صادق جلال العظم: فيلسوف ومفكِّر سوريّ ولد في دمشق عام 1934. تخرّج بدرجة امتياز من قسم الفلسفة في الجامعة الأمريكية ببيروت عام 1957 ليحصل بعدها على الدكتوراه من جامعة "ييل" في الولايات المتحدة الأمريكيّة باختصاص الفلسفة المعاصرة حيث قدّم أطروحته حول الفيلسوف الفرنسي "هنري ببرغسون". شغل عدّة مناصب، من أهمها أستاذ للفلسفة والفكر العربي الحديث والمعاصر في جامعة نيويورك والجامعة الأمريكية في بيروت التي سيُفصل منها لاحقاً بعد الضجة الكبيرة التي أثارها صدور كتابه نقد الفكر الديني ثم ليغادر بيروت التي سُجن فيها لمدة بسيطة على خلفية هذا الكتاب للتدريس في الجامعة الأردنيّة قبل أن يعود إلى دمشق ليعمل أستاذاً في جامعتها.
ترأّس صادق جلال العظم تحرير مجلة الدراسات العربية الصادرة في بيروت ثم شغل منصب رئيس قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية في كلية الآداب بدمشق بين عامي"1993-1998". بعد تقاعده تنقل العظم بين جامعات عدّة في العالم حيث عمل أستاذاً في جامعتي برنستون وهارفارد في أميركا، وفي جامعات هامبورغ وهومبولت وأولدنبورغ في ألمانيا، وفي جامعة توهوكو في اليابان وفي جامعة أنتويرب في بلجيكا، وهو عضو في أكاديمية العلوم والآداب الأوروبية ومن أهم المدافعين عن حقوق الإنسان في العالم العربي. حاز العظم على عدّة جوائز دوليّة مثل جائزة ليوبولد لوكاش للتفوق العلمي سنة 2004 والتي تمنحها جامعة توبينغن في ألمانيا وجائزة إيرازموس الشهيرة في هولندا.
في العام 1969 نشر الدكتور صادق جلال العظم كتابه الشهير "نقد الفكر الديني" الدي أثار وما يزال عاصفة كبرى من النقد المؤيد أو المعارض في العالم العربي والإسلامي. وتعرض كاتب الكتاب وناشره إلى المحاكمة والملاحقات القانونية في بيروت، بحجة إثارة النعرات الطائفية والمذهبية والعنصرية، أو الحض على النزاع بين مختلف طوائف الأمة أو تحقير الأديان، بالرغم من أن الكتاب كما جاء في حيثيات الحكم الصادر بحق العظم يضم مقالات ما هي إلا "أبحاث علمية فلسفية تتضمن نقداً علمياً فلسفياً".
وكتابنا اليوم هو حالةٌ قل نظيرها في المنتج الثقافي العربي، فنادراً ما قام الفكر العربي الحديث بالتصدي الصريح للبنى الفكرية، وللإيديولوجيا الغيبية السائدة في مجتمعاتنا، لأن اقتحام هذا المجال يمس أكثر المناطق حساسيةً في العالم العربي "المسألة الدينية"، وهو تعبيرٌ صارخ عن مرحلة عاشها الفكر العربي بعد هزيمة العرب في حرب العام 1967 وقد تجلت هذه النكسة بشكل واضح في نقد الذات، إن لم نقل في جلد الذات، وسواء اتفقنا مع العظم أو اختلفنا معه، فهو أراد البحث بشكل علمي وفلسفي عن الأسس التي ترتكز عليها هذه الذات وخصوصا في بعدها الديني، ومحاكمة هذه الأسس على أساس أن هذا العمل لابد منه من أجل تأسيس ذات علمية، إلا أنه بالرغم من حرصه على المنهج العلمي إلا أنه لم يستطع أن يتجرد من ذاكرته العربية الإسلامية، فمقاربته لموضوع "إبليس " في الفصل الثاني من الكتاب، هي رجع الصدى لما تناقلته الكثير من المدارس الصوفية الإسلامية والديانات الشرقية القديمة.
يطلق العظم مصطلح الصورة الكونية لعصر ما، للدلالة على جملة آراء ونظريات على درجة واسعة جداً من التعميم والشمول والشيوع يسلم بها العصر تسليماً بديهياً لا شعورياً، حول أصل الإنسان ومصيره وحول الطبيعة والمعرفة والمجتمع والأخلاق والعمل والإنتاج، وبطبيعة الحال ترتبط محتويات الصورة الكونية لعصر ما، بحياة الإنسان في المجتمع وتعكس لحد كبير نوعية العلاقات الاجتماعية القائمة فيه وترتبط ارتباطاً جدلياً بنوعية العلوم السائدة في ذلك العصر، وهدف هذا البحث هو دراسة الصورة الكونية التي صاغها الإنسان الحديث منذ بداية القرن السابع عشر. فقد أدت الثورة العلمية إلى بروز صورة كونية جديدة تبلورت وتكاملت عناصرها على يد نيوتن، حيث اقتلعت المادية الساكنة (المادية الميكانيكية) من حيث المبدأ والأساس، الصورة الكونية الدينية السابقة عليها.
في الفصل الأول يحدد العظم ما يقصده بالدين، فهو لا ينظر إليه بوصفه ظاهرة روحية نقية خالصة وإنما من حيث هو "قوة هائلة تدخل في صميم حياتنا وتؤثر في جوهر بنياننا الفكري والنفسي وتحدد طرق تفكيرنا"، فالدين هو "مجموعة من المعتقدات والتشريعات والشعائر والطقوس والمؤسسات التي تحيط بحياة الإنسان". هذا ويرى العظم أن الظاهرة الدينية في حوض المتوسط هي في انحسار دائم، ويحاول أن يحدد أسباب هذا التراجع في النقاط التالية:
"حركة النهضة الأوربية، الانقلاب العلمي ابتداءً من "كوبرنيكوس وانتهاءً بنيوتن"، الثورة الصناعية، صدور كتاب أصل الأنواع لداروين وكتاب رأس المال لماركس، امتداد هذه الحركات الأربعة إلى خارج القارة الأوربية"
يرى العظم أن الموقف الديني القديم في طريقه إلى الانهيار التام لأن هناك تعارض أساسي وجوهري بين الدين والعلم وهناك نزاع واضح بينهما وما "محاولة طمس معالم النزاع بين الدين والعلم ليس إلا محاولة يائسة للدفاع عن الدين، يلجأ إليها كلما اضطر الدين أن يتنازل عن موقع من مواقعه التقليدية".
ثم ينتقل صادق جلال العظم إلى معالجة موضوعه الثاني في كتابة وهو دراسة مأساة إبليس كما يسميها. طبعاً هذه الدراسة لا تدل بأي حال من الأحوال بأن صادق جلال العظم يؤمن بوجود إبليس أو الملائكة أو كل المقولات الدينية إذ يقول: "إن كلامي عن الله وإبليس والجن والملائكة والملأ الأعلى لا يلزمني على الإطلاق بالقول بأن هذه الأسماء تشير إلى مسميات حقيقية موجودة ولكنها غير مرئية". إلا أنه يدرس قصة إبليس بوصفها رمزاً يمكن وضعها في إطار الأسطورة.
بعد أن يعرض العظم عصيان الشيطان للأمر الإلهي ورفضه أن يسجد لآدم، فإنه يعمد إلى التمييز بين أمرين وهما الأمر الإلهي والمشيئة الإلهية، وبرأيه أن إبليس رفض الأمر الإلهي ولكنه خضع بشكل مطلق للمشيئة الإلهية. فهو يرى أن إبليس كان منسجماً مع الإرادة الإلهية وإبليس كان مصراً على التوحيد في أصفى معانيه وأنقى تجلياته. ويقدم إبليس تبريراً منطقياً إذ يقول: "أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين".
وفي النهاية يؤكد العظم أن إبليس هو صنيعة الذات الإلهية. وفي سبيل ذلك ينقل إلينا ما قاله إبليس على لسان الإمام المقدسي: "خلقني كما شاء، وأوجدني كما شاء، واستعملني فيما شاء، وقدر عليّ ما شاء فلم أطق أن أشاء إلا ما شاء، فما تجاوزت ما شاء، ولا فعلت غير ما شاء، ولو شاء لردني إلى ما شاء، وهداني بما شاء ولكنه شاء فكنت كما شاء .. فمن يكون على القضاء عوني، ومن يطق من القدر صوني. ولكن كل ما يرضيه مني، رضيت به على رأسي وعيني، يا هذا ما حيلة من ناصيته في قبضة القهر، وقلبه بيد القدر، وأمره راجع إلى حكم القدم، وقد قضي الأمر وجف القلم". لذلك واستناداً إلى ما تقدم، يجب علينا إحداث تغير جوهري في تصورنا لشخصيته ومكانته وأن نرد له اعتباره بصفته ملاكا". وأخيراً يجب أن نكف عن كيل السباب والشتائم له وأن نعفو عنه ونطلب له الصفح ونوصي الناس به خيراً بعد اعتبرناه، زوراً وبهتاناً، مسؤولاً عن جميع القبائح والنقائص".
وأخيراً تجدر الإشارة إلى أن ما يؤخذ على العظم أنه ربط الظاهرة الدينية بمقولاتٍ فلسفية وحتى اعتراضه عليها جاء من منطق فلسفي مع أن الظاهرة الدينية هي ظاهرة معقدة لتعدد جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.