المبحث الأول: الأسطورة
أولا: التعريف اللغوي في المعاجم العربية:
جاء في لسان العرب: "سطر، يُسَطِّر، إذا كتب، قال الله تعالى: ((والقلم وما يسطرون)) أي وما تكتب الملائكة. والأساطير: الأباطيل، والأساطير: أحاديث لا نظام لها، واحدتها إِسْطَار وإِسطارة بالكسر وأسْطيرة وأسطُورة بالضم، سطَّرها: ألَّفها، وسطَّر علينا، أتانا بالأساطير، يقال سَطَّر فلان علينا يُسَطِّر إذا جاء بأحاديث تشبه الباطل"(1).
وفي شرح القاموس المسمى تاج العروس "يقال بنى سطرا من نخل، وغرس سطرا من شجر، أي صفَّا وهو مجاز، والأصل في السطر: الخط والكتابة. والأساطير الأباطيل والأكاذيب والأحاديث لا نظام لها. وقال اللحياني، واحد الأساطير أسطورة، وسَطَر تَسْطيراً: ألَّف الأكاذيب. وقال الليث: يقال سَطَّر فلان علينا يسطِّر إذا جاء بأحاديث تشبه الباطل. يقال سطر فلان على فلان، إذا زخرف له الأقاويل ونَمَّقَهَا"(2).
وورد في مجمل اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس "سطر فلان علينا تسطيرا، إذا جاء بالأباطيل، وواحد الأساطير، إِسْطَارٌ وأسطورة."(3).
وجاء في المحيط "معجم اللغة العربية": سَطَرَ، يَسْطُر سطرا، كتبه، سَطَّر، يُسَطَّرُ تسطيرا (العبارة ونحوها): ألَّفها، سَطَّر الأكاذيب"(4).
وفي ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير وأساس البلاغة "(س ط ر)، الأساطير الأحاديث لا نظام لها، جمع إسطار وإسطير بكسرهما"(5).
وجاء أيضاً في أساس البلاغة "سطر: كتب. وهذه أسطورة من أساطير الأولين: مما سطَّروا من أعاجيب أحاديثهم، وسطَّر علينا فلان: قص علينا من أساطيرهم"(6).
وورد في النهاية في غريب الحديث "(باب السين مع الطاء)، سَطَرَ في حديث الحسن (سأله الأشعث، عن شيء من القرآن فقال له "إنك والله ما تُسَطِّرُ علي بشيء"، أي ما تروِّج وتُلَبِّسُ، يُقال سطر فلان على فلان، إذا زخرف له الأقاويل ونمَّقها، وتلك الأقاويل: الأساطير"(7).
وفي المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية "الأساطير، الأباطيل والأحاديث العجيبة"(8).
انطلاقا من التعاريف السابقة أخلص إلى ما يأتي:
أغلب المعاجم العربية القديمة أو الحديثة، تَحْصُر الأساطير في معنيين:
- الأول: الأساطير هي الأباطيل والأكاذيب.
- الثاني: الأساطير هي ما سُطِّر وكُتِب ونُمِّق.
ثانيا: التعريف في المعاجم الغربية:
ورد مصطلح "أسطورة"، يعني "mythe" في المعاجم الغربية كالآتي:
جاء في "Le Robert": «Mythe: Récit fabuleux، souvent d’origine populaire، qui met en scéne des êtres incarnant sous une forme symbolique des forces de la nature، des aspects de la condition humaine، et se donne comme explication de l’univers»"(9).
ترجمت هذا النص بما يلي "الأسطورة: حكاية عجيبة، مصدرها شعبي غالبا ما تضع على مسرح الأحداث كائنات تُشَخَّصُ بشكل رمزي قوى الطبيعة، ومظاهر الشرط الإنساني، وتُقَدِّم نفسها كتفسير للكون".
وورد في: "Le grand la rousse"، عدة معان وقد ترجم ذلك الدكتور يونس لوليدي إلى اللغة العربية:
- "الأسطورة تقدم تصورا ما عن حدث أو شخص، كان له وجود تاريخي، ولكن تدخّل الخيال الشعبي وغيّر إلى حد كبير في صفته الواقعية.
- عرض فكرة أو تعاليم مجردة، بصيغة مجازية وشعرية.
- تقديم تصور مثالي عن حالة معينة من حالات البشرية في الماضي"(10).
وجاء أيضا في معجم اللغة الفلسفية Dictionnaire de la langue philosophique:
«Un mythe essaie toujours d’expliquer quelques chose، soit la cause d’un phénomène، soit l’origine d’une institution ou d’une coutume، c’est donc essentiellement un conte explicatif»(11).
ترجمت هذا النص كالآتي: تحاول الأسطورة دائما تفسير شيء ما، إما سبب ظاهرة طبيعية، أو أصل مؤسسة أو عادة، إذن هي بالأساس حكاية تفسيرية.
وفيه أيضا:
«Le mythe donne une réponse provisoire، il est vrai، mais enfin une réponse aux questions de l’homme curieux de connaître la raison des choses، il s’agit donc d’un phénomène purement intellectuel»(12).
وهذه ترجمة النص السابق: تعطي الأسطورة جوابا مؤقتا وحقيقيا، ومن ثم فهي تجيب عن أسئلة الإنسان الفضولي، لمعرفة عِلّة الأشياء، يتعلق الأمر إذن بظاهرة ذهنية خالصة.
وفي "موسوعة الدين (the encyclopedia of religion) تأتي كلمة mythe الإنجليزية من كلمة موثوس (Muthos) اليونانية التي تعني "كلمة" أو "كلام"، والتي تَكْتَسِب أهميتها من كونها مناقضة لكلمة (Logos). أما موثوس (Muthos)، التي تعني الأسطورة (mythe) فهي الكلمة الدالة على قصة ذات علاقة بالآلهة وبالكائنات الفوق بشرية، إن الأسطورة هي التعبير بالكلمات عما هو مقدس، فهي تتحدث عن أحداث ووقائع حصلت منذ نشوء العالم، وبقيت سارية بوصفها أساسا وغاية لكل ما هو موجود اليوم، وبالتالي فإن الأسطورة تضطلع بوظيفة النموذج والمثال بالنسبة إلى النشاط الإنساني، والمجتمع والحكمة والمعرفة"(13).
بالرجوع إلى التعاريف السابقة، سواء منها التي وردت في المعاجم العربية، أو المعاجم الغريبة، نستنتج أن:
- أغلب المعاجم العربية سواء منها القديمة أو الحديثة، تشترك في كون الأسطورة هي الأكاذيب والأباطيل، مع استثناء لمعجم أساس البلاغة "الذي يرى أن الأسطورة هي الأحاديث العجيبة"(14).
- أما مصطلح (mythe) بمفهومه الغربي يمكن القول أنه "عرف عدة دلالات منذ عهد الإغريق إلى يومنا هذا، فكلما تطورت مختلف العلوم الإنسانية، إلا و تطور مفهوم الأسطورة (mythe)"(15).
- هناك تناقض وفرق شاسع بين مصطلحي أسطورة بمفهومه العربي ومصطلح (mythe) بمفهومه الغربي.
إن المقصود عندي في هذا البحث هو المفهوم الأنتروبولجي للأسطورة التي هي حكاية حقيقية مقدسة، وقعت في الزمن الأول، وتصلح كنموذج للتصرفات الإنسانية.
ثالثا: مفهوم الأسطورة في تفاسير القرآن الكريم
جاء في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم:
الكلمات القرآنية التالية "(يَسْطُرون)، القلم الآية1، (مَسْطُورٍ) الطور الآية1، (مَسْطُوراً) الإسراء 58 والأحزاب الآية 6، (مُسْتَطَر) القمر الآية 53، والذي يهمنا في هذا المقام هو كلمة (أساطير)، فقد وردت في القرآن الكريم تسع مرات"(16).
قال تعالى: ((يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الاَوَّلِينَ)) الأنعام الآية 26.
قال تعالى: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الاوَّلِينَ)) النحل الآية 24.
قال تعالى: ((إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الاوَّلِينَ)) المؤمنون الآية 84.
وقال تعالى: ((قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الاوَّلِينَ)) الأنفال الآية 31.
قال تعالى: ((وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الاوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا)) الفرقان الآية 5.
قال تعالى: ((لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الاوَّلِينَ)) النمل الآية 70.
قال تعالى: ((فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الاوَّلِينَ)) الأحقاف الآية 16
قال تعالى: ((إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاَوَّلِينَ)) القلم الآية 15.
قال تعالى: ((إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاوَّلِينَ)) المطففين الآية 13.
وقد جاءت أقوال المفسرين في هذه الآيات التسع كالآتي:
b سورة الأنعام الآية 26 «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمُ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَّرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُوْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الاَوَّلِينَ».
جاء في كتاب "التحرير والتنوير" "الأساطير، جمع أسطورة، بضم الهمزة، وسكون السين، وهي القصة والخبر عن الماضيين، والأظهر أن لفظ الأسطورة معرّب عن الرومية، أصله إسطوريا، بكسر الهمزة وهي القصة. وأحسن الألفاظ لها أسطورة أي القصة المسطورة، وتفيد الشهرة في مدلول مادتها مثل الأعجوبة والأحدوثة، وكان العرب يطلقونه على ما يتسامر الناس به من القصص والأخبار، على اختلاف أحوالها من صدق وكذب، فقولهم «إن هذا إلا أساطير الأولين» يحتمل أنهم أرادوا نسبة أخبار القرآن إلى الكذب على ما تعارفوه من اعتقادهم في الأساطير، ويشتمل أنهم أرادوا أن القرآن لا يخرج عن كونه مجموع قصص وأساطير"(17).
وورد في فتح القدير للشوكاني، معنى الآية، المقصود هم "المشركون، الذين بلغوا من الكفر والعناد أنهم جاءوك مجادلين ولم يكتفوا بمجرد عدم الإيمان، بل يقولون إن هذا إلا أساطير الأولين، الأساطير، قال الزجاج واحدها أسْطَارٌ، وقال الأخفش أُسطورة، وقال أبو عبيدة أسطارة، وقال النحاس أُسطور والمعنى: ما سطّره الأولون في الكتب من القصص والأحاديث، قال الجوهري الأساطير الأباطيل والترهات"(18).
وفي مختصر تفسير الخازن "«أساطير الأولين»، يعني أحاديث الأولين من الأمم الماضية وأخبارهم وأقاصيصهم وما سطروا، يعني وما كتبوا، والأساطير، جمع أُسطورة وأُسطارة وهي الترهات والأباطيل من الأمور المشكلة الغامضة التي لا أصل لها"(19).
b سورة الأنفال الآية 31 «وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إلاَّ أَسَاطِيرُ الاوَّلِينَ».
ذكِر في تفسير الجلالين للإمامين جلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي "قاله النضر بن الحارث، لأنه كان يأتي الحيرة، يتَّجِرُ فيشتري كتب أخبار الأعاجم، ويحدث بها أهل مكة «إلا أساطير» أكاذيب الأولين"(20).
b سورة النحل الآية 24 «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الاوَّلِينَ».
جاء في التحرير والتنوير "الأساطير، جمع أسطار، قال المبرد جمع أسطورة، وهي مؤنثة باعتبار أنها قصة مكتوبة"(21).
وفي فتح القدير "أجاب المشركون المنكرون المستكبرون «قالوا أساطير الأولين»، أي ما تدَّعُون أيها المسلمون نزوله، أساطير الأولين، أو أن المشركين أرادوا السخرية بالمسلمين، فقالوا المنزل عليكم أساطير الأولين، الأساطير، الأباطيل والترهات التي يتحدث الناس بها عن القرون الأولى"(22).
b سورة المومنون الآية 84 «لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاّ أَسَاطِيرُ الاوَّلِينَ».
جاء في التحرير والتنوير "صيغة القصر بمعنى، هذا منحصر في كونه من حكايات الأولين، والأساطير، جمع أسطورة، وهي الخبر الكاذب، الذي يكسي صفة الواقع مثل الخرافات والروايات الوهمية لقصد التلهي بها"(23).
وذكِر في فتح القدير "أي ما هذا إلا أكاذيب الأولين، التي سطروها في الكتب، جمع أسطورة وكأحدوثة الأساطير: الأباطيل والترهات والكذب"(24).
b سورة الفرقان، الآية 5 «وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الاوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا».
وفي التحرير والتنوير "الأساطير، جمع أسطورة بضم الهمزة، وكالأُحدوثة والأحاديث، والأُغلوطة والأغاليط، وهي القصة المسطورة. قال ابن عباس كل ما ذكر فيه أساطير الأولين في القرآن فالمقصود منه قول النضر بن الحارث"(25).
b سورة النمل، الآية 70 «لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الاوَّلِينَ».
جاء في تفسير الجلالين "«إن هذا إلا أساطير الأولين»، جمع أسطورة بالضم، أي ما سطر من الكذب"(26).
b سورة الأحقاف، الآية 16 «وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الاوَّلِينَ».
وورد في تفسير الطبري "ما هذا الذي تقولان وتدعواني إليه من التصديق بأني مبعوث من بعد وفاتي من قبري إلا ما سطره الأولون من الناس من الأباطيل، فكتبوه فأصبتماه أنتما فصدقتما"(27).
b سورة القلم الآية 15 «إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاوَّلِينَ».
ورد في فتح القدير نفس المعنى في سورة المومنين، وجاء في جامع البيان في تفسير القرآن، للإمام الطبري "قال مما كتبه الأولون استهزاء به"(28).
b سورة المطففين الآية 13 ((إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاوَّلِينَ)).
جاء في تفسير الطبري "إذا قرئ عليه حُجَجُنا وأدلتنا التي بيناها في كتابنا، الذي أنزلناه إلى محمد صلى الله عليه وسلم، قال أساطير الأولين، يقول، هذا ما سطره الأولون، فكتبوه من الأحاديث والأخبار"(29).
- يتضح من خلال عرض معاني الآيات التي تضمنتها كلمة "أساطير" في تفاسير القرآن الكريم ما يلي:
1- كلمة أساطير في القرآن الكريم، ترِدُ دائما منسوبة إلى الأولين، هذه الأخيرة في نظر الدكتور يونس لوليدي "الأمم المجاورة، وخاصة الفرس"(30).
2- كل ما ذكر فيه أساطير الأولين في القرآن، يقصد به قول النضر بن الحارث، كما روى ابن عباس في تفاسير عديدة.
3- إن معنى كلمة "أساطير" في التفاسير التي ذكرت سابقا لا تخرج عن كلمة أسطورة كما جاءت في المعاجم العربية، وهي الترهات والأباطيل والأمور المشكِلة الغامضة التي لا أصل لها، وهي الكذب والأغاليط والقصص المسطورة والباطلة، وهذا يُنَاقِضُ مفهوم أسطورة كما قررتُه سابقا، بمعناه الأنتروبولوجي.
4- يرتبط مفهوم "أُسطورة" في بعض التفاسير والمعاجم العربية بالكتابة أي ما سطّره الأولون فكتبوه، سطّروها في الكتب يعني كتبوها، "وهؤلاء الذين كتبوا : هم ولا شك الأمم المجاورة التي كانت الكتابة شيئا عاديا في حياتهم اليومية"(31).
* * *
المبحث الثاني: الإسرائيليات
أولا: تحديد المعنى والمصطلح
"الإسرائيليات جمعٌ، مفرده إسرائيلية، وهي قصة أو حادثة، تروى عن مصدر إسرائيلي والنسبة فيها إلى إسرائيل، وهو يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم أبو الأسباط الإثني عشر، وإليه ينسب اليهود"(32).
والإسرائيليات كما هو واضح فيها النسبة إلى بني إسرائيل "والنسبة في مثل هذا تكون لِعَجُزِ المركب الإضافي لا لصدره، وإسرائيل هو: يعقوب عليه السلام، وبنو إسرائيل هم أبناء يعقوب، ومن تناسلوا منهم فيما بعد، إلى عهد موسى ومن جاء من بعده من الأنبياء حتى عهد عيسى عليه السلام، وحتى عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد عُرفوا "باليهود" من قديم الزمان، أما من آمنوا بعيسى، فقد أصبحوا يطلق عليهم اسم "النصارى"، وأما من آمن بخاتم الأنبياء، فقد أصبح في عداد المسلمين، ويعرفون بمسلمي أهل الكتاب"(33).
فالإسرائيليات مجموعة من الأخبار المنقولة عن اليهود والنصارى، وسميت بالإسرائيليات على سبيل التغليب، وباعتبار الشهرة والكثرة في النقل عن اليهود، فهي تعني "تلك الأساطير والأحاديث المنقولة عن مصادر يهودية على كثرة، ونصرانية على قلة"(34)، وقد توسع علماء التفسير والحديث في مفهوم الإسرائيليات وشمل دسائس أعداء الإسلام، وهذا لا يهمنا في هذا المقام.
وهكذا فالإسرائيليات مستمدة من المصادر اليهودية (التوراة، التلمود...) ومن المصادر النصرانية (الإنجيل)، وتسمى التوراة وما اشتملت عليه من الأسفار الموسوية وغيرها بالعهد القديم"(35)، ومن المصادر السابقة أي "أن التوراة وشروحها، والأسفار وما اشتملت عليه، والتلمود وشروحه، والأساطير والخرافات. كانت معارف اليهود وثقافتهم، وهذه كلها كانت المنابع الأصلية للإسرائيليات التي زخرت بها بعض كتب التفسير، والتاريخ والقصص والمواعظ"(36).
انطلاقا مما سبق حول "الإسرائيلية" نخرج بالملاحظات الآتية:
- هي قصة أو حادثة، تُروى عن مصدر إسرائيلي.
- هي مجموعة من الأخبار المنقولة عن اليهود والنصارى.
- نعت الإسرائيليات بالأساطير في كثير من التعاريف التي تطرقت لمفهومها ، وهي إشارة مهمة تُسند العمل والتوجه الذي ارتكزت عليه دراستي.
- هي كل ما دخل التراث الإسلامي خاصة في مجال التفسير من روايات والتي لها أصل في ثقافة اليهود والنصارى.
- هيمنة القرآن الكريم، وإتيانه بالأخبار، التي تكاد تكون متشابهة لما في الكتب السماوية حيث "اشتمل القرآن الكريم على كثير مما جاء في التوراة والإنجيل، ولاسيما ما يتعلق بقصص الأنبياء وأخبار الأمم"(37).
- إن القرآن الكريم لم ترد فيه تفاصيل، وكان الناس يتشوقون إلى معرفة التفاصيل فأخذوها من أهل الكتاب "ولكن القصص القرآني يُجْمِل القول في مواطن العبرة والعظة دون ذكر للتفاصيل الجزئية كتاريخ الوقائع وأسماء البلدان، أما التوراة فإنها تتعرض مع شروحها للتفاصيل والجزئيات وكذلك الإنجيل"(38).
- أغلب الإسرائيليات هي قصص "وللقصة جاذبية خاصة، يميل المرء بفطرته إلى سماعها، ويستمتع بالعيش في ظلالها وروايتها، وتعلو قيمة القصة عندما تكون متصلة بنبي من أنبياء الله"(39).
- للإِسرائيليات في بعض الأحيان تأصيل عن طريق السند، ولا تعني صحة السند صحة الرواية كما هو معروف عند أهل الحديث.
ومن مميزاتها أيضا اشتمالها على العجيب والغريب، وطرقها لمواضيع عديدة، لكن الأهم عندنا هو ما تَشْتَرِكُ فيه مع مفهوم الأسطورة من مواضيع أساسية تخُصُّ ما يتعلق بعمر الدنيا، وخلق الشمس والقمر وبعض الظواهر الكونية، والرعد والبرق..، وقصص الأنبياء والأمم السابقة.
* * *
المبحث الثالث: الأسطورة والإسرائيليات، أية علاقة
في بداية هذا المبحث أذكر بتعريفات كل منهما، تكون منطلقا للحديث عن أهم مميزات كل مفهوم وخصائصه، وعلى نقط الالتقاء بينهما.
أولا: الأسطورة:
- "تروي تاريخا مقدسا، وتسرد حدثا وقع في عصور مُمْعِنَة في القدم، عصور تستوعب بداية الخليقة"(40).
- "تحكى بوساطة أعمال كائنات خارقة، أو كل الواقع مثل الكون أو العالم"(41).
- "الأسطورة تعبر عن الحقيقة المطلقة، لأنها تحكي حكاية قدسية، وقعت في فجر زمن البدايات المقدس، حسب مرسيا إلياد"(42).
- "الأسطورة حكاية حقيقية مقدسة، وقعت في بداية الزمن، وتصلح كنموذج للتصرفات الإنسانية، حيث إن مهمة الإنسان تكمن في إعادة القيام بالتصرف النموذجي الذي قام به الأبطال الأسطوريون، وأبطال الأسطورة ليسوا بالضرورة آلهة. وهذه الشخصيات الأسطورية هي التي علمت الناس ممارساتهم الشعائرية، وبذلك فالأسطورة تشرح وتعلل بعض مظاهر الطبيعة"(43).
ثانيا: الإسرائيليات:
- قصة أو حادثة تُروى عن مصدر إسرائيلي.
- مجموعة من الأخبار منقولة عن اليهود والنصارى.
- ما دخل التراث الإسلامي وبخاصة في مجال التفسير من روايات لها أصل في ثقافة اليهود والنصارى.
- أخبار وروايات في أسباب المكونات، وبدء الخليقة، وأسرار الوجود، منقولة عن أهل الكتاب، وموجودة في كتبهم (التوراة، الإنجيل...).
- "روايات مأخوذة عن اليهود والنصارى في أخبار أممهم السابقة وقصص أنبيائهم كقصة آدم عليه السلام ونزوله إلى الأرض، وقصة موسى عليه السلام مع قومه اليهود. كل ذلك ورد في القرآن الكريم موجزا. دون التعرض لتفاصيل القصص، وقد وجد المسلمون تفصيل هذا الإيجاز عند أهل الديانات السابقة، بما لا يتعارض وشريعتهم، فلجأوا إليهم، واقتبسوا منهم"(44).
* * *
بعد هذه التوطئة، يمكن القول: إن المصطلحين "إسرائيلية" و"أسطورة" يلتقيان في مميزات وخصائص منها:
الإسرائيلية
+ قصة أو حادثة مروية.
+ حكايات مكتوبة.
+ وجودها في تفسير القرآن أعطاها نوعا من القدسية “حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج".
+ من موضوعاتها: خلق السماوات والأرض والجبال والبحار والأنهار وغيرها من المخلوقات الأرضية والسماوية. تكثر الإسرائيليات في المواضع التي نجد فيها قصص الأنبياء والرسل.
+ عنصر الحقيقة ( بعض الإسرائيليات قد يصح السند إليها).
+ ما نقل عن بني إسرائيل في زمن معين، وهو زمن قديم.
+ تتحدث عن (عمر الدنيا، بدء الخلق، أسباب الوجود والكائنات، تعليل بعض الظواهر الكونية).
الأسطورة
+ قصص مروية (مستوى القراءة سردي).
+ حكايات (شفوية ومكتوبة).
+ طابع قدسي ( قوة الاعتقاد الملزم وارتباطها بالشعائر الدينية).
+ من موضوعاتها: عملية خلق الكون والوجود وحياة الإنسان (تفسر الكون وظواهر الوجود وتربط الإنسان بها)، أصل الماء والهواء.
+ حكاية حقيقية، هناك من يرى "تعبر عن الحقيقة المطلقة"، مرسيا إلياد، وهناك من يرى "الأسطورة تمتلك ولو جزءا من الحقيقة" د يونس لوليدي.
+ ارتباط الأسطورة بالزمن (وقعت في الزمن الأول).
* * *
أخلص إلى أنه يوجد في العديد من كتب التفسير، حكايات بالخصائص السابقة، وهي ما يعرف بالإسرائيليات وأنا أسميها أساطير، إيمانا بالمفهوم الأنتروبولوجي، الذي قَدَّمْتُهُ سابقا للأسطورة، ولا أقول إن الأسطورة والإسرائيلة مترادفتان مئة بالمائة، ولكن يلتقيان في الخصائص السابقة، وعلى هذا الأساس، سأتحدث عن أساطير وإسرائيليات في كتب التفسير عامة وتفسير الخازن بشكل خاص، مع تقديم نماذج لإسرائيليات أوردها الخازن في تفسيره حول "خلق آدم عليه السلام" وهي تستجيب تماماً للمفهوم الأنتروبولوجي للأسطورة الذي هو حكاية خلق مقدسة وقعت في الزمن الأول.
(باحث في الدراسات الإسلامية والعربية)
* * *
الهوامش
(1) ابن منظور، جمال الدين بن محمد بن مكرم ابن منظور، لسان العرب، م4، دار الفكر، دار صادر، بدون ط، بدون تاريخ، بيروت، ص 323.
(2) الإمام مجد الدين أبي الفيض ، محمد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي الحنفي، شرح القاموس المسمى بتاج العروس من جواهر القاموس، م3، دار الرشاد الحديثة، دار الفكر، بدون ط، بدون تاريخ، ص 267.
(3) ابن فارس، أبو الحسن أحمد بن فارس بن زكريا اللغوي، ت 395 هـ 8، مجمل اللغة، تحقيق زهير عبد المحسن سلطان مؤسسة الرسالة مجلد 1 و2، بدون ط، بدون تاريخ، ص 460.
(4) أديب اللجمي وآخرون، معجم اللغة العربية، البشير بن سلامة وآخرون، دار المحيط، بدون ط، بدون تاريخ، ص 694.
(5) الطاهر أحمد الزاوي، ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير وأساس البلاغة، المجلد 2، دار الفكر، ط3، بدون تاريخ، بيروت ص 56.
(6) الزمخشري، جار الله أبي القاسم محمد بن عمر الزمخشري، أساس البلاغة، مكتبة لبنان، ط 1، 1996 م، بيروت، ص 205.
(7) محيي الدين، محمد الجزري ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق طاهر أحمد الرازي، محمود محمد الطناحي، المكتبة العلمية، بدون ط، بدون تاريخ، بيروت، ص 365.
(8) إبراهيم أنيس وآخرون، المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، ج1، دار المعارف، بدون ط، 1972 م، مصر ، ص 429.
(9) Le ROBERT، dictionnaire méthodique du français actuel،readacion dirigée par josette rey – debove، parmentier، 1985، paris، p 2367
(10) د يونس لوليدي، المقدس والأنواع الحكائية، مصطلحات ومفاهيم، فكر ونقد، عدد 26، ص 23.
(11) Paul foulquie، Dictionnaire de la langue philosophique. Presses universitaires، de France، 1962، paris، P: 465
(12) Paul foulquie، Dictionnaire de la langue philosophique. P: 466.
(13) نقلا عن بيرغيت زيكامب Birgit seekamp، بيروت في الأدب المعاصر من الأسطرة إلى تحطيم الأسطورة، مجلة الآداب، 1997، عدد 11/12، تشرين الثاني (نونبر)، كانون الأول (دجنبر).
(14) يونس لوليدي، الأسطورة بين الثقافة الغربية والثقافة الإسلامية، ص 2.
(15) يونس لوليدي، الأسطورة بين الثقاقة الغريبة والثقافة الإسلامية، ص 4.
(16) محمد فؤاد عبد الباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، دار الجيل، بدون ط، 1407 هـ/ 1987 م، بيروت، ص 350.
(17) الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، الدار الجماهرية ، الدار التونسية، ج 6 و7، بدون ط، بدون تاريخ، ص 182.
(18) الشوكاني، محمد علي (ت 1250 هـ)، فتح القدير الجامع بين فن الرواية والدراية من علم التفسير، مجلد 2، دار الفكر، بدون ط، 1401 هـ/1981 م، بيروت، ص 108.
(19) الخازن، علاء الدين علي بن محمد البغدادي، مختصر تفسير الخازن، المسمى لباب التأويل في معاني التنزيل، اختصره وهذبه الشيخ عبد الغني الدقر، مجلد 1، اليمامة للطباعة، بدون ط، بدون تاريخ، بيروت، ص 504.
(20) السيوطي والمحلي، جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، أحمد المحلي، تفسير الجلالين، دار القرآن الكريم، ط 1، 1427 هـ/1428 هـ، بيروت، ص 180.
(21) الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، مجلد 13–14–15، ص 133-134.
(22) الشوكاني، فتح القدير، المجلد 3، ص 156-157.
(23) الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، مجلد 8–19، ص 108.
(24) الشوكاني، فتح القدير، ج 3، ص 494.
(25) الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، مجلد 18–19، ص 324.
(26) السيوطي والمحلي، تفسير الجلالين، ص 383.
(27) الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، جامع البيان في تفسير القرآن، مجلد 11، ج27، دار الجيل، بدون ط، بدون تاريخ، بيروت، ص 14.
(28) الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن، مجلد 14، جزء 29، ص 28.
(29) المرجع نفسه، مجلد 12، جزء 30، ص 62.
(30) يونس لوليدي، الأسطورة بين الثقافة الغربية والثقافة الإسلامية، ص 59.
(31) نفسه ، ص 60.
(32) الذهبي، محمد حسين، الإسرائيليات في التفسير والحديث، مكتبة وهبة، ط4، 1411 هـ/ 1990 م، القاهرة، ص 13.
(33) أبو شهبة، محمد بن محمد، الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، مكتبة السنة، ط 4، 1408 هـ، ص 12.
(34) أمال محمد بن عبد الرحمن ربيع، الإسرائليات في تفسير الطبري، دراسة في اللغة والمصادر العبرية، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، بدون ط، 1422 هـ/2001 م، القاهرة، ص 25.
(35) أبو شهبة، الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، ص 13.
(36) المرجع نفسه، ص 13.
(37) مناع القطان، مباحث في علوم القرآن، مؤسسة الرسالة، ط22، 1408 هـ /1987 م، ص 354.
(38) المرجع نفسه، ص 354.
(39) الصباغ، محمد لطفي، بحوث في أصول التفسير، المكتب الإسلامي، ط1، 1408هـ/1988 م، بيروت، ص 147.
(40) فاروق خورشيد، أديب الأسطورة عند العرب، عالم المعرفة، عدد 284، ص 49.
(41) المرجع نفسه، ص 49.
(42) لوليدي، الأسطورة بين الثقافة الغربية والثقافة الإسلامية، ص 22.
(43) لوليدي، المقدس والأنواع الحكائية، مجلة فكر ونقد، عدد 26، ص 25.
(44) ابن كثير، إسماعيل ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج1، ص 18 م.