كان الوقت ضحا وكنت في السابعة. ومضى ستون عاما على الواقعة، لكني لازلت أحس حرارة قبلات المواساه الدامعة التي طبعها كل نساء الجيران على خدي الصغير يوم ماتت أمي، ولا زلت أذكر تفاصيل استضافة (الصبي اليتيم) في بيوت الجيران فترة الحداد، ولازلت أذكر بالاسم كل الأسر التي هونت علي بواكير أيام اليتم المؤلمة، فقد رحلت من كنت وحيدها المدلل، ولا أدعي أنني كنت لاأعرف، رغم حداثتي، أننا ندين بعقيدة مختلفة عن عقيدة جيراننا في الشارع، لكنني أدعي أن ذلك لم يكن له أثر على الاطلاق في هذه الحقبة، لأن أحدا لم يكن يعنيه ذلك، أو أن ذلك لم يكن يعني أحد.
ولأن علياً كان رفيق الدرب واللعب ومقعد الدرس، فقد قضيت أيام الحداد الأولى في بيت أسرة أبو علي جارنا اللصيق، وهو رجل طويل القامة تظهر علامة صلاه واضحة على جبهته العريضة مع ابتسامة أعرض لم تكن تفارق وحهه المريح، وكنت أعرف أنا الصغير أن أبو علي كان مسلما، اسلاما رأيت معتنقيه وعايشتهم ودخلت بيوتهم ونمت وسط أبنائهم وأكلت على موائدهم ورأيتهم رأى العين، بشر متصالحون مع أنفسهم ومع غيرهم (أتكلم عن خمسينات وستينات القرن الماضي) وهي حقبة مصر الجميلة، حيث لم يكن هناك فرز ولا تمييز بالأزياء والأسماء، كل كان على فطرته،لا تصنع ولا تقية ولا مظاهر كذب وتدليس على الناس وعلى الخالق، وهي الحقبة التي أدافع عنه في كل طروحاتي، وأنال بسبب ذلك كم لا بأس به من الشتائم والسباب من العنصريين المتعصبين الجدد، هؤلاء الذين نفروا الناس من العقيدة وأرهبوهم بها في كل أرجاء الكوكب، مبتدعين عقيدة لو نزلت في هذه الأيام وكان هؤلاء القتلة هم دعاتها وكان هذا القتل والتفجير والذبح والتهجير والدماء هو أدواتها ترى هل كان يعتنقها مليار من البشر؟
بعد عقد من الزمن وفي نفس الموعد ومضى نصف قرن على الواقعة، لازلت أذكر بالاسم كل من واساني من كل الأعراق والأديان، وربتوا على كتفي معزين، ودسوا في جيبي كل حسب مقدرته، وبعضهم كان من أعوازه، لمؤازرتي في المحنة الكبرى، تلك المحنة التي هزت ثوابت حياتي يوم فقدت أبي فجأة وهو شاب لم يتم العقد الرابع وكنت في السابعة عشرة، ونلت دعماً وتشجيعاً أدبياً ومعنوياً، وأحياناً مادياً، من كثيرين، ومنهم من كان من دين علي ولن أنساهم ما حييت، وفى كل مشوار الحياه رددت الجميل لعلي، احترمت عقيدة غيري وآمنت يالحب والتسامح ومكارم الأخلاق كغاية سماوية كرم الله بها بني آدم، وبادلني المؤمنون الحقيقيون أصحاب الضمائر الحية نفس المشاعر وكانوا كثر.
هذا عن الشطر الأول من العنوان وهو دين علي، أما عن دين عمر فحدث ولا حرج، فقد مات النجم السكندري الأشهر مفلساً في دار مسنين، وحتى أوائل ثمانينات القرن الماضي لم نكن نعرف ولم يكن يهمنا أن نعرف دين عمر، فقد ترعرعت موهبته مع الثورة، ولم ننشغل بدينه انشغلنا بفنه وأخباره، فقد اعتبرناه نحن جيل الثورة امتدادا لمشروع حضاري هادر على كل الأصعدة، سياسة واقتصاد واجتماع وثقافة وفنون، وكان الشاب الكاثوليكي خريج فيكتوريا ذوي الأصول اللبنانية وصديقاه المقربان المسلمان رمزي وعبد الحليم حافظ هم نجوم جيلي كله، ولم نهتم حينها بمسألة إسلامه ليتزوج من محبوبته ومحبوبتنا جميعا، فلم يتباهي المسلمون بتحوله إلى الاسلام، ولم يحزن المسيحيون لتركه المسيحية، وكان السبب الرئيس أن المصريين كانوا على أبواب مرحلة جديدة من التمدن والرقي والتحضر، فلم يكن يهم أحد ماهو دين علي وماهو دين عمر، ومات عمر الشريف ومع أن أحدا لم يجرؤ أن يسأله عن دينه وهو حي، إلا أنه وفجأه أصبح دين عمر قضية الساعة، وجاءوا بمن يشهد أن الرجل مات مسلما مع أنه لم يدخل مسجد في حياته ولم يصرح مرة واحده أنه مسلم، وكان هذا السجال المقيت هو نتاج هذه الحقبة المظلمة التي دخلنا نفقها المظلم منذ قرر السادات اتخاذ الدين مطية لتحقيق مآربه وحقق مآربه ولكنه دفع حياته كما دفعها كل من اتخذ الدين مطية لتحقيق أغراضه، وهكذ بعد أن صعدت روحه الى بارئها انشغلنا بدين جثة تقبع في ثلاجة الموتى، ولم يشفع له شهادة الشهود أنه مسلم، فكانت جنازة هزيله انسحب منها حتى ابنه، ولولا بعض المشيعين بالأجر لما زاد العدد عن بضع العشرات الذين رأيناهم على الميديا.
هذه أيها الكرام حكاية دين علي ودين عمر، حكاية حقبتين في عمر أمة، حقبة كان المستقبل يبشر بالأمل ويلوح في الأفق بوادر عصر نهضة، حقبة كان عنوانها الرئيس السماحة والسلام والمحبة، وحقبة انطفأت فيها كل السرج وساد ظلام حالك ولايزال، حقبة عنوانها الرئيس الكراهية والبغض والحقد والعنصرية والفرز والتمييز، واستلقى الناس على ظهورهم في مستنقع التخلف، وأصبحت سجالات دين علي ودين عمر هو المخدر اليومي، فلا عمل ولا ابتكار ولا انتاج، فقط قضايا وفتايا في بول الابل والحجامة وإثارة الفتن، وهاكم النتيجة على الساحة يراها الأعمى قبل البصير. أمة بائسة يتلهى نصف الكرة بمشاهدتها على الميديا كل مساء في كليبات القتل والحرق والخيام، وعورات مكشوفة لأسر تستجدي حفنة دقيق وشربة ماء من منظمات الاغاثة، بينما حكامهم مشغولون بالحرب الضروس والمفارقة أنها أيضا بين(أتباع علي وأتباع عمر)حرب عمرها ألف عام ولا يبدو في الافق نهاية لها، أو أن نهايتها ستكون عندما يعود الجميع الى نقطة الصفر،أو بالأحرى يعودون الى الصحارى، فلا يكفي أن يتقاتل ويشرد ويسكن الخيام عشرون مليونا من السوريين واليمنيين والصوماليين والليبيين والسودانيين، فيجب أن يعود الجميع الى الخيام مهرولين مهللين مكبرين ليبدأوا السيناريو من البداية أو بالأحرى الصراع من البداية.