تستبين الناقدة في ديوان «عناقيد الشوق» معان دلالية تتمثل بعناصر ثلاثة تشكل مرتكز النص، وهي: (القتل، الذات، الريح). وترى أن الشاعرة أدخلت نصها في دينامية الأفعال محركة الزمن في النص، مذ بدئها بالأفعال الحاضرة المستمرة. كما تشير إلى موسيقى داخلية سطرية النغمات.

قراءة كــشـــفية في «عناقــيد الشـوق» لمـريم الـترك

إخـلاص محـمود

«عَنَاقِيْدِ الشَّوْق

يَنْسَلُ مِنْ خَاصِرَتِي مِثْلَ النَّصْلِ

يَعْبُرُ مَوْجَاتٍ ضَوْئِيَّةً

يَا هَذَا الْقَتْلُ..

خُذْنِي لِعَزْفِ رَبَابَتِنَا الأُوْلَى

لأَوَّلِ ثَمَرٍ بَاغَتَنَا فِي قَطْفِ الْحُبِّ

خُذْنِي بِشَهْقَةِ جُوْعٍ صُوْفِيَّةٍ

خُذْنِي ..إِنَّ مِشْمِشَ رُوْحِي أَزْهَارٌ خَجْلَى

مَنْ يَقْتُلُ طِفْلَةً ؟..

تَحْبُو فَوْقَ مُرُوْجِ الظِّلِّ

يَا هَذَا الْقَتْلُ..

وَيُعَلِّقُ خَوْفَ اللَّيْلِ..

فَانُوْسَ الضَّوْءِ بِغُرْفَتِهَا

وَيُعِيْدُ هَدِيْلُ حَمَامَاتٍ

كَابُوْسَ الْجَرْحِ لِشُرْفَتِهَا

وَحِيْنَ تُطِلُّ..

لا تَلْقَى وَقْتًا فِي الْوَقْتِ

لا حُلْمًا يُوْرِقُ أَو يَأْتِي

لا نَبْضًا يَحْيَا فِي الْمَوْتِ

وَالرِّيْحُ تَهُزُّ زَهْرَ الْمِشْمِشِ فِي قَامَتِهَا

وَتَهُزُّ حَبْلَ الأُرْجُوْحَةِ

وَتَهُزُّ مِيْلادَ الأَشْيَاءِ

وَتَهُزُّ ضَفِيْرَةَ شَعْرِ الأَحْلامِ

وَتٌعِيْدُ دِمَاهَا لِلأَصْلِ

وَتَعْبُرُ مِثْلَ النَّصْلِ

يَا هَذَا الْقَتْلُ»(1)

تعتمد الشاعرة (مريم الترك) على عناقيد دلالية تتمثل بعناصر ثلاثة تشكل مرتكز النص هي: (القتل /الذات/ الريح)، وتدخل نصها بالأفعال محركة الزمن في النص مذ بدئها بالأفعال الحاضرة المستمرة (ينسل، يعبر، تحبو، يعيد، يعلق، تطل، يورق، يحيا، تهز). وإذ كان (القتل) يركز على الفعلين (يعبر) و(يعيد)، ليتخطى ويخرق الزمن وصولا الى الذات، و(يعيد) الذي يرسم خوف المستقبل، فإن (الريح) تعكس هذا الإستخدام للفعلين، إذ تبدأ بـالفعل (تعيد) ومن ثم (تعبر)، فجاء التركيز على هذين الفعلين معا، لأن القتل يأتي من مكان بعيد فيعبر نحو الذات، ومن ثم يعيد لها كوابيس المستقبل، فهو عنصر سلبي يتخطى زمنه لزمنها، أما الريح فهي تعيد ترتيب ما بعثره القتل وهي الدماء فتعيد لها الحياة، ومن ثم تعبر بها لضفة أخرى، فهي عنصر ايجابي. وتعبير عن التوق الى حدوث تغيير للعالم كله والحلم بنهضة انسانية وولادة جديدة(2).

إن للقتل في النص من القوة والحضور، إذ يمتلك خاصية عبر الموجات الضوئية مجترحاً الذات بفاعليته المدمرة، التي تعمل على التغييب وقتل الحياة. وإن تكرر في النص بحضوره الثلاثي بـــ«يا هذا القتل/ يا هذا القتل/ يا هذا القتل» وحضوره الأخير الذي ينهي النص، ويستحوذ على الظهور، ليشكل آخر وحدة كلامية تراه العين، وتتلقاه في جسد النص وفي جسد الواقع أيضاً، ليعبر عن ما يسود واقعنا من قتل ودمار. لكن الذات تصدمنا بعبارتها الثلاثية المجابهة له: «خذني لعزف ربابتنا الأولى/ خذني بشهقة جوع صوفية/ خذني إِنَّ مِشْمِشَ رُوْحِي أَزْهَارٌ خَجْلَى»، وبعد مطالبتها الأخذ بصيغتها الثلاثية تقول (من يقتل طفلة)، والطفلة رمز البراءة والعفوية في هذا الزمن، الذي ملأ بالشر والعدوان، وتطلب الأخذ لأنها قد سئمت العيش في هذا المكان المليء بالدمار، لذا تود العودة إلى الرمز الأول والتكوين، رمز الحياة في الجنة عبر الموت والقتل، فعلى هذا هو جسر يعبر بها إلى عالم آخر مفقود تتمناه وتريده. وإن لهذا التكرار الثلاثي أهميته الذاتية، لأنه يرتبط بالعدد ثلاثة الذي يمتلك خاصية عند المسيحيين. إذ يُفعل النص مطلبه نحو غاية سامية ترتبط بالتضحية والفداء في سبيل الآخرين، كما فعل النبي (عيسى)عليه السلام وجابه القتل.

فالريح أو الثورة تقتضي ثائرا يقدم جسده فداء قضيته لذلك اقترنت الريح بالجسد والدم والروح(3)، وهذا ما نراه في النص.

«وإذا كانت الريح ثورة والروح ارادة والجسد تضحية فإن الدم في القصيدة إضاءة تنير درب الثورة وبخاصة تلك المنعطفات الحادة والوقفات الضبابية التي تتعرض لها مسيرة المقاومة»(4).

فاقترنت الريح بالدم في (وَتٌعِيْدُ دِمَاهَا لِلأَصْلِ)، والتضحية بالجسد من قبل الذات عندما تطلب من القتل أخذها.

في النص تنيط الشاعرة بالفعل لغير العاقل أو لغير ماله القدرة عليه من: (يعلق خوف الليل/ فانوس الضوء بغرفتها)، فكيف من الليل أن يعلق فانوس الضوء وتكمل قولها بـ(يعيد هديل حمامات/ كابوس الجرح لشرفتها)، والحمامات رمز السلام تذكرها هنا بالجرح من فقدها هذا الأمان في الحاضر، فيتحول هذا الجرح النازف إلى كابوس يتلبس مستقبلها لما تحمله الشرفة من رمز لنظرة مستقبلية تطل منها على عالم جديد. مع ملاحظة التناغم الصوتي بين (فانوس/ كابوس)، والتضاد في المعنى للأثنين، فـ(الفانوس) يمارس نوعا من الإضاءة لدحر الخوف من ظلمة الليل والشيء المستقبلي، والــ( كابوس) يمارس سلطته التعسفية في إثارة خوف الذات وتنغيص حياتها المستقبلية. فضلا عن التناغم الصوتي في (غرفتها/ شرفتها) من مس رمز خصوصية الذات ومكانها.

لتقبع بعد ذلك في جوٍ يملأه الـــ(لا) الثلاثية (لا تَلْقَى وَقْتًا فِي الْوَقْتِ/ لا حُلْمًا يُوْرِقُ أَو يَأْتِي/ لا نَبْضًا يَحْيَا فِي الْمَوْتِ)، وتحاصرها عناصر(الوقت/ الحلم/ النبض) من عدم التحقيق والإعاقة، فالوقت والحلم والنبض غير موجودين في عالمها، وهي عناصر للحياة. لتجد عنصر(الريح) رمز التغيير متربصاً بفعله المضارع الدال على الاستمرار(تهز)، الذي يتكرر لأربع مرات متتالية في: (تهز زهر المشمش/ تهز حبل الأرجوحة/ تهز ميلاد الأشياء/ تهز ضفيرة شعر الاحلام).

فالريح علامة تختزل أفقا دلاليا مشبعا بالثورة والإرادة والمقاومة(5). فتهز السكون وتحرك الموجودات. فلها طاقة تحويلية تبعث في الموت دما جديدا والحركة الدائمة التي تتمتع بها تدل على عدم الاستقرار وهز الاشياء(6).

إن (الريح) هذه القوة التي تقابل (القتل) هي التي تعمل بفعلها على هز الأشياء من المادي الملموس بـــ(حبل الأرجوحة) إلى رمز الحياة بــ(ميلاد الأشياء)، والزمن المستقبلي (ضفيرة شعر الأحلام)، لتقف بهذه الأشياء أمام ما وجدته الذات من محاصرة لعناصرها السابقة من( الوقت/ الحلم/ النبض)، وتعيدها الريح بالفعل تهز إلى الحياة.

نلاحظ في النص قوتين الأولى تتمثل بـــ(القتل)، والثانية بــ(الريح)، تتصارعان في أثبات وجودهما، لتكون الذات بينهما تسمع وترى. فالقتل يأتي رمزا للتغييب وفقدان الحياة والقهر والظلم، والريح رمز التغيير والإعادة والثورة.

تلعب في النص الموسيقى الداخلية، إذ تحركه بنغمات خاصة مثل انتهاء الاسطر بحرف (ل) في الكلمات (النصل/ القتل /الظل/ الليل /تطل/ اصل)، والمكسورة كلها ما عدا لام (القتل/ الاسم الخاص بالآخر) و(تطل/ الفعل الخاص بالذات) المحركة بالضم، وكأنها جابهت بين الأثنين بين الاسم للآخر، والفعل للذات في معركة ترنو الى الحركة والتفعيل الإيجابي بالفعل المغير، لا بالاسم الثابت، لأن الفعل من دلالته الحركة خاصة وأنه فعل مضارع .وان كان القتل يحرك الكلمات (القتل/ الظل/ الليل) الدالة عليه وقتامته، فالذات لها (تطل/ أصل /النصل) الكلمات الدالة عليها بفعل عنصر الريح المغير.

تأتي بمقطوعة نغمية في وسط النص قائمة على الايقاع السريع بـ:

لا تَلْقَى وَقْتًا فِي الْوَقْتِ

لا حُلْمًا يُوْرِقُ أَو يَأْتِي

لا نَبْضًا يَحْيَا فِي الْمَوْتِ

إن الايقاع هنا يعتمد على بدء السطر ومنتهاه،وهذا من شأنه أن يعلي ويسرع من الحركة النغمية باستمرار تدفقها، ففي بداية الاسطر تكرار (لا ) الدالة على نفي حدوث الأفعال (تلقى/ يورق/ يأتي/ يحيا) مع وجود كابوس القتل، وفي نهاية الأسطر تكرار الحرف الـ(ت) المكسور في الكلمات (الوقت/ يأتي /الموت) الدالة على أهمية الزمن، وجاءت الكلمات مكسورة للدلالة على الثقل المعنوي والكلامي المترامي فيها، لأن الكسرة أثقل الحركات.

فضلا عن ما يوفره تكرار الأفعال في بدء الأسطر (خذني/ تهز)، وتكرار العبارة (يا هذا القتل)، من اثارة نغمة صوتية خاصة، وجعل الذات بنغمة توسطية بين فعل الأخذ للقتل والفعل تهز للريح، وكأن الفعل تهز للريح يأتي بمحله ليخلصها من هذا الاستسلام العارم الذي تحس به وطلبها الأخذ، فيأتي الفعل( تهز) منبها لخطورة الموقف والقضية، مغيرا كل الاشياء السلبية فتصحو من غفلتها.

 

الهوامش

1- ديوان طائر بلا روح، مريم الترك، مؤسسة الرحاب الحديثة، لبنان، ط1، 2013، ص 96.

2- ينظر: بنيات الصمت وبوابة الريح، د. صالح زياد Althbaiti.com

3- ينظر: دراسة اسلوبية في ديوان (آخر الماء) للشاعر سليمان دغش، عمر عتيق www.m.ahewar.org

4- دراسة اسلوبية في ديوان (آخر الماء).

5- ينظر: دراسة أسلوبية في ديوان (آخر الماء).

6- ينظر: جمالية الرمز الفني في شعر الحداثة. www.startimes.com