منذ سنوات بعيدة تلازمني كتابة اليوميات، في البداية كنت أكتبها بالشكل المتعارف عليه: أن أسجل ما حدث لي في يومي مع تأملات متناثرة. لكنني تدريجياً شعرت بأهميتها عندما وجدتها ـ دائماً ـ الملاذ الذي أستطيع أن أحاور فيه، ليس فقط الحدث اليومي، بل ما أتلمسه و أحاول أن أتعرف عليه أو أصل من خلاله إلى بداية ما.
طبيعة العلاقة بين الرواية واليوميات تشبه علاقتنا بأحلام اليقظة. في تلك الأحلام نحلم بما نشاء ونهوى ونتخيل أنفسنا كيفما نرغب. وقد يتحقق بعد ذلك جزء من تلك الأحلام لكن تبقى دائما أجزاء كثيرة تخايلنا وتظل حليفنا في وقت الجدب وربما تولد أحلاما أخرى، ما يتحقق منها ينضم بدوره إلى تاريخنا المعلن والباقي يظل شاهدا على أن في الحياة الكثير مما لم يتحقق بعد.
من هنا تتضح العلاقة بين اليوميات والكتابة التي ظهرت لي أثناء" تصريح بالغياب "عام 1996، هذه الرواية كتبتها بعد انتهائي من أداء فترة التجنيد العسكرية بحوالي سبع سنوات، كانت المشكلة أنني لم أجد إلا اليوميات لكي أتحاور فيها مع نفسي حول التجربة، فأنا لا أريد أن أكتب تجربة جيش كما هو متوقع، بمعنى تجربة جيش بين طالبات التمريض اللواتي ينفصلن عن أسرهن فترات طويلة في سن المراهقة ويعشن في سكن داخلي، لم أكن أريد أن أستثمر هذا، ولا أريد أن أكتب رواية تقدم هذه الإثارة المتوقعة على كل المستويات، كنت أريد أن أكتب شيئاً آخر أشعر به ولا أقبض عليه في الوقت نفسه، كتابة الالتباس التي تحكم هذه العلاقات في مكان تحكمه قوانين صارمة وفي نفس الوقت يحاول كل من فيه أن يلتف حول هذه الصرامة والشدة. من خلال اليوميات كان هناك حوار مستمر، ومن خلالها كتبت عدة بدايات لهذه التجربة دون أن أصل الى بداية ترضيني. وفكرت وقتها أن أجمع كل هذه اليوميات تحت عنوان "كتاب البدايات"، لكن استمرار الحوار مع الرواية في صفحات اليوميات أدى إلى ظهور المدخل الذي فتح الرواية أمامي.
ومن خلال كتابة اليوميات تفهمت كيف تكتب تجربة تبدو عادية مجردة من كل "الإغراءات" الفنية، تجربة تكاد تكون "ملقاة على الطريق" بالفعل، وفي الوقت نفسه تستطيع أن تكشف أن هذه العادية هي مجرد تمويه أو ستار يخفي وراءه مستويات أخرى أكثر عمقاً، ما يبدو أنه عادي يتآلف معه القارئ من خلال النص، ويكوِّن معه ذاكرة من خلال النص، عكس الأحداث العظيمة والشخصيات المحملة بدلالات يتعرف القارئ على جزء منها قبل القراءة. في «خروج إنسان» القصة الأولى في مجموعة "شخص غير مقصود" عام 1999، خرج شخص يبحث عن هدية لحبيبته، وهي المرة الأولى التي يخرج للبحث عن هدية، حاولت الاقتراب من هذه النوعية من الشخصيات التي لا تملك إلا هذه الجزئيات العابرة، وفي الوقت نفسه تمثل محطات ولحظات مهمة في حياتها، من خلال هذه الكتابة انتبهت إلى أنه من الممكن أن تكمن الغرابة داخل ما هو عادي، ولا أقصد العجائبي أو المفارق لقوانين الواقع وإنما الذي لا نستطيع تصنيفه ووضعه في خانة من الخانات المتعارف عليها، وشعرت أن هذا الغريب هو الذي يجعل رحلة الكتابة أكثر إمتاعاً لأنك تبدأ بالعادي وتحاول التنقيب فيه إلى أن تصل إلى المستوى الكامن فيه. في روايتي الثانية "أن ترى الآن" عام 2002 ، كتبت عن "إبراهيم" هذه الشخصية التي تكاد لا تملك أي شيء تتميز به إلا النسيان، مازال في منتصف العمر لكن الأشياء تهرب من ذاكرته، وهو في منطقة بين بين: في العمل وفي اختياراته في الحياة وحتى في علاقته بالمرأة، أو هو شخص في مفترق الطرق بدون أن يكون قد حدد أي طريق يختار، هو يعيش حالة مفترق الطرق هذه، وأكاد أشعر أحياناً بأنها ليست حالة فقط، بل هذا هو توصيف حياته أو اختياره الحياتي. في الوقت نفسه لا أقصد من هذا بأنه في الرواية يحاول ـ بعد حدث تشويه الصور وانهيار علاقته بزوجته ـ أن يبدأ في إعادة النظر في الأشياء من حوله، ربما هذا موجود على مستوى من المستويات، لكن هذا لا يشغل الرواية التي تنشغل أساساً بمحاولة قراءة هذه الشخصية التي ـ رغم ما تعانيه من "تخبطات" و"انهيارات"ـ لا تبادر بالفعل، هي تعيش في مرحلة كأن كل ما يحدث حولها بديهي. كنت أحاول قراءة هذه الشخصية في تفاصيلها التي تبدو عادية، ومع التركيز عليها تبدأ تخايلك بأن غرابة ما تسكنها وتدفع إلى إعادة النظر في عاديتها أو في معنى تلك العادية.
وتشترك اليوميات والرواية في أن الراوي لم يعد يطمئن إلي صفات يعرفها عن نفسه ويحاول أن يبرهن عليها في مواقف سردية، بل صار الراوي يبحث عن صفاته هذه، ويحاول أن يكون في حالة عمل باستمرار، فما يتكشف له من خلال الحكي دعوة لمواصلة البحث وليس للتوقف عند ما توصل إليه، في روايتي الثالثة "مسألة وقت" عام 2008 ، كانت لدي يحيى الشخصية الرئيسة في الرواية مشكلة دائمة مع الوقت، فهو يعاني دائما من فروق التوقيت بينه وبين من حوله، ففي الوقت الذي تكتمل لديهم الأشياء يشعر هو دائما بأنها لم تأت بعد، وفرق التوقيت هذا هو الذي جعله يتحير عندما اكتشف أن "رنا" التي زارته فجأة في منزله، كانت ميتة قبل الزيارة بثلاث ساعات. كان يظن أنه على مشارف علاقة حب أو حلم و إذا به يفاجأ بالنقيض، فداخل يحيى يتعايش الموت والحياة جنبا إلي جنب وفي اللحظة ذاتها، وقد تكون المسافة بينهما تكاد تكون معدومة لأنهما يتبادلان لعبة الكراسي الموسيقية. عالم يحيى يبدو عاديا وأقرب إلى المنطق الواقعي لكن تأتي حكاية "رنا" لتخلخل كل هذه العادية والأحداث المألوفة كل يوم، وتجعل كل ما يعيشه هذا الشخص رغم عاديته يصير على أرض غريبة، وتصير الكلمات التي تقال كل يوم لها معان مختلفة، فيحيى يعيش بين الناس ويذهب إلى عمله يوميا لكنه يحمل داخله حكاية نقيض كل ما يحياه.