في مقابلة متلفزة قال رب أسرة يوناني: «لا إضاءة في المنزل.. لا أستطيع دفع ثمن الكهرباء».
أيام حكم العسكر، توافرت الكهرباء، كانت الأضواء تطفأ اختياراً من شحّ الأمان، لكن ذلك ولى وجاءت حكومات مدنية صادق على إدارتها للبلاد برلمان منتخب في لعبة ديمقراطية.
ما حصل، هو أن اليونان افتُرست على البارد. حضرت الوجبة في مجمع المطابخ الذي افترس ليبيا وقدمها وكأنها لوحة سوريالية لوليمة مصاصي الدماء. في اليونان تولى الأمر أصحاب ياقات بيضاء من البنك الأوروبي، وعلى طاولة ذات مفرش أنيق رتبت الأطباق والكؤوس والسكاكين والفوط كما في المطاعم الفخمة. جلست ميركل ثم هولاند، وفي إناء فضي قدم الطهاة اليونان.
مدت ميركل يدها وتناولت تمثالاً لسوفكليس الذي كتب مسرحية عن حامل قوس هرقل الذي لسعته أفعى في جزيرة توقف أسطول الاغريق ليتموّن منها في طريقه إلى طروادة. عاد لسفينته وأبحر الأسطول من جديد، لكن جرحه تقيّح ناشراً رائحة قبيحة زكمت أنوف كل من في السفن، فاحتالوا عليه وتركوه في جزيرة معزولة وتابعوا.
لماذا لم يخطر لميركل أن تقول للألماني استرح؟ أن تنقذه من إدمان العمل؟
لاحقاً وبعد سنوات من حصارهم لطروادة تذكروا قولاً لعرافة أن لا نصر لهم من دون حامل قوس هرقل.. وليس من دون قوس هرقل وحده. فذهبوا وأحضروه. رسخ سوفوكليس في التراث اليوناني أنه لا يجوز للجماعة أن تتخلى عن فرد منها، ربما منه اقتبس اليكسندر دوماس، مؤلف «الفرسان الثلاثة» مقولته الرائعة المؤسسة للديمقراطية الأوروبية: «الواحد من أجل الجميع والجميع من أجل الواحد». ما قامت به حكومتا ميركل وهولاند، كان تكليف البنك الأوروبي الذي تهيمنان عليه بتدمير ذلك الإرث، بمساعدة الليبراليين الجدد اليونانيين. تم الأمر وتخلت الحكومة اليونانية عن مسؤوليتها تجاه المواطن البسيط، فبات عاجزاً عن دفع ثمن الكهرباء لإنارة منزله. خسرت الانتخابات وجاءت حكومة اليسار التي رفضت إملاءات البنك الأوروبي وتمسكت بمواطنها البسيط.
تناول هولاند تمثالاً لأمبيدوكليس الذي كرس فضيلة المحبة التي توحد المجتمع والطبيعة، وسفه الكراهية التي تفكك المجتمع والطبيعة: «.. الماء والتراب والهواء والنار كانوا مجتمعين في واحد وتفرقوا بفعل الكراهية، وسيجتمعون ثانية في واحد بفعل المحبة». وضع كل ما اختار في طبقه وبضربة سكين متزامنة قطع رأسي التمثالين، فبات لتمثال المعري صحبة. يشي تصرف هولاند بأنه لم يستسغ يوماً النهاية التي اختارها فيكتور هوغو «لجافيير» في «البؤساء»، والتي كرست أنه لا قيمة موجبة للقانون وبالتالي لدور السلطة، إذا لم يرفع القبعة للمحبة والتعاطف.
ويشي سلوك ميركل بأنها مستاءة من «غوته»، لأنه جعل من باع نفسه للشيطان مقابل السلطة والثروة يرى خلاصة لتجربته مفادها أن أفضل ما عرض له في حياته كان حبه لتلك الفتاة البسيطة... جارته، وأنه تخلى عن ذلك الأفضل.
كلاهما شغف بفرض نموذجه على الآخرين، وهل فقه التكفيرية غير فرض النموذج قسراً وبالإكراه. ثمة قسر على الساخن وآخر على البارد. مثل وباء زحف قسر داعش والنصرة على سكان ليبيا وسوريا و.. وكَوَباء زحف قسر البنك المركزي الأوروبي مكتسحاً مدن وقرى اليونان، ومهدداً اسبانيا. على العامل اليوناني أن يحمل وثيقة إقامة في الاتحاد الأوروبي، تتطلب حياته أن يصبح نسخة عن العامل الألماني. لكن الأخير يشرب البيرة ويزأر وهو جالس على كرسيه، واليوناني يشرب العرق.. يرقص ويغني ويغازل. اليوناني متوسطي يحب الاسترخاء وأكل الزيتون على الفطور، الألماني ماكينة عمل ويحب تناول اللحم على الفطور.
لماذا لم يخطر لميركل أن تقول للألماني استرح؟ أن تنقذه من إدمان العمل؟ لماذا لا لم يخطر لهولاند أن يقول للفرنسيين: سنخفض سن التقاعد لتستمتعوا ولو قليلاً في خريف عمركم.. فلنخرج جميعاً من هذا الباستيل الذي نقبع فيه؟ لماذا لم يخطر لهما أن شعبيهما سيضطران لتحطيم ساعتيهما الاقتصادية إن هما أصرا عليها كحاكمة لشرط الحياة؟ ضاق الأفق على اليونانيين أيام العسكر وهاجرت الكفاءات. وضاق أكثر على يد هولاند وميركل والليبرالية المتوحشة اليونانية التي رغبت بحشرهم في باستيل يوناني. تذكر اليونانيون قول تيودراكس للمهاجرين أيام العسكر: «إلى أين تهرب.. حارات اليونان القديمة ستلحق بك إلى آخر المعمورة». وجاء الرد، نهض زوربا وبسط ذراعيه كطائر نورس متيم بجزر اليونان كما الأطفال بحكايات الجدة. رقص كموج تلك الجزر وضخ المحبة في عروق اليونانيين التي جففها البنك المركزي الأوروبي. أنشد لتيودوراكس شاعر اليونان الذي واجه ديكتاتورية العسكر: «الحرية هي عندما يعني الطرق على باب المنزل أن القادم صديق». وأضاف، اليونان هي عندما يتشبث اليونانيون بسوفوكليس وأمبيدوكليس.
(كاتب سوري)