدر ما يعني لنا هذا الرحيل تكريسا لغياب الذاكرة، وإقصاء لصورة واحد من شهودها الكبار، وربما ردما قهريا لثقوبها ومحوا لأثرها.. كنّا صغارا ومهووسين بالمسرح، وكان الذهاب إلى العروض المسرحية لفرقة الفن الحديث يعني الكثير لطفولتنا ولوعينا المبكر بأسئلة الأدب والسياسة، فضلا عما يعني لنا من إحساس متعال بوهم الكبرياء الثقافي الذي عادة ما يتلبّس الادباء الشباب، وأحسب أن مشاهدة خليل شوقي على المسرح تحمل معها هاجس الوقوف أمام سردي وحكواتي كبير، مثلما كانت تحــــفزنا واقعــــيته وعفويته في التمثيل والإخراج على إدراك أهمية الكشف الثقافي لسرائر الحياة، وللتعاطي مع شيفرات الرسالة الثقافية، بمواجهة جمهور يعيش الكثير من اغترباته الوجودية والوطنية، فكنّا نجد أنفسنا أكثر امتلاء وإحساسا بأهمية هذا التعلّم، وشحن وعينا المبكر بتوهج الرسالة، ووخز الصدمة، والانكشاف غير المألوف على ما خلف المعنى الواقعي للاشياء الممسرحة، بدءا من شيفرات ما هو شعري إلى ما هو سياسي وأيديولوجي، لاسيما أننا كنّا من أصحاب الأحلام التطهيرية، تلك المتورطة بهاجس الحرية والتمرد والأنوية، شحنتنا بها قراءاتنا المفرطة لـ(جان بول سارتر، كولن ولسن، البير كامو)، فضلا عن ثوريات الواقعيات الروسية والفرنسية واللاتينية.
خليل شوقي وجه ساطع لتلك الذاكرة، لأنه من جيل ملأ المخيلة الثقافية بأسئلة كثيرة، تلك التي جعلتنا ننحاز إلى المسرح في مستوياته الواقعية في بعدها السياسي والنفسي، وحتى في إثارتها التجريبية، وإذا كان مع يوسف العاني وإبراهيم جلال وجعفر السعدي وجاسم العبودي وزينب وناهدة الرماح وقاسم محمد وغيرهم يمثلون المرحلة (الصاخبة) لثقافوية المسرح العراقي، فإنهم كانوا أيضا الأكثر جدّة في فهم وظيفة المسرح الرسالية في صناعة رأي عام ثقافي، ووعي اجتماعي فاعل، ورسالة مواجهة حادة مع مظاهر التخلف والجهل والاستبداد، مثلما كان لهم الحضور المميز في تأصيل أخلاقية تلك الرسالة، ولتنمية التقاليد المهنية في صناعة الممثل والنص والمشهد.
الصورة تكرر رسالتها
صورة خليل شوقي ورسالته الثقافية ظلت مسكونة بثوريته الاجتماعية، ووعيه في أن يكون جزءا من المدرسة التي يعرفها عن معلميه الكبار أمثال، لورنس اوليفيه وبيتر بروك وستانسلافسكي، وحتى يوسف وهبي وزكي طليمات وغيرهم، إذ كانت صورة الممثل لا تنفصل عن صورة الرسالي، وصورة المعلم، وصورة المناضل الاجتماعي صاحب القضية بمعناها الأخلاقي والثقافي، فحتى في أدواره المميزة في الدراما التلفزيونية والسينمائية كان مثالا لذلك المعلم الذي يسكنه، وللبطل الذي لا يؤمن بمقولة الدور الكبير والدور الصغير، قدر إيمانه بوجود الممثل الكبير والممثل الصغير، كما قال مرة يوسف وهبي.. هذا الإحساس والحضور يجعلنا دائما ندرك أهمية أن يكون الممثل جزءا من فكرة البناء الحضاري، وسمو التعبير عن الأفكار والمواقف، وكذلك على المستوى الفني وجدّيته الممثل في إتقان وإشباع دوره، وأن يسهم المشهد التمثيلي -الذي يؤديه- في صناعة الوجدان والذائقة والوعي، ولا أحسب، أن مسلسلين رائدين مثل «الذئب وعيون المدينة» و«النسر وعيون المدينة» إلاّ مثالان لمهارة خليل شوقي في صناعة المشهد، وفي صناعة الشخصية وفي التعاطي مع ذاكرة المدينة ومع الحمولات الثقافية والنفسية والسياسية لرسالة النص والمشهد، إذ تتطلب هذه الصناعة قدرة عالية من المهارة والوعي والتوصيل والتأثير من جانب، مثلما تتطلب حرصا مسؤولا على تقانة الأداء وعلى الحرفنة، وعلى تمثل كل الدروس والقيم التي تعلّمها لتكون مصدره في التألق والإضافة والحيوية وفي إثارة المزيد من الأسئلة.
المثقف المديني
صورة خليل شوقي في الذاكرة المستفزَة تعيدنا أيضا إلى شخصية المثقف المديني، وإلى طبيعة وظيفته التعبيرية على المستوى الاجتماعي/ السياسي، وعلى مستوى الطبقي في التعبير عن قيم ثقافية ونفسية لحمولات المدينة، بوصفها مركزا تجاريا وثقافيا وسياسيا، ومركزا تتجسد في تمظهراته طبيعة الدور الاجتماعي والسياسي الباعث على إنضاح محتوى الرسالة الثقافية، وعلى توظيف قناتها وقراءة مزاج جمهورها المستهدف. أنموذج المثقف المديني واحد من أكثر ضحايا الرعب السياسي والطبقي للتحولات العصابية في المدينة، مثلما هو الأكثر أضحية لوظيفته التعبيرية في مواجهة قوى الاغتراب والطرد والغزو، تلك التي انعكست على إنتاج صور مضادة لترييف المدينة، ولصناعة مرعبة لصور المثقف الإيديولوجي، والمثقف الحزبي، والمثقف الديني، والمثقف الانتهازي، أو المثقف الذي يعيد إنتاج صورة المهرج في تاريخ سردياتنا الدامي.
خصوصية خليل شوقي أضفت على حضوره وجاهة كبيرة، جعلته أنموذجا للمثقف العارف بوظيفته، والمثقف المؤمن بالمسؤولية التربوية والأخلاقية للرسالة الثقافية التي يقدمها الممثل، والفن بشكل عام، فهو جزء من جيل ٍ علمنا أن الفن جمال وأخلاق وإيمان، أولئك الذين ملأوا نفوسنا بعمق ما تركوه من أثرٍ طيب وفاعل، ومن قيمة مازلت تشفع لنا في لحظتنا المعاصرة ونحن نواجه خرابا وإرهابا ورعبا وتكفيرا مسّ كل شجون حياتنا ووعينا ورؤيتنا المخنوقة للجمال والفكر والمعرفة، مثلما هو الممثل الذي عرف قدر نفسه إزاء ما يجري في عراق الحروب والاحتلالات فاختار المهجر عالما لحياته ولذاكرته ولموته.