لاشك في أن أبرز نجاحات «جائزة البوكر العربية» بعد ثمانية أعوام من انطلاقها هي أنها تلفت أنظار الواقع الثقافي لعدد من الروايات الأولى الجديرة بالقراءة، والتي ما كان لها أن تستقطب اهتمامه الواسع دونها. كما أنها تتيح لتلك الروايات الأولى رواجا خارج البلدان التي صدرت عنها في واقع عربي تتقطع السبل بين أقطاره، وتزداد بينها الأسوار بصورة تعوق حركة المنتج الثقافي وانتشاره وحرية تداوله. والواقع أن ترويج الرواية الجادة تجاريا، وتوسيع رقعة قرائها كان الدافع الأساسي وراء إنشاء جائزة البوكر الانجليزية الأم عام 1968 وأهم أسباب استمرارها. حيث كانت أساسا مجرد مبادرة قام بها ناشرو الرواية الانجليزية للترويج لرواياتهم؛ وقد لاحظوا كساد الرواية الجادة النسبي، وانصراف القارئ الذكي عنها، بعدما استأثرت الرواية البوليسية، ورواية التجسس، والرواية العاطفية أو بالأحرى «العواطفية Sentimental» السهلة بالقراء.
لكن جائزة البوكر الانجليزية، كأي مبادرة غربية ناجحة في عالم تلعب فيه عمليات التسويق أدوارا متنامية، تحولت إلى مؤسسة تجارية قائمة بذاتها. وأصبحت لها مستنسخاتها في أكثر من مكان: بدءا من روسيا عام 1992 التي استنسختها بالشراكة مع إدارة الجائزة الأم، ثم «جائزة الكتاب الألمانية Deutscher Buchpreis» التي أُسِّست على غرارها للرواية المكتوبة بالألمانية، ولكن في استقلال كامل عنها؛ ثم بوكر الآسيوية عام 2007 وهي أيضا مستنسخة عن الجائزة الأصلية، وبشراكة مع مؤسستها الأم، وصولا إلى آخر استنساخاتها، وهي جائزة بوكر العربية عام 2007 التي تأسست بالشراكة مع المؤسستين الاستشراقية الانجليزية من ناحية، ومؤسسة البوكر الأم من ناحية أخرى.
ومع أنني نبهت عند انطلاق نسخة الجائزة العربية إلى سلبيات استنساخ الجائزة الأم؛ وفضحت ما تنطوي عليه عملية الاستنساخ تلك من مزاعم عارية من الصحة، أتاحت لكثيرين من الأدعياء ومرتزقة الحياة الثقافية القفز على مركبتها. ولفتّ الأنظار إلى توجهات استشراقية ممجوجة لدى ممثلي المؤسسة الأم فيها، تضمر الكثير مما فضحه إدوار سعيد في كتابه العلامة (الاستشراق) من تصورات استشراقية مقيتة في الخطاب الغربي الذي دأب على شرقنة الشرق بغية إخضاعه والهيمنة عليه وتكريس دونيته. وقد نبه غيري بعد ذلك إلى سلبيات أخرى تتعلق باختيارات لجان تحكيمها، وبالإصرار على أن تضم اللجنة مستشرق في كل دورة، لا يستطيع أغلبهم قراءة العدد المطلوب من الروايات في الوقت المطلوب؛ مهما كانت درجة تمكنهم من العربية. ناهيك عن كتابة الكثيرين عن دخول اعتبارات غير أدبية، كالمحاصصات الجغرافية وغيرها في تلك الاختيارات. أقول أنه بالرغم من هذا كله، فلاشك في أن استثمار مئات الآلاف، وربما الملايين، من الدولارات فيها على مر السنوات الثماني الماضية قد أتى بعض أكله؛ وأنها ساهمت إلى حد لا بأس به في رواج الرواية العربية الجادة بشكل عام، وفي توسيع رقعة قرائها، والتعريف على نطاق واسع بعدد من القادمين الجدد إلى ساحتها.
فلولا الجائزة لتأخرت بلا شك معرفتي بتلك الرواية التي فازت بها هذا العام، وهي رواية شكري المبخوت البديعة (الطلياني).(1) بالرغم من حصولها على جائزتين تونسيتين أبرزهما جائزة الكومار الذهبي للرواية التونسية، وجائزة معرض الكتاب التونسي. ولأصابها ما أصاب روايات تونسية كثيرة من غبن من القارئ العربي العام مثل روايات مهمة لصلاح الدين بوجاه، ومحمد علي اليوسفي، وعلياء التابعي، وحسن نصر، ومصطفى الكيلاني، والمنصف الوهايبي، وكمال الرياحي، وأبوبكر العيادي، ومحمد دمّق، وحليمة الخميري الباجي، وعبدالجبار العش وغيرهم. ولولا قائمة جائزة البوكر القصيرة لضمت القائمة أيضا روايات الحبيب السالمي وحسين الواد التي أنصفها جزئيا وجودها في القوائم القصيرة منها أو الطويلة.(2) إذن ثمة فضل غير منكور للجائزة في لفت انتباه جمهور القراء الواسع لروايات أولى خاصة، ما كان لها أن تستقطب هذا الاهتمام لولا وجودها في قائمة الجائزة القصيرة أو الطويلة، ناهيك عن فوزها بها كما هو الحال مع شكري المبخوت، أي المحظوظ بحق، حيث فازت روايته الأولى بالجائزة، وعن جدارة. بالرغم من وجود روايات أخرى كانت جديرة بالفوز مثل (ابنة سوسلوف) لحبيب عبدالرب سروري التي أعتبرها حتى الآن أهم الروايات التي صدرت عن الربيع العربي وأعمقها، مع أنها لم تتجاوز حدود القائمة الطويلة.
ورواية شكري المبخوت (الطلياني) رواية جميلة بلا شك من حيث غواية الموضوع المشغول بأحد أهم فترات التحول في المجتمع التونسي الحديث، بعدما شاخ نظام بورقيبة، وانقض عليه بن علي في أواخر ثمانينات القرن الماضي؛ وهو انشغال يحيل تلك الفترة الانتقالية بطريقة مواربة وذكية إلى مرآة لواقع انتقالي رجراج تعيشه تونس الآن بعد ثورة الياسمين، أو ثورة 14 يناير عام 2011. وهي رواية كاشفة من حيث تصويرها لأوجاع جيل كامل عانى من القهر الداخلي والعطب الاجتماعي المستشري في كل مفاصل الواقع، وهو جيل شكري المبخوت نفسه، الذي رفض الواقع بكل أعصابه، لكنه لم ينجح في الثورة على كل ما دار فيه. بينما كشف الجيل التالي له، جيل الربيع العربي، مدى هشاشة النظم التي قهرته حينما بدل الخوف مواقعه، وهرب بن علي. وكأن المبخوت يدرأ عن جيله بهذه الرواية الجميلة أي اتهام بالتقصير.
محتوى الشكل وشرش ديلوز:
لكن أكثر عوامل غواية هذا النص الروائي الجميل، برغم ثراء عالمه وكثافة شخصياته، هي طلاوة السرد الذي يستأثر بانتباه القارئ لسيولة تنقلاته الزمنية وعفويتها المراوغة، ووعيه بأهمية تعدد الخطابات، أو ما يدعوه باختين بالبولوفونية، أي تعدد اللغات بالمعنى الفكري والأيديولوجي للغة مع تعدد شخصيات الرواية، وتبدل منظور السرد فيها. وهو ما رصع اللغة بالكثير من مفردات الشخصيات وقواميسها الخاصة التي تستعصي في بعض الأحيان على القارئ الذي لا يعرف مفردات الدارجة التونسية. وهي كلها من الأدوات الفنية التي تكسب شكل هذه الرواية وبنيتها السردية محتوى ثريا. لأنني من الذين يهتمون في التناول النقدي للنصوص السردية بمحتوى الشكل الروائي، ويعولون عليه في كشف الكثير من مضمرات النص الفاعلة فيه. وأحب هنا أن أربط بينه وبين أحد المفاهيم المهمة التي بلورها جيل ديلوز، الذي قال عنه ميشيل فوكو إننا نعيش في عصر جيل ديلوز. فقد سعى إلى تحرير الفلسفة من بيروقراطية «العقل الخالص» في إشارة واضحة لكانت؛ أو بيروقراطية «العقل التحليلي» في إشارة إلى سياقات فكرية أخرى.
هذا المفهوم الذي أريد أن أقدمه للقارئ قبل الكشف عن علاقة الرواية بنية وموقفا به، هو مفهوم Rhizome الذي طوره ديلوز مع زميله فيليكس جوتاري في الجزء الثاني من سفرهما الضخم (الرأسمالية والشيزوفرينيا) والمعنون بـ(ألف هضبة)(3) والذي أحب ترجمته بالشرش. لأن الأصل اليوناني الذي اُستقى منه المفهوم يعني حزم أو شبكات من الجذور. ولكنها نوع خاص من الجذور التي تعتبر في علم النبات سيقان في جوف التربة، ترسل بين الفينة والأخرى انبثاقاتها النباتية، كما هو الحال مثلا في نباتات مثل النعناع، أو البطاطس. وإن كان النموذج الذي يلح كل من ديلوز وجوتاري على الإشارة إليه في أعمالهما أكثر من مرة هو عائلة نباتات «الأوركيد» المنتشرة بكثرة في المناطق الحارة، وخاصة في جنوب شرق آسيا. حيث تتخلق في مزارعه/ أحراشه الطبيعية الخلابة، عمليات اعتماد خلّاق متبادل بين النبات ومجموعة من الحشرات أهمها الزنابير.(4) لذلك فإن الترجمة، التي اقترحها هنا، كالمفهوم نفسه مستقاة من الثقافة الزراعية، في مصر خاصة، تصف تمدد أشراش أو جذور النباتات الزاحفة في أكثر من مكان، لأن الشرش غير الجذر بمعناه التقليدي لا يعد مصدر حياة النبات الوحيد أو الأساسي، كما في غيره من النباتات. وإنما واحد من عشرات المصادر/ الأشراس. حيث لا يكتفي هذا النوع من النباتات بتلك الشبكة المعقدة من سيقانه المطمورة في الأرض، ولكن ما أن تزحف بعض أفرعه على الأرض حتى ترسل أشراشا جديدة فيها؛ أو جذورا تضرب في التربة، بحيث إذا ما قطعت النبات في أي مكان، فإن القسم الأول منه يظل يتمدد وحده، بينما يضرب القسم الثاني بجذوره في التربة ويواصل النمو هو الآخر.
وقد استقى ديلوز وجوتاري مصطلح Rhizome من المفردات الزراعية التي تصف تعدد الجذور/ المصادر، في مواجهة مصطلح زراعي آخر هو Arborescent يصف النبات الذي يمد جذرا أساسيا عميقا في الأرض ويخرج ساقا أساسية تتفرع عنها مختلف فروعه، كالنخلة مثلا أو الشجر عامة. ويعتمد هذا المصطلح النقيض على واحدية الجذر/ الأصل الذي يعتمد عليه النبات كلية، وواحدية الساق الذي تتفرع منه كل الفروع والثمار. ويمثل هذا المصطلح المناقض لمفهوم الشرش عند ديلوز المنطق السائد في الفكر والعلم على السواء، والذي يرد كل شيء إلى أصل واحد، ويسعى دوما لربط الفروع بالساق الذي انبثقت منه والجذور التي يرتوي منها في بنية تراتبية واضحة. بينما ينهض الشرش على التعدد وعدم التراتبية كمفهوم لعمل الفكر في الخطاب المعاصر. فتعدد الجذور فيه يؤدي إلى تعدد الفروع والأغصان، ليس بمفهوم الشجرة التي تضم كل فروعها في وحدة واحدة، وإنما هو التعدد الذي يعارض الوحدة والثنائيات معا. مفهوم ينهض في تعارض واضح مع مفاهيم التراتبية والازدواج وتبسيطات الثنائيات المتضادة الذي ساخت في رماله الناعمة البنيوية. فهو مفهوم عابر للأجناس والتعالقات. «فالشرش كأصل تحت الأرض يختلف اختلافا جذريا عن مفهوم الجذور والأصول .. كما أنه يتسم بتعدد التجليات من الفروع المتشابكة والأغصان التي يطلقها فوق سطح التربة، إلى الدرنات والأبصال التي ينميها في جوفها. ولذلك فإن التشريش ينطوي على أفضل ما في النبات وأسوأ ما فيه في آن؛ من الدرنات والأبصال إلى الأعشاب الضارة والطفيليات».(5)
ولا يعتمد التشريش عند ديلوز على العلاقات الرأسية أو التطور الخطي ومنطقه التعاقبي الذي اعتمد عليه الفكر الغربي منذ ديكارت وكانت؛ لأنه مفهوم يقاوم البنى النسقية التي تنفصل فيها الظواهر والأشياء عن جذورها، والتي تعتمد على السببية والتطور الخطّي والعلاقات التعاقبية؛ فأبرز سماته عنده هي اعتماده على «مبدأي الاتصال والتغاير Principals of connection and Heterogeneity حيث يمكن لأي نقطة فيه أن تتصل بأي شيء آخر به، بل يتحتم عليها ذلك. وهو أمر يختلف عن الشجرة أو الجذر اللذين يعتمدان على الوحدة والنسق الثابت. وعلى العكس من النسق الذي تنهض عليه شجرة تشومسكي اللغوية حيث يبدأ كل شيء من النقطة س ويستمر في التفرع، لا تتصل كل سمة من سمات الشرش بالضرورة بغيرها من السمات؛ لأن السلاسل الإشارية فيه Semiotic chains على اختلاف أنواعها، تتصل وتتفاعل مع أنساق متنوعة من التشفير، بيولوجية كانت أو سياسية أو اجتماعية، بصورة تتخلق معها ليس فقط أنظمة مختلفة من العلامات، وإنما حالات من الأشياء ذات المكانات المتباينة».(6) فعلمية التشريش «تهتم باستمرار بتأسيس علاقات بين السلاسل الإشارية، ونظم تنسيق علاقات القوى، والسياقات الخاصة بالفنون والعلوم والصراعات الاجتماعية .. ويجمع إلى هذا كله جدل المنظور وأنماط المحاكاة والطبيعة الإدراكية لها.»(7)
أما المبدأ الثالث الذي ينهض عليه الشرش فهو مبدأ التعدد Principle of multiplicity «حينما نتعامل مع التعدد باعتباره واقعا حسيا ملموسا في كليته، تنفصم أي علاقة بينه وبين الواحد سواء أكان هذا الواحد ذاتا أو موضوعا، واقعا طبيعيا أو روحيا، صورةً أو عالما. فالتعددية الحقة تشريشية، تفضح التعدية الزائفة التي تتجلى على شكل فروع مختلفة انبثقت عن شجرة واحدة Arborescent pseudo-multiplicities؛ لأنها لا تبحث عن وحدة تخدمها باعتبارها محور الموضوع، ولا عن ذات لتنقسم إلى مكوناتها. إذ لا تسعى تعددية الشرش للإجهاز على أي وحدة مفترضة في الموضوع، أو العودة إلى "ذات" مركزية جامعة. فليس لها ذات أو موضوع، وإنما لها جرم ومحددات وأبعاد لا يمكن لها أن تزيد في العدد دون أن تتغير طبيعة المتعدد ذاتها، وبالتالي فإن قوانين تجميعاتها تتزايد وتتغاير مع نموها».(8)
والمبدأ الرابع للتشريش هو «مبدأ القطيعة اللا إشارية Principle of asignifying rupture، أو القطيعة المقصودة لذاتها، وهي ضد القطيعة التي تنهض على تعارض مع سائد سابق، وتهدف إلى توليد فيض من الإشارات التي تبرز قطيعتها مع بنى سائدة أو مختلفة، أو تعمد إلى تدمير بنية بعينها. لأن الشرش قد يقطّع، أو يبعثر في أي حلقة فيه، ولكنه يبدأ من جديد على أحد أجزائه أو حتى في شكل جديد كلية. كما هو الحال مع مستعمرة النمل التي مهما دمرتها فإنها ستتخلق من جديد. حيث يحتوي كل شرش على خطوط تقسيمه وتنسيقه وتوزيعه على بقاع محددة Territorialise واستنباط دلالاته وخصائصه، كما ينطوي في الوقت نفسه على أسس فصم علاقته مع أي بقعة فيه Deterritorialization وتلك التي تمكنه من الهروب منها. لكن عملية الهرب منها جزء لا يتجزأ من الشرش، لأنها تربط بين أجزائه بشكل مستمر.»(9)
أما المبدأ الخامس له فهو مبدأ الخريطة Principle of cartography وهي الأمر الأكثر ملاءمة له وقدرة على الإمساك بتكوينه، ذلك «لأنه لا يتناسب مع أي بنيه ولا يناظر أي نمط مهما كان تكوينيا أو توليديا، لأنه غريب عن أي فكرة للمحور أو الأصل الجيني، فالمحور الجيني يمثل بدوره بنية عميقة ما، أو سعي للبحث عن آثار سابقة أو أسلاف .. إنه كالخريطة مختلف كلية عن أي أنساق. خريطة يمكن رسمها، وليس مسارات نسقية يمكن تعقبها. ومن أهم خصائص هذه الخريطة أن لها مداخل متعددة، كجحور الحيوانات البرية. وهي كالجحر نفسه، فهو مهرب وموئل ومخزن معا، لها أكثر من وظيفة. كما أنها مفتوحة وقابلة للاتصال بخرائط أخرى أو للانفصال عنها والتحوير المستمر لخطوطها.»(10) وهذا ما يجعل هذا المفهوم أقدر من غيره على الإمساك بتقعيدا العالم الحديث.
هذا الفهم المغاير للتشريش كمنهج للرؤية والتحليل يطرحه ديلوز مع جوتاري لرؤية الأدب والفن والفكر والواقع الاجتماعي والسياسي معا؛ لأننا تعبنا كما يقولان من الطريقة التراتبية السائدة التي تنهض على الجذور والأصول والفروع (نموذج الشجرة والغابة)، والتي سيطرت على تناول الثقافة الغربية لكل شيء من البيولوجيا إلى اللسانيات، ومن التشريح وعلم النبات إلى الفلسفة وعلم السلالات. وهو الأمر المغاير لمنهج الثقافة الشرقية التي يعتمد على الصحراء والواحة. لذلك فإنه بدلا من سرد التاريخ أو الثقافة أو تحويلهما إلى سردية خطية، فإنهما يسعيان لرسم خريطة مليئة بنقاط الاهتمام والنفوذ، لا تهتم بالأصول أو عمليات التكوين. فليس لها بداية ولا نهاية، وإنما هي دوما وسط الأشياء، وفي قلب معمعتها، ومتشابكة مع حركية عملية وجودها البيني interbeing في قلب الظواهر وبين الموجودات المختلفة ذات الطبيعة التشريشية أيضا.
لذلك فإن هذا المفهوم يفضل نمط البداوة والارتحال الدائم nomadic system المأخوذ عن ثقافة الواحة والصحراء، في النمو وإعادة الإنتاج، على نمط التراكم الراسي في التفكير الغربي. ووفق هذا المفهوم أو النسق، فإن الثقافة تنتشر كسطح كتلة من الماء التي تسري إلى الفضاءات المتاحة، أو تنحدر صوب مناطق جديدة بفعل منطق الأواني المستطرقة، أو تتسرب إلى الشقوق أو الفجوات التي تجدها في طريقها، مكتسحة في بعض الأحيان ما تجده في طريقها من حصى خلال عملية التآكل الحثيثة، ولديها دوما إمكانية تحقيق توازنها بمنطق سيولتها ذاته. مع اختلاف أساسي هو أن عملية التشريش ليست لعنصر واحد كما في استعارة تدفق كتلة من الماء، وإنما هي عملية تتسم بتعدد العناصر بالمعنى الذي أوضحناه للتعدد، وبالاختلافات النوعية Heterogeneity.
ويلخص ديلوز وجوتاري السمات الأساسية للتشريش «في أنه على العكس من الأشجار بجذوعها وجذورها، فالشرش يقيم علاقاته من أي نقطة فيه إلى أي نقطة أخرى، كما أن سماته ليست متصلة بالضرورة بخصائص من نفس الطبيعة، لأنها تُفعِّل أنساقا مختلفة من العلامات أو حتى اللاعلامات. فلا يمكن تلخيص التشريش في أي شرش واحد، ولا حتى في أي تعدد له. فهو ليس الواحد الذي يمكن أن ينقسم إلى اثنين أو ثلاثة .. إلخ، وليس في الوقت نفسه تعدد يمكن القول إنه انبثق عن واحد. لأنه لا يتكون من وحدات؛ وإنما من أبعاد أو بالأحرى من اتجاهات في حراك مستمر. لذلك فليس له بداية ولا نهاية، ولكنه دائما وسط أو وسيط تنبثق عنه أجزاء أو تنغمر فيه. إنه يتكون من تعددات خطية لها أبعادها المتغايرة، ولكن دون أن يكون لها ذات أو موضوع، يمكن أن نتعامل معه على صعيد الإضافة البسيطة أو الحذف. لذلك فإنه حينما تتغير أبعاد تعددية من هذا النوع، فإن طبيعتها تتغير بالضرورة، حيت ينتابها تحول كامل. وهو على العكس من البنية التي يمكن تحديدها بمجموعة من النقاط والأوضاع، وعلاقات ثنائية بين هذه النقاط والأوضاع، فإن الشرش يتكون من خطوط فحسب.»(11)
«الطلياني» بين تشريش ديلوز وانغلاق الدائرة:
وتوشك بنية الرواية، التي قد تبدو للوهلة الأولى وكأنها بنية دائرية تنتهي بالعودة إلى اللحظة السردية التي انطلقت منها لكشف غوامضها، أن تتفق كلية مع مفهوم ديلوز عن التشريش؛ حيث لا تعتمد البنية السردية فيها على النمو الخطيّ، ولا على التتابع المنطقي للأحداث، رغم استخدامها له في بعض الأحيان. وإنما على تجاور الشخصيات والتواريخ والأحداث في تشابكها وتجاوبها وتفاعلها مع بعضها البعض، ومع الوقائع والأحداث المختلفة. بنية تنأى عن نمط الثنائيات المتعارضة، بل توجه له نقدا شديدا في العمل نفسه. وتقاوم تقليدية البنى النسقية والتراتبات الرأسية، في ارتحالاتها بين الفضاءات والأزمنة التي تعيد عبرها انتاج الدلالات في سياقات تكرارية واضحة. وتكشف عبر سرودها المتجاورة والمتشابكة معا عن علاقات القوى المعقدة بين الشرائح والخلفيات الاجتماعية المتباينة، وسلاسل الأنظمة الإشارية المختلفة في المجتمع التونسي. فطريقة تقديمها للشخصيات في تعالقها مع غيرها من الشخصيات الأخرى هي التي تتيح لها العودة إلى ماضي كل شخصية من أجل إرهاف وعينا بدينامية تعاملها في حاضرها مع غيرها من الشخصيات. بل إن توزيعها لأمشاج تواريخ كل شخصية بين أكثر من سارد، بما في ذلك السارد العليم الذي يتحول إلى شخصية هامشية في العمل، تمتزج مرة مع شخصية «رضا» وتختلف عنه مرات كعادة الشرش، تساهم هي الأخرى في بلورة الوعي بمختلف أشراشها من ناحية، وبأن كلا منها ليست إلا النتاج الطبيعي لعلاقاتها وتواريخها واشتباكاتها مع غيرها من الشخصيات والوقائع من ناحية أخرى.
وتعتمد بنية العلاقات بين الشخصيات، إذا ما حاولنا رسم خريطة لها، فهي بنية خرائطية Cartographic بامتياز على عملية التشريش الديلوزية تلك، حيث يتصل أي فرع/ جذر/ شرش بغيره من الجذور الشروش ويتشابك معه في أي نقطة على مد مسيرة كل شخصية. فالعلاقة بين «زينة» و«نجلاء» مثلا تتخلق في نقطة ما على مد مسيرة حياة «زينة» مع «عبدالناصر» وتتعالق بها بل تتشابك أشراش الثلاثة بطريقة فريدة لها خصوصيتها في كل مرحلة من مراحل حياة «عبدالناصر» نفسه. فتتغلغل شروش «نجلاء» في حياة «زينة» مرة، وتتشابك مع مسيرة «عبدالناصر» أخرى، دون أن تفقد استقلالها برغم اختلافها الكامل عنهما، وفق مبدأ الاستقلال والتغاير معا. ونجد الأمر نفسه يتكرر مع بقية الشخصيات التي يعرفها «عبدالناصر» أو يتعامل معها على مد مسيرته التي ترصدها الرواية. فمسيرة علاقته الأساسة بـ«زينة» مثلا تقدمها الرواية أولا في تلخيص شديد: «تعرف الطلياني على زينة س. في سنواته الأخيرة بالجامعة، تزوجها في ظروف خاصة جدا ليتطلقا بعد سنتين تقريبا. كانت زينة منعرجا حاسما في حياته من نواحٍ كثيرة.» (ص49) هكذا تلخص لنا الرواية في جملتين ما يمكن أن يستغرق من رواية أخرى عشرات الصفحات في نسج بنية هذه العلاقة وتسلسلها، واستخدام منطق التشويق وتعليق التوقعات في رسمها. لأن تبع مسار تلك العلاقة الأساسية في الرواية ليس ما يهم النص، بقدر رسمه لخريطة تشابكات تلك العلاقة في مختلف مراحلها مع غيرها من الأحداث والشخصيات والعلاقات في حياة «الطلياني» وفق مبدأ الاتصال والتغاير، وتعددات الشرس الملموسة، بصورة تكشف لنا عن حقيقة العطب الذي يسري في حياة جيله كله، وعن أوجاعه الدامية.
فبالرغم من سرد الرواية لما دار في مرحلة محددة من تاريخ تونس الحديث، فإنها تطرح فهما ديلوزيا للتاريخ يعتمد على مفهوم التشريش هو الآخر، ويرفض التصور الرأسي التقليدي له. لأن الرواية لا تحيل التاريخ إلى سردية خطية، تعتمد على بنية رأسية ذات تراتبات راسخة، بل تدفع به إلى ظهار الأحداث باعتباره شبكة من العلاقات والسلاسل الإشارية الدالة على خريطة واسعة مليئة بمواقع الاهتمام والنفوذ. مواقع تتسم بقدر من السيولة، ومفتوحه على إمكانيات التغيير، ليس بشكل خطي؛ ولكن بالتقدم مرة والتراجع والنكوص مرّات. خريطة تمتد رقعتها من قلب العاصمة، وأحيائها القديمة منها والجديدة، إلى أقصى مناطق الريف الشمالي قرب الحدود الساحلية مع الجزائر، وإلى مدن الجنوب التونسي من المونستير إلى سوسة وغيرها. تنتشر في جغرافياها الثقافات التي تتجاور أكثر مما تتفاعل وفق استعارة كتلة الماء عند ديلوز. فتنسرب إلى الشقوق والمنخفظات، وتحدث تآكلاتها المختلفة فيها، وإن كانت تنحو دوما صوب انتاج سطح صلد صقيل في مظهره العام الخادع، بالرغم من هشاشته المتناهية، كسطح الماء ذاته.
والواقع أن محتوى الشكل السردي بهذا التصور الديلوزي هو ما يكسب هذه الرواية أهميتها الفنية وقدرتها على الحوار مع ما دار ويدور في الواقع العربي. فبالرغم من أنها مقسمة إلى أثني عشر قسما أو بابا، وهو رقم سحري دال «دستة» من الأقسام، فإننا بإزاء تقسيم خادع. فلسنا أمام أقسام تعتمد التتابع الزمني أو التراكمي ، أو تستهدف بناء حبكة ذات طبيعة درامية، مع أننا بإزاء رواية مترعة بالدراما بالمعنى الشكسبيري للكلمة، فنحن بإزاء «هاملت» تونسي من طراز خاص. ولكننا أمام أشراش مختلفة من حيث الحجم أو السُمك أو درجة التوغل في التربة، تربة النص وحبكته الروائية. لأنها تتفاوت من حيث عدد الصفحات، فلا يكمل أحدها ست صفحات بينما يتجاوز آخر أكثر من خمسين صفحة. ويحمل كل منها عنوانا متميزا. كما ينطوي كل قسم على عدد متباين من الفصول المرقمة، فهذه الأقسام هى الأشراش المختلفة التي يزود كل منها العمل بزاد من الرؤى والشخوص والدلالات. لأننا بإزاء فصول تحمل عناوين أقرب إلى الاستعارات أو المفاتيح الموجهة للقراءة منها إلى العناوين الوصفية أو التلخيصيّة. حيث تحمل الفصول عناوين: «الزقاق الأخير، شعاب الذكريات، المنعَرَج، رواق الوجع والألم، منحدرات، طلّاع الثنايا، مسالك موحشة، السكة المقفلة، مفترق الطرق، الدروب الملتوية، المضيق، رأس الدرب». بصورة يوشك معها عنوان الفصل الأخير «رأس الدرب» أن يردنا من جديد بطريقته الدائرية المراوغة إلى «الزقاق الأخير».
وكأننا بإزاء نبات زاحف تلتف سيقانه على بعضها البعض، ويزوّد كل شرش النبات كله بما يمتصه من التربة من عصارات وتواريخ. يتوق إلى أن يمد فروعه في الفضاء عاليا متطلعا إلى أفق أرحب، وإلى تحريرها من الزحف المستمر على الأرض دون جدوى. فيمضي بقوة تشتته ذاتها، ويغرس أشراشه في مختلف المسارات التي يتمدد فيها. فالمسار أو الطريق هو القاسم المشترك بين هذه الاستعارات/ العناوين كلها، وهو المضمر الأساسي فيها جميعا، من الزقاق والسكة ومفترق الطرق والرواق إلى الشعاب والمنعرج والمنحدر والمضيق والدرب والمسلك. وفضلا عن ملاحظة أن العناوين كلها لا تتجنب فحسب ذكر مفردة المسار أو الطريق المحايدة، فإنها تلفت نظر القارئ إلى صعوبة مساراتها أو طرقها: فهي إما زقاق أو رواق أو منعرج أو منحدر أو مسلك موحش أو درب ملتوٍ، وصولا إلى السكة المقفلة. لتنبه قارئها إلى طبيعة الطرق الوعرة التي تتمدد فيها أعراشها، أو تتغلغل في أرضها أشراشها. والواقع أن السكة المقفلة هي في مستوى من مستويات المعنى في هذه الرواية شارة هذا العمل الأساسية. تتجلى على صعيد بنيته الروائية كذلك في العودة بالسرد في نهاية النص إلى بدايته من جديد.
رواية الجيل المعطوب والخبرة الواقعية والمعرفية:
وسوف نتعرف فيما بعد على دلالات تلك النهاية، والعودة بكل حدث مهم في الرواية إلى جذره/ شرشه الخاص، عند تحليلنا لبنيته السردية وعوالمه. فالوعي بأن التاريخ والحياة الفردية معا ليسا مجرد مسيرة خطية أو نمطية تعتمد على التراتبات الرأسية كما اعتدنا أن نفكر، هو ما يكسب هذه الرواية أهميتها عندي. وهي أهمية تنبع من معرفة عميقة بالواقع الذي تصدر عنه، وخبرة، فعلية وليست سماعية، بالأحداث والشخصيات والعوالم التي تقدمها لنا. وهذا ما يمكنها من المساهمة، كالروايات الكبيرة، في تثقيف قارئها بأن تغنيه عن قراءة الكثير من الكتب عما دار في تونس في الفترة التي تكتب عنها، وعن مختلف التيارات التحتية في الفكر والسياسة التي كان يمور بها الواقع التونسي في تلك الفترة التي انشغلت بتقديمها لنا. حيث يتعرف القارئ منها على أحداث مفصلية في تاريخ تونس الحديث، وقد أصبحت جزءا من أحداث السرد ومن تكوين شخصيات النص الأساسية. بدءا من مؤتمر جربة عام 1971 الذي يفخر سي عبدالحميد سرا بأنه كان من المؤتمرين فيه، ثم أحداث جربة في فبراير 1972. مرورا بأزمة النظام مع الاتحاد العام للشغل وأحداث 26 يناير عام 1978، وصولا إلى انتفاضة الخبز في يناير 1984، دون أن ينسى واقعة كلية الآداب بمنوبة والتي خطط لها المناضل الخشبي العتيد المحامي «الصحبي القروي» في مارس 1982، والتي يقيس عليها البطل ما يمكن أن تفعله مجموعته به أو بالبطلة «زينة».
فالتواريخ تأتي في هذه الرواية الجميلة بمنطق السرد، وفق ما فصله جورج لوكاتش في دراسته المهمة عن الفرق بين السرد والوصف. فبينما يبقي الوصف الأحداث معلقة وحدها وكأنها خارج السرد، يدمجها السرد في بنيته، ويحفرها في وعي النص التاريخي، ويحيلها إلى جزء فاعل فيما أدعوه بـ«ذاكرة النص التاريخية». فللنصوص الجيدة ذاكرتها الداخلية التي تموضع أحداثها في قلب ما دار في الواقع الذي تصدر عنه، وتتوجه إليه في آن. لأنها تصدر عن معرفة بالواقع الذي تكتب عنه، وبالأنماط البشرية التي تقدمها، وأهم من هذا كله بحتمية الجدل والتفاعل بين الاثنين. وتتيح لنا هذه الطريقة في التضافر بين الأحداث المفصلية في تاريخ تونس ومصائر الشخصيات أو مسيراتها، أن نعرف الكثير عن تكوين الجيل الذي انفتح وعيه على شيخوخة نظام بورقيبة، وسياقات تكوينه. سواء أكان هذا التكوين في العاصمة تونس التي تكون فيها بطل الرواية «عبد الناصر»؛ أو في أبعد الأرياف عنها كما هو الحال مع بطلتها «زينة» الطالعة من أبعد أرياف تونس في شمالها الغربي قرب الحدود الجزائرية في عين دراهم.
فنكتشف أننا بإزاء جيل معطوب بحق. وإن سعى بجلد محمود يشارف البطولة للارتقاء على واقعه الموبوء، وتكوين نفسه بالبحث والعلم والمعرفة، والتغلب على هذا العطب الذي كان يتغلغل كأشراش الأعشاب الضارة في شتى مناحي حياته. جيل ندرك أنه مهما كانت بطولاته الفردية وصرامته مع نفسه، وبحثه المضني عن ذاته وعن حريته المفقودة؛ فإن أدواء الاستبداد والفساد والتخلف والقهر التي عاشتها بلاده أثناء تكوينه قد نخرته من الداخل مهما حاول تجاهلها أو التمرد عليها. وكأن قدر الواقع الاستبدادي المأزوم أن يخلق إنسانا مكسورا، مهما تسلح بالمعرفة، ومهما سعى لتطوير نفسه وواقعه. إنسان يقعده عن الانطلاق بنفسه وببلده، وحتى بحاجات جسده، إلى آفاق الحلم والتحقق المفتوحة؛ وهذا ما تدعوه «زينة» بـ«أرشيف الوجع» الذي يطاردها. لأن الرواية في مستوى من مستويات قراءتها هي رواية أرشيف الوجع التونسي في تلك الفترة المهمة من تاريخه، والتي تطرحها الرواية كما ذكرت مرآة لحاضر هذا المجتمع في لحظة تحول مفصلية أخرى في تاريخه، عقب كل ما جرى في ثورة الياسمين.
وهي في الوقت نفسه رواية المدينة، مدينة تونس العاصمة، تقدم لنا جغرافيا هذه المدينة وترقش تضاريسها في قلب النص، لا باعتبارها المكان الذي تدور فيه الأحداث فحسب، بل باعتبارها الاستعارة الكبرى للوطن الذي تكتب بالنص الروائي تاريخه وتناقضاته والتراتب الطبقي لفضاءاته الحضرية، وزحف الأحزمة العشوائية على مراكزة القديمة، وترييفه كما حدث في كثير من كبريات المدن العربية. لأنها لا تنسى «ما يحيط بالعاصمة من حزام تشكل بسبب النزوح في أوائل السبعينات مع سياسات الانفتاح الاقتصادي والرأسمالية المتوحشة» (ص208) يسكنه فقراء الأرياف الذين أعشى عيونهم وهم الحل الحضري، فخلقوا حزاما ريفيا حول المدن، يبلغ عدد سكانه في مدن مصر وحدها أكثر من عشرين مليون يعيشون تحت خط الفقر الذي نزحوا هربا منه، برغم وجودهم في المدينة. فالرواية تقدم قراءها إلى جغرافيا المدينة بأحيائها المختلفة ومعالمها الأساسية بدءا من مقبرة الزلّاج وصولا إلى موقعي الجامعة في منوبة و9 أفريل؛ وانطلاقا من جادة بورقيبة وشارع باريس ونهج مارسيليا في مركز العاصمة والشوارع الجانبية المتفرعة منها وحتى السوق المركزي ومحطة الباصات العمومية وحديقة الباساج والنقل الجماعي في باب سعدون. وتدور حول المدينة العتيقة من باب الجديد إلى باب الخضرا، وشارع باب البنات، وباب السعدون ومركز البريد في باب المنارة، وباب البحر وباب سويقة وحتى مركز الأمن في القرجاني، دون أن تنسى الضواحي من باردو ونهج البرتقال إلى حي الزهروني الشعبي، ومن الأمكنة التي تباع فيها أفضل الصناعات التقليدية في ضاحية الدّندان وحتى المطاعم والحانات التي تعج بها الشوارع المتفرعة من جادة بورقيبة.
ولا تقدم لنا الرواية هذه الجغرافيا في تفاعلها مع شخصياتها فحسب، وأنما تكتب لنا عبرها عن طبيعة العلاقات الاجتماعية في المدينة وما تنطوي عليه ثقافتها التحتية، بالمعنى الاجتماعي الواسع لمفهوم الثقافة، من تناقضات بين أهلها الأصليين «البلدية» أبناء تجربتها الحضرية العريقة بميراث طويل من التحضر وقيم الطبقة الوسطى ومتغيرات التحديث، والقادمين إليها مثل «زينة» من أقاصي البلاد من «الأقعار» الذين مهما كانت حدة ذكائهم، ومهما نمت معارفهم اللغوية منها والفكرية، يفتقرون إلى لمسات تحضر أهل المدينة الدالة، وما يتسمون به من حصافة ووعي بما يجب أن يُفعل أو يُقال، وبآليات التبادل الاجتماعي الكاشفة عن الثقافة بمعناها الاجتماعي العميق. لأن الثقافة بهذا المعنى العميق لها، وهو غير معناها الأدبي الذي درجنا على استخدمها به للدلالة على مجالات اهتمام المثقفين، لا تتجلى في كبريات المواقف والأحداث، وإنما في اللمسات الحضرية البسيطة والجزئيات المرهفة التي لا تلحظها إلا العين المثقفة بهذا المعنى نفسه. (راجع في هذا المجال صص 144 – 148 عندما تحصلت زينة على أجر خمسة أشهر دفعة واحدة وكيف تصرفت، ثم ص 160، 246 وغيرها، ولاحظ أيضا المفارقة بينهما وبين شخصية نجلاء من هذه الناحية).
فالمدينة تونس العاصمة هي مجرّة هذه الرواية الأساسية، قد تخرج منها إلى الأرياف لتعرفنا على جناية عوالمها المتخلفة المغلقة على «زينة» التي نشأت في أحراش الريف بالقرب من عين دراهم؛ ولم ينقذها، من مصير كمصير أمها التعيس بها، غير ما تركه المعمّر الفرنسي الراحل من كتب ومجلات في البيت الذي استولى عليه وعلى أقطاعاته معه مخدومها فاستعبد أهل الناحية، دون أن تكون له ثقافة المعمّر الفرنسي الذي رحل. أو قد تبعث راويها السري العليم، وهو من حيل السرد البارعة فيها، إلى القيروان ليعمل مدرسا بها. فتكشف عن تجذر تواريخها في ثقافة أسرته «البلدية» حينما تطلب منه أمه أن يقرأ لها الفاتحة في مقام أبي زمعة البلّوي في الطريق إليها، أو يجلب لها شيئا مما تتميز به من حلوى المقروض. وهي نفس المدينة التي جاء منها المناضل الخشبي «الصحبي القروي»، الذي يوشك قراره بالتخلص من زينة أن يكون المعادل اليساري الفج لتصرفات «الأقعار» التي تثير نفور «البلدية» وتحفظهم. أو تنقلنا إلى قرية قليبية التي جاء منها «رئيف» شريك عبدالناصر في السكن في حي باردو بالعاصمة ونجاريها المحترفين، أو إلى شواطئ جربة أو جامعة سوسة. ولكن تظل تونس العاصمة هي المجرة الأساسية لعالمها. لكن دعنا نتعامل مع هذه الرواية من بداياتها.
براعة الاستهلال والعتبات الاستشرافية:
قبل الحديث عن براعة الاستهلال في هذه الرواية تلزمنا وقفة قصيرة عند عتبتها الأولى، عنوانها الطريف: «الطلياني». الصفة /الاسم التي أطلقوها، لانعرف من الذي أطلقها، على بطل الرواية «عبدالناصر»، فصارت عنوانا للعمل كله. وهي ككل الصفات التي تستخدم اسما للدلالة على شخص كما هي الحال هنا، معرّفة وليست نكرة كي تلفت انتباه القارئ إلى شخصية بعينها. وتعلن أنها هي، وليس غيرها من الشخصيات مهما كانت أهميتها أو ثراءها بالدلالات، كما هو الحال مع البطلة «زينة»، هي مدار العمل ومركز اهتمامه. ولكن المفارقة أن استخدام «الطلياني»؛ كي يمثل جيلا بأكمله من شباب تونس؛ ينطوي على شيء من التغريب المبدأي الذي يدعو للتفكير. ويرفض هذا التغريب، كما هي الحال في التغريب البريختي المشهور، التماهي مع الحدث أو الشخصية. وكأن هذا الاسم الغريب «الطلياني» هو الذي دفع عبدالناصر، في لا وعيه، لأن يسرف في التمسك بتونسيته، ليكون عكس أخيه الأكبر «صلاح الدين» الذي استقر في سويسرا. وأصبح مندوبا لدى الرأسمالية الوحشية، التي تستخدم أبناء العالم الذي كان يسمى ثالثا في تكبيله بقيود ديونها المصممة لنزح ثرواته وإفقار السواد الأعظم من سكانه.
وبينما أطلقوا على عبدالناصر صفة/ اسما أجنبيا، فقد ولدت «زينة» هي الأخرى باسم أجنبي «آنروز» فرنسي في حقيقته «آن - روز» وإن اعتبروه بربريا، فرض عليها نظام بورقيبة هذه المرة تعريبه. «فقد فرض نظام بورقيبة على البربر أن يسجلوا أبناءهم في البلديّات بأسماء عربية، فظلت الأسماء البربرية حبيسة التداول في البيوت داخل العائلة، يتربى الأبناء على إخفائها تجنبا لأي مشكلة تجعلهم يشعرون بالتمييز والإقصاء، أو تعرضهم إلى المساءلة والعقاب». (ص49) وسيظل هذا الاسم الفرنسي/ الأمازيغي السري الذي لا يعرفه إلا الأصفياء يناديها حتى ترحل في نهاية الأمر إلى فرنسا. على عكس اسم «الطلياني» المعلن الذي يشده إلى تونس رغم غواية نداءات «أنجيليكا» التي ينقلها له «صلاح الدين»: «أنجيليكا دائما تسأل عنك، وتتذكر ما بينكما، لم تتزوج إلى الآن منذ اغتيل زوجها» (ص23)، ورغم كل التسهيلات المضمرة التي تمنحها له تلك الغواية، ومعها وجود أخيه نفسه في سويسرا، في زمن يلقي فيه التوانسة أنفسهم في البحر طمعا في أمل سرابي يوصّلهم إلى أوروبا.
بعد عتبة العنوان تلك، يفتتح المؤلف روايته بجملة مفتاحية تشد انتباه القراء وتوجههم إلى ضرورة «الفهم». فنحن بإزاء سرد يتوخى استثارة عقل القارئ قدر استثارته لعواطفه، وهذا منطق التغريب كما أشرت. لأن جملة السرد الاستهلالية تقول «لم يفهم أحد من الحاضرين في المقبرة يومها لِمَ تصرف عبدالناصر بذاك الشكل العنيف. ولم يجدوا حتى في صدمة موت الحاج محمود سببا مقنعا». (ص5) وهي جملة استهلالية مفتاحية لعدة أسباب: تبدأ السرد في المقبرة، وهو مكان له دلالاته الرمزية التي لا تخفى على أحد. لأن المقبرة توشك أن تكون استعارة الرواية المضمرة لتونس برمتها، وللواقع العربي من ورائها .. مقبرة الأحلام والآمال والمواهب البازغة. واقع أقرب ما يكون إلى المقبرة التي تدفن أفضل ما فيه. تبدأه ببطل الرواية وحامل اسمها: عبدالناصر المشهور بالطلياني. وهو للمفارقة اسم له دلالاته في التاريخ العربي المعاصر عامة، وإشكالياته في علاقته بتاريخ تونس السياسي خاصة، زمن مولد البطل، الذي نعرف من الفصل الأول أنه كان في عام 1960. زمن مجد بورقيبة وعلاقته الإشكالية مع عبدالناصر وقتها.
وتربطه أيضا بالموت، وأي موت؟ موت الأب «الحاج محمود» ابن جيل الاستقلال التونسي، الذي يبدو أنه لم يكن بورقيبيا خالصا حينما سمى ابنه: عبدالناصر. وهو أيضا ابن المدينة أي «البلدية» بالتعبير التونسي، وأسرها العريقة ذات التواريخ الحضرية الراسخة. وموت الأب هو أيضا طقس تعميد الابن كما نعرف من دراسات فرويد، لأن الرواية في مستوى آخر من مستويات التأويل فيها هي رواية هذا التعميد الناقص/ المعطوب الذي لا يتيح التحقق بأي حال من الأحوال. وأخيرا تقدم لنا تلك الجملة الاستهلالية العنف: عنف الابن المحبط الكظيم الذي ظل مدفونا في داخله لسنوات. والعنف، وخاصة هذا النوع الكظيم منه الذي ظل يختمر في داخل البطل كما سنعرف عندما ننتهي من قراءة الرواية لما يقرب من عقدين من الزمان، يغور في أعماق الذات، ويطمره النسيان، ولكنه لا ينمحي أبدا ويتفجر وجعا جسديا في لحظة تجسده مع «ريم». وسوف تعزز الرواية أهمية الفهم تلك بعد صفحات قليلة حينما تقول الأم «أموت وأعرف لِمَ فعل ما فعل؟»(ص13) وإن كانت الرواية قد أجابت على أمنيتها تلك قبل صفحات حينما قالت لهم «للا جنينة»: «عبدالناصر على حق، ولو كنت مكانه لفعلت أكثر مما فعل». (ص9)
فإذا أضفنا إلى هذا كله أن لحظة البداية تلك هي من حيث زمن الحكاية Fabula حسب تعبير الشكليين الروس، وهو غير زمن الخطاب السردي Sjuzhet، هي لحظة نهاية الزمن السردي التقريبية في الرواية عام 1990؛ وأن الرواية ستنهي خطابها السردي فيما بعد تلك اللحظة بأبعد لحظاتها غورا في زمن الحكاية السردي، أثناء طفولة عبدالناصر في نهايات الستينيات، سندرك أننا بإزاء سرد ماكر حصيف. يؤجل الجواب على سؤال البداية ذاك حتى النهاية، وكأنه يقول إن أردت أن تفهم شيئا بشكل حقيقي لابد أن تعرف مسيرته وماضيه. ولابد كما يدعونا ديلوز إلى التخلي عن منطق الفهم التقليدي بجذوره وتراتباته، ومعرفة الأشراش التي تتشكل من تشعباتها الخريطة المعقدة للواقع وللشخصية على السواء. كما أنه من حيث محتوى الشكل الروائي الذي يبدأ السرد من نهايته، ويطرح الفهم غايته، يكرس أهمية الحفر في التواريخ سبيلا أساسيا للفهم، فهم الشخصية، وفهم الحدث، وفهم الواقع الذي يصدران عنه معا. إذن نحن من البداية إزاء سرد استشرافي واستعادي في آن، وجدل الاستشراف والاستعادة، كما سنعرف من خلال تحليلنا لهذه الرواية الجميلة، من مفاتيح محتوى الشكل فيها.
زمكان الرواية ولحظة التغيير الفارقة:
أما من الناحية الزمنية فإن ليلة 7 نوفمبر 1987، ليلة انقلاب زين العابدين بن علي على زعيمه بورقيبة الذي غاب في سراديب الشيخوخة، هي لحظة الرواية الزمنية المفتاحية. وهي بالمفهوم الباختيني لحظة زمكانية، يتحول فيها الزمان إلى البعد الرابع للمكان: تونس. هذه اللحظة هي، في مستوى من مستويات التأويل وفاعلية التلقي معا، لحظة زمكان الرواية المحورية، وليست كما يتخيل البعض لحظة البداية، بدفن الأب والتي تعود لها الرواية في النهاية في نوع من إغلاق دائرة الزمن فيها. ليس فقط لأنها لحظة تحول تونس من استبداد يعاني من الشيخوخة، إلى استبداد مسلح بالأمن والمكر والفساد ودعم الرأسمالية المتوحشة؛ ولكن أيضا لأنها لحظة التحول الأساسية الكاشفة عن انكسارات شخصياتها جميعا. ففي نفس تلك الليلة التي نظم فيها بن علي انقلابه على بورقيبة، «مسكين بورقيبة» (ص230) كان أول تعليق لنجلاء على الانقلاب، لعب فيها القدر الروائي أدواره الدالة. فهي ليلة تحرر «زينة» من آخر ما كان يربطها حقا بتونس: أمها. ففي تلك الليلة ماتت أم «زينة»؛ آخر ما كان يربطها بمحل ميلادها، وحتى بوطنها تونس بأكمله، كما سنعرف فيما بعد. لأننا بعد تلك الليلة التي يكتشف فيها عبدالناصر لأول مرة حقيقة تردي الواقع الذي أنجب «خضراء الدمن» تلك، ويتركها عمدا هناك، عائدا إلى تونس العاصمة مع عشيقته «البلدية» الجديدة؛ سنتأكد من أن ارتباطها بعدالناصر لم يربطها حقا بوطنها.
وكيف يمكن له أن يحقق هذا الربط وقد بدأت أواصر الرباط الثوري الذي ربط «عبدالناصر» نفسه بوطنه، ومكنه من مقاومة غواية نداء الغرب الذي يعشي عيون الكثيرين من أبناء جيله، والمتمثل في «أنجيليكا»، في التمزق والوهن؟! قبيل تلك الليلة بشهرين كان ميلاد عبدالناصر الجديد، كصحفي في جريدة النظام، مع ظهور العدد الأول من ملحقه الثقافي (كراسات أدبية). وكان تعيينه في الجريدة الحكومية والذي أحاله إلى صحفي مكرس بعد تقرير أمني حاسم من سي عثمان. (ص 176). ومع هذا الميلاد المهني يشير عبدالناصر نفسه إلى ميلاد آخر «يوم ولادته في أحضان نجلاء، في الليلة الفاصلة بين السادس والسابع من نوفمبر 1987» (ص 228). ومن يقرأ القسم السادس من الفصل السابع «مسالك موحشة» (ص227-229) والذي يمر فيه شريط حياة عبدالناصر كله في ذهنه، بكل لحظاته الدالة قبيل سماعه بنبأ الانقلاب يدرك بحق أهمية تلك الليلة زمكانيا في الرواية. وكيف أنها لحظة مفصلية في بنية العمل ككل، لأننا نجد فيها الكثير من العلامات الفارقة في حياته. ولأن ما يرد على ذهنه فيها، وبعضه لن نعرف حقيقة ما جرى فيه إلا بعدها بمدة، بما في ذلك تلك الإشارات إلى علالة الدرويش في ميضأة المسجد، ثم في بيت «للا جنينة» عندما سقطت الكرة في وسط الدار، والتي لن تتكشف لنا طبيعتها ودلالاتها إلا بعد الانتهاء من قراءة الرواية، يوشك أن يكون تلخيصا جامعا لمسيرة حياته كلها حتى تلك اللحظة.
ولأنها كلحظة زمكانية توشك في الوقت نفسه أن تكون ليلة اكتمال ميلاد عبدالناصر المهنية في صحافة النظام، حيث كان هو الذي يقود «سي عبدالحميد»، رئيس التحرير، ويوجهه إلى الفعل الصحيح والمسار الجديد. لأن أكثر ما يكشف لنا عن هذا الميلاد الجديد هو ما دار بعده صبيحة انقلاب بن على في مكتب «سي عبدالحميد» رئيس التحرير والمدير العام، حيث نجد أن عبدالناصر هو الذي يرود ويقود. «نصح عبدالناصر سي عبدالحميد بإصدار عدد استثنائي حالا ولو في صفحة واحدة وجها وقفا. نصحه أيضا بأن يختار صفّه من الآن مع بن علي، فبورقيبة لا مستقبل له. حثّه على أن يقامر، ووعده بالربح» (ص 232). بل ووقف بجواره في تلك المقامرة، ونفذ له العدد الذي اقترحه عليه. لذلك كان طبيعيا أن يقدم له رئيس التحرير سيارته وسائقه كي يقلاه، مع نجلاء لدلالة المفارقة المحسوبة روائيا، إلى قرية زينة ليعزيها في وفاة أمها. وبدلا من أن يقف مع زينة في العزاء كزوج، كان طبيعيا أيضا أن تتصور القرية كلها أنه زوج نجلاء، وليس زينة التي لم يتصور أحد أن يأتي زوجها إليهم في سيارة مرسيدس بسائق.
وكان طبيعيا أيضا وقد تحررت زينة من كل ما يربطها بتونس أن تتخثر بعدها كل الأواصر الإيجابية المشرقة التي ربطتها بعبدالناصر، خاصة بعدما اجهضت جنينها الأول منه في الأسبوع الأخير من عطلة الشتاء وبعد أسابيع من انقلاب بن علي. لكن ما سبق تلك الليلة المفصلية وما أعقبها من تحولات، أو بالأحرى من أوجاع التدجين القاسية في حياة «عبدالناصر» المهنية، لا يقل أهمية عما جرى له طوال مسيرته الحياتية كلها. لأنه يلقى الضوء من جديد على هذا كله. وهي في الوقت نفسه ليلة فصم كل عرى العلاقات التي كانت تربط عبدالناصر بماضيه القديم، بما فيها علاقته بزينة نفسها.
والواقع أن اختيار تلك اللحظة الروائية زمكانا محوريا في الرواية هو ما يحيلها إلى مرآة دالة عما دار في تونس عقب ثورة الياسمين. لأنها تمكننا من معرفة مدى استعصاء الواقع القديم على التغيير، بل مدى قدرته على ابتلاع من يرومون التغيير فيه وتدجينهم، كما حدث مع عبدالناصر نفسه من ناحية، وتكشف لنا من ناحية أخرى عن استراتيجيات التغيير الذي لا ينطوي على اي تغيير حقيقي كما هو الحال مع ما جرى في الثورة التونسية. فبن علي ليس إلا صورة أكثر شبابا وفتوة من بورقيبة الذي شاخ وتخثر نظامه وانحدر إلى مباءة التسلط والاستبداد؛ ونظامه ليس إلا امتدادا لكل ما كان في نظام بورقيبة من مساوئ دون أي من محاسنه القديمة، رغم معسول كلام البدايات. لذلك نجد أن حياة أهم شخصيات الرواية من عبدالناصر إلى زينة، ومن سي عبدالحميد إلى نجلاء، قد انحدرت بشكل ملحوظ في العامين أو الثلاثة التي عاشتها في زمن بن علي، لأن زمن الحكاية، وهو غير زمن السرد الروائ ، ينتهي عام 1990، أي بعد هذا الانقلاب بثلاثة أعوام تقريبا.
(بقية الدراسة في العدد القادم)