يتواصل الأفراد بفضل وجود معجم مشترك وذخيرة لفظية تتضمن كلمات لها معان متشابهة أو متقاربة، وتتفاوت درجة فهم دلالات هذه الكلمات من شخص لآخر، وذلك مرتهن بما مر به الفرد من تجارب، ومرتبط بطبيعة الوسط الذي إليه ينتمي مستعملو اللغة، إضافة إلى العديد من العوامل التي تسهم في تحديد الدلالة. فإذا ما استقرأنا كلام العرب، خصوصا على مستوى الاستعمال اللغوي، نجد أن دلالة اللفظة الواحدة قد تختلف بين الأوساط اللغوية، بل قد تختلف بين الأفراد المنتمين إلى نفس البيئة اللغوية. وما يضمن فهما متماثلا أو متشابها للدوال اللغوية –بتعبير دي سوسير- ويؤدي إلى تواصل ناجح وجودُ تواضع لغوي واتفاق ضمني حول مدلولات الكلمات وكيفية توظيفها واستخدامها، وهو الدور الذي تضطلع به المعاجم اللغوية.
وإضافة إلى التحديد اللغوي للكلمة وهي مفردة، يعد التركيب أحسن طريقة لفهم معنى الكلمة، إذ يسهم في إبراز معناها ويجعلها متباينة عن تلك التي تقاربها أو تبدو مشابهة لها، فضلا عن الوظائف الدلالية ذات الارتباط بالمحيط والثقافة اللذين يعبران عن دلالة اللفظ المستقلة عن كلّ كلمات اللغة.
وليس العالم كما يراه المتكلم إلا إنتاجا لثقافة المجتمع، وهو الشيء الذي يعكسه نظام اللغة المعجمي الذي يتواصل به الأفراد، وكل كلمة لها مرجعها في العالم الخارجي، توظّف في تركيب ترتبط بالعالم أو بجزء منه بطريقة تختلف عن الكلمات الأخرى.
وترتبط الكلمات فيما بينها بمجموعة من العلاقات، تجعل لهذه الكلمات معنى محددا، فكما يقول السيميائيون الاختلاف يولد المعنى. ويتحدّد المعنى أكثر حين ظهوره في بنية المعجم الذي يمتلكه المتكلم، أو وفق التغيّرات التي تطرأ على معاني الكلمات المرتبطة بالحقل المعيّن.
وبما أن كل لغة تعكس صورة عن الوجود خاصة بها، فإن نظرة الناطقين بها إلى الحياة تتميز عن غيرهم، لاختلاف ثقافتهم عن الثقافات الأخرى، ولاختلاف لغتهم عن اللغات الأخرى، ومجموع كلماتها يدل على الجنس، أو النوع، أو أصناف الموجودات المادية والمعنوية، والكلمة الواحدة في أيّة لغة تقيم مجموعة من العلاقات الدلالية مع الكلمات الأخرى، كما تندرج تحتها مجموعة من الألفاظ، فكل لفظ من هذه الألفاظ يضمّ عدداً من الأفراد أو الأحداث جمعت تحت عنوان واحد، وكوّنت صنفاً واحداً، ولذلك كانت مفردات كلّ لغة من اللغات ضرباً من التصنيف للموجودات الذي يعدّ أساسياً في فهم العلاقة بينها، وهو إدراك لنظرية الحقول الدلالية.
ويتكوّن الحقل الدلالي من مجموعة من المعاني ِأو الكلمات المتقاربة التي تتميز بوجود عناصر أو ملامح دلالية مشتركة، وبتعبير آخر، هو مجموعة من الكلمات التي تجمع بينها مقومات دلالية مشتركة، وبذلك تكتسب الكلمة معناها في علاقاتها بالكلمات الأخرى، لأنَّ الكلمة لا معنى لها بمفردها، بل إنَّ معناها يتحدّد في علاقتها مع الكلمات معها مجموعة واحدة.
وبناء عليه، تتعدد العلاقات الرابطة بين الكلمات التي تنتمي إلى نفس الحقل الدلالي.* * * *
أنواع العلاقات الدلالية:
إن معنى الكلمة هو حصيلة علاقاتها بالكلمات الأخرى في نفس الحقل الدلالي، وهو مكانها في نظام العلاقات التي تربطها بكلمات أخرى في المادة اللغوية.
ولذلك يعد من الضروري عند أصحاب نظرية الحقول الدلالية بيان أنواع العلاقات داخل كل حقل دلالي. ولا تخرج هذه العلاقات في أي حقل عما يأتي:
(1) الترادف synonymy.
(2) الاشتمال أو التضمن hyponymy.
(3) علاقة الجزء بالكل part-whole relation.
(4) التضاد antonymy.
(5) التنافر incompatibility.
ومن المعروف أن بعض الحقول الدلالية سوف تحوي كثيرا من هذه العلاقات، في حين أن حقولا أخرى لن تحويها. كما أن بعض العلاقات قد يكون ضروريا لتحليل بعض اللغات دون الأخرى. ولذا فإن على اللغوي أن يحدد أنواع العلاقات الضرورية لتحليل مفردات لغة معينة.
(1) الترادف:
يتحقق الترادف حين يوجد تضمن من الجانبين. يكون «أ» و«ب» مترادفين إذا كان «أ» يتضمن «ب»، و«ب» يتضمن «أ». كما في كلمة «أم» و«والدة».
ويميز كثير من علماء الدلالة بين أنواع مختلفة من الترادف وأشباه الترادف على النحو التالي.
- الترادف الكامل: perfect synonymy، أو التماثل، وذلك حين يتطابق اللفظان تمام المطابقة، ولا يشعر أبناء اللغة بأي فرق بينهما، ولذا يبادلون بحرية بينهما في كل السياقات.
- شبه الترادف: near synonymy، أو التشابه أو التقارب أو التداخل، وذلك حين يتقارب اللفظان تقاربا شديدا لدرجة يصعب معها –بالنسبة لغير المتخصص- التفريق بينهما، ويمكن التمثيل لها في العربية بكلمات مثل: عام، سنة، حول.. وثلاثتها قد وردت في مستوى واحد من اللغة، وهو القرآن الكريم.
- التقارب الدلالي: semantic relation، ويتحقق ذلك حين تتقارب المعاني، لكن يختلف كل لفظ عن الآخر بملمح هام واحد على الأقل. ككلمتي: حلم ورؤيا.
- الاستلزام: entailment: وهو قضية الترتب على. ويمكن أن يعرف كما يأتي: س1 يستلزم س2 إذا كان في كل المواقف الممكنة التي يصدق فيها س1 يصدق كذلك س2. مثلا: انتحر علي-قتل نفسه، ليس كل شخص حضر-بعضهم لم يحضر.
- استخدام التعبير المماثل، أو الجمل المترادفة paraphrase: وذلك حين تملك جملتان نفس المعنى في اللغة الواحدة، يقسم هذا الاستخدام إلى عدة أقسام:
o التحويلي: وذلك بتغيير مواقع الكلمات في الجملة، وبخاصة في اللغات التي تسمح بحرية كبيرة، وذلك بقصد إعطاء بروز لكلمة معينة في الجملة دون أن يتغير المعنى العام لها. مثال ذلك:
+ دخل محمد الحجرة ببطء
+ ببطء دخل محمد الحجرة
+ الحجرة دخلها محمد ببطء
o التبديلي أو العكس، وذلك مثل قولك:
+ اشتريت من محمد آلة كاتبة بمبلغ 100 درهم
+ باع محمد لي آلة كاتبة بمبلغ 100 درهم.
(2) الاشتمال:
تعد علاقة الاشتمال inclusion أهم العلاقات في علم الدلالة التركيبي. والاشتمال يختلف عن الترادف في أنه تضمن من طرف واحد. يكون «أ» مشتملا على «ب» حين يكون «ب» أعلى في التقسيم التصنيفي أو التفريعي «toxonomic»، مثل «فرس» الذي ينتمي إلى فصيلة أعلى «حيوان». وعلى هذا فمعنى «فرس» يتضمن معنى «حيوان».
واللفظ المتضمن في هذا التقسيم يسمى:
1- اللفظ الأعم hyperonomy.
2- الكلمة الرئيسة head word.
3- الكلمة الغطاء cover word.
4- اللكسيم الرئيس archlexeme.
5- الكلمة المتضمنة superordinate.
6- المصنف classifier.
ومن الاشتمال نوع أطلق عليه اسم «الجزئيات المتداخلة»، ويعني ذلك مجموعة الألفاظ التي كل لفظ منها متضمن فيما بعده مثل: ثانية، دقيقة، ساعة، يوم، أسبوع، شهر، سنة..
(3) علاقة الجزء بالكل:
أما علاقة الجزء بالكل فمثل علاقة اليد بالجسم، والعجلة بالسيارة. والفرق بين هذه العلاقة وعلاقة الاشتمال او التضمن واضح. فاليد ليست نوعا من الجسم، ولكنها جزء منه. بخلاف الإنسان الذي هو نوع من الحيوان وليس جزءا منه.
والسؤال الآن: هل جزء الجزء يعد جزءا للكل؟ أو بعبارة أخرى: هل تتعدى الجزئية فتنتقل من الجزء إلى الكل؟
هناك من الأمثلة ما يقبل التعدي، ومنها ما لا يقبله، فنحن نقول إن كم هذا القميص بدون أسورة (أسورة-كم: علاقة جزئية)، ويمكننا ان نقول إن القميص بدون أسورة (كم-قميص: علاقة جزئية أخرى). ولكن في علاقة جزئية مثل: (مقبض-باب) ومثل (باب-منزل) لا يمكن تعدية هذه العلاقة، لأننا نقول: هذا الباب بدون مقبض، ولكن لا نقول: هذا المنزل بدون مقبض. ونقول مقبض الباب، ولكن لا نقول: مقبض المنزل.
ويمكن التمثيل للأول كذلك بعلاقات جزئية مثل (أظافر-أصابع)، و(أصابع-يد)، و(يد-جسم). فمن الممكن أن نقول: أصابع محمد بدون أظافر، وان نقول: يد محمد بدون أظافر، وأن نقول: محمد بدون أظافر.
(4) التضاد:
هناك أنواع متعددة من التقابل ترد تحت ما سماه اللغويون بالتضاد:
ü فهناك ما يسمى بالتضاد الحاد، أو التضاد غير المتدرج ungradable أو nongradable مثل: ميت-حي، ومتزوج-أعزب، وذكر-أنثى. وهذه المتضادات تقسم عالم الكلام بحسم دون الاعتراف بدرجات أقل أو أكثر. ونفي أحد عضوي التقابل يعني الاعتراف بالآخر. فإذا قلت إن فلانا غير متزوج فهذا يعني الاعتراف بأنه أعزب. ولهذا لا يمكن وصف أمثال هذه المتضادات بأوصاف مثل: «جدا» أو «قليلا» أو «إلى حد ما». وهذا النوع قريب من النقيض عند المناطقة، ويتفق مع قولهم إن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، أو إنهما لا يمكن أن يصدقا معا، أو يكذبا معا.
ü وهناك ما يسمى بالتضاد المتدرج gradable، ويمكن أن يقع بين نهاتين لمعيار متدرج أو بين أزواج من المتضادات الداخلية. وإنكار أحد عضوي التقابل لا يعني الاعتراف بالعضو الآخر. ويحمل هذا النوع نفس الاسم عند المناطقة (التضاد) ويصفونه بأن الحدين فيه لا يستنفدان كل عالم المقال، ولذا فإنهما قد يكذبان معا، بمعنى أن شيئا قد لا ينطبق عليه أحدهما، إذ بينهما وسط. فقولنا «الحساء ليس ساخنا» لا يعني الاعتراف بأنه بارد. وهذا النوع من التضاد نسبي، فقولنا «الحساء ساخن» يعني أنه ساخن بالنسبة لدرجة الحرارة المعينة للحساء، أو للسوائل ككل، او للسوائل المقدمة مع وجبة. وهذا يختلف عن قولنا «الماء ساخن».
وهناك نوع اسمه العكس converseness، وهو علاقة بين أزواج بين الكلمات مثل: باع-اشترى، وزوج-زوجة.
فلو قلنا إن عبد الغني باع منزلا لعلي فيعني هذا أن عليا اشترى منزلا من عبد الغني.
ولو قلنا: محمد زوج فاطمة، فهذا يعني أن فاطمة زوجة محمد. ولو قلنا: عبد الغني والد علي فإن هذا يعني أن عليا ولد محمد.. وهكذا.
وهناك نوع آخر من التضاد يطلق عليه «التضاد الاتجاهي» directional opposition. ومثاله العلاقة بين كلمات مثل: أعلى-أسفل، ويصل-يغادر، ويأتي-يذهب، فكلها يجمعها حركة في أحد اتجاهين متضادين بالنسبة لمكان ما.
(5) التنافر:
أما التنافر فيرتبط بفكرة النفي، ويتحقق داخل الحقل الدلالي إذا كان «أ» لا يشتمل على «ب»، و«ب» لا يشتمل على «أ». وبعبارة أخرى هو عدم التضمن من طرفين، وهو إذا كانت الكلمات من نفس الحقل وكل واحدة لا تضاد الأخرى ولا تشتمل على معناها. وينقسم إلى:
(أ) التنافر الجزئي: أن تكون إحدى الكلمتين جزءا من كتلة أخرى:
غلاف، كتاب.....مقود، سيارة
غصن، شجرة.....نافذة، غرفة
رجْل، جسم.......ساق، قدم
(ب) التنافر الدائري: وهو الذي يكون بين كلمات تدل على فترات متعاقبة دائريا، كل واحدة تصلح أن تكون البداية أو النهاية:
ü أيام الأسبوع: سبت، أحد، اثنين، ثلاثاء، أربعاء، خميس، جمعة.
ü الفصول: الشتاء، الربيع، الصيف، الخريف.
ü الأشهر: محرم، صفر، ربيع الأول، ربيع الثاني، جمادى الأول.. إلخ.
(ج) التنافر الرتبي: وهي التي تدل على معان متدرجة من أعلى إلى أسفل أو العكس، ومن أمثلته:
ü الرتب العسكرية: جندي، عريف، رقيب، ملازم، نقيب، رائد، مقدم، عميد، لواء.
ü مراتب أساتذة الجامعة: محاضر، أستاذ مساعد، أستاذ مشارك، أستاذ.
ü مراحل العمر: جنين، طفل، شاب، رجل، كهل، شيخ.
(د) التنافر الانتسابي: وهو انضواء مجموعة من الكلمات تحت معنى عام:
ü تفاح، برتقال، موز (فواكه).
ü بقرة، نعجة، عنز، جمل (حيوانات أهلية).
ü كتاب، صحيفة، مجلة، موسوعة (مطبوعات).
خاتمة:
إن المعجم الذي يحتفظ به كل فرد في ذاكرته يختلف في ترتيبه عن المعجم المسطر بين دفتي كتاب والذي رتبت مفرداته ترتيبا ألفبائيا بحسب الحرف الأول أو الأخير، بينما المعجم المخزون في الذاكرة مرتب حسب الحقول الدلالية: قرابة، ألوان، حركات، أمراض، نباتات، حيوانات .. إلخ. وكل حقل يضم مجموعة من المفردات تربطها علاقات دلالية معينة: تضاد، اشتمال، تنافر، ترادف..
وهذا ما يسمح للمتكلم باختيار ما يناسب من المفردات لإيصال قصده بالاعتماد على تصنيف الحقول الدلالية وفق علاقات دلالية متشابكة. وهي عملية قد تتم بطريقة شعورية أو لا شعورية.
(باحث في البلاغة والخطاب تخصص لسانيات بجامعة شعيب الدكالي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الجديدة-المغرب)